كشف شبهات عقائديةمقالات عقائدية

النقد والتقويم لمنتقد عقائد المدرسة الماتريدية