اتفق جمهور العلماء على أن شروط الحديث الصحيح خمسة، وهي إتصال السند، وثبوت عدالة الراوي، وثبوت ضبطه، وسلامة السند والمتن من الشذوذ، وسلامتهما ايضا من العلة القادحة.
١- أما الإتصال فقد وقع الإختلاف بين المحدثين أنفسهم في صورة تحقيق شروط الإتصال، وذلك في المسألة المعروفة عندهم بـ “مسألة التلقي” بين الراوي وشيخه، فالإمام البخاري وغيره يشترطون ثبوت اللقاء بينهما ولو مرة واحدة، والإمام مسلم وغيره – بل ادعى مسلم الإجماع على قوله – يشترطون إمكان اللقاء بينهما لا ثبوته.
وعلى هذا فما صححه مسلم ومن تبعه بناء على هذا المفهوم للإتصال، لا يعتبره البخاري صحيحاً، ومن يذهب مذهب مسلم في شرط الإتصال من الفقهاء قد يحتج بحديثٍ اتصالُه كهذا الإتصال ويقول: قد صح الحديث في هذا الحكم، في حين أن غيره من العلماء الذين يذهبون مذهب البخاري يخالفونه ولا يعتبرونه صحيحاً، وبالتالي لا يعتبرونه حجة يستنبط من أحكام فقهية، وكل ما بني عليه من أحكام فهو منقوص عندهم.
ومما يتعلق بدائرة الاتصال؛ “الحديث المرسل”، فالمرسل وهو ما أضافه التابعي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير متصل ولكن هل يضره عدم اتصاله ويخرجه عن دائرة الاحتجاج به؟
ذهب جمهور المحدثين الى أن الحديث المرسل ضعيف غير حجة، وذهب جمهور الفقهاء منهم الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى روايتين عنه إلى أن الإرسال لا يضر فالمرسل عندهم حجة يعمل به.
وتوسط الحكم بين الطرفين الإمام الشافعي فاعتبره ضعيفاً يسيراً فإذا عرض له أحد المؤيدات الأربعة صار حجة عنده.
وعلى هذا فالحكم الفقهي الذي يقول به الأئمة الثلاثة أو أحدهم ويحتج له بحديث مرسل ولم يتأيد بواحد من المؤيدات الأربعة: يخالفه الشافعي كما يخالفه جمهور المحدثين أيضاً.
وليست الأحاديث المرسلة بالعدد اليسير! فقد قال العلامة العلاء البخاري رحمه الله في شرحه على أصول البزدوي:” وفيه (أي في رد المرسل) تعطيل كثير من السنن فإن المراسيل جمعت فبلغت قريبا من خمسين جزءاً”.
بل قال العلامة الكوثري رحمه الله:” من ضعَّف الحديث بالإرسال نبذ شطر السنة المعمول بها”، لكن يقلُّ العدد كثيرا اذا لاحظنا ما يتقوى بالمقويات المسوغة عند الإمام الشافعي.
٢- أما ثبوت عدالة الراوي: فها هنا مهيع واسع جدا ومجال رحب للاختلاف فقد اختلفوا في نوعية العدالة المطلوب ثبوتها:
أ- هل يكتفى بكون الراوي مسلماً لم يثبت فيه جرح فيحكم له حينئذ بالعدالة؟
ب- أو يشترط أن يضاف إلى ذلك ثبوت عدالته الظاهرة فيكتفى بذلك؟
ج- أو لا بد من ثبوت عدالته الظاهرة والباطنة؟
د- كما اختلفوا: هل يكتفى بتعديل إمام واحد؟ أو: لا بد من تعديل امامين لكل راو؟
يضاف إلى الإختلاف في هذه النقاط: الإختلاف في الأمر الذي يصلح أن يعتبر جارحاً مسقطاً لعدالة المسلم، وها هنا دخائل لا مجال لشرحها أو إثارتها فكم أهدرت عدالة رواة لأنهم عراقيون! أو من أهل الرأي! أو أجابوا في محنة القول بخلق القرآن! … وهذه أمور لا يدركها ويتحرز منها إلا من حذق هذا العلم، وحذق تاريخ العلم.
وكثيرا ما أنبه إخواني من الطلبة إلى ضرورة ملاحظة: تاريخ الجرح والتعديل، وفقه الجرح والتعديل، ودخائل الجرح والتعديل، هذا سوى رسومه وألفاظه التي في مطولاته فماذا نقول فيمن يقتصر على معتصراته كـ “التقريب”؟!
ومن يعدله إمام من الأئمة المحدثين أو الفقهاء قد يجرحه إمام آخر من المحدثين أو الفقهاء أيضاً، والرجال المتفق على عدالتهم أو ضعفهم أقل من الرواة المختلف فيهم بكثير.
يضاف إلى هذه الوجوه من الإختلاف: ملاحظة تبدي مجال الإختلاف أكبر من هذا الذي سمعناه وهي أن الراوي الواحد المختلف فيه قد يكون له عشرات الأحاديث فمن مال إلى تعديله احتج بجميع الأحكام المستفادة من مروياته ومن مال إلى جرحه لا يحتج بها.
وهنا يحصل الإختلاف وكل من المختلفين يقرر ويذهب إلى أنه يحتج بـ “السنة” ويطبق ما تقتضيه الأحاديث الشريفة وأنه في اجتهاداته الفقهية والحديثية على منهج المحدثين وقواعدهم وليس باستطاعة أحد منا أن يرد عليه كلامه!
٣- وكذلك الإختلاف في تحقيق الشروط الأخرى للحديث الصحيح، ويحسن التنبيه الى شروط ضبط الراوي، اشترط الإمام أبو حنيفة رحمه الله: استمرار حفظ الراوي لحديثه من حين تحمله له الى حين أدائه إياه دون أن يتخلله نسيان له و هذا شرط شديد، حمله عليه ما شهده من اضطراب الرواة وتصرفهم وبحكم هذا الشرط سيختلف مع غيره في تضعيف بعض الأحاديث وتصحيح غيره لها.
ومن الأخبار المتعلقة باختلاف العلماء في تحقق شروط الصحة والعمل بالحديث: ما رواه الصيمري في “أخبار أبي حنيفة وأصحابه” وخلاصة ذلك: أن عيسى بن هارون جاء إلى المأمون العباسي بكتاب جمع فيه جملة من أحاديث، وقال له: هذه الأحاديث سمعتها معك من المشايخ الذين كان الرشيد يختارهم لك، وقد صارت غاشية مجلسك الذين يخالفون هذه الأحاديث – يريد أصحاب أبي حنيفة – فإن كان ما هؤلاء عليه من الحق: فقد كان الرشيد فيما كان يختار لك على الخطأ، وإن كان الرشيد على صواب: فينبغي لك أن تنفي عنك أصحاب الخطأ.
فأخذ المأمون الكتاب وقال له: لعل للقوم حجة، وأنا سائلهم عن ذلك. فعرض الكتاب على ثلاثة رجال: واحداً بعد واحد، ولم يأتوه بما يشفي.
فبلغ الخبر عيسى بن أبان، ولم يكن يدخل على المأمون قبل ذلك، فوضع كتاب “الحجة الصغير” فابتدأ فيه بوجوه الأخبار، وكيف تنقل، وما يجب قبوله منها وما يجب رده، وما يجب علينا اذا سمعنا المتضاد منها وكشف الأحوال في ذلك، ثم وضع لتلك الأحاديث أبواباً، وذكر في كل باب حجة أبي حنيفة ومذهبه وما له فيه من الأخبار وما له فيه من القياس حتى استقصى ذلك استقصاء حسناً وعمل في كتابه حتى صار إلى يد المأمون فلما قرأه المأمون قال: هذا جواب القوم اللازم لهم ثم أنشأ يقول:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداءً له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً: إنه لدميم
كتبه: الشيخ محمد عوامة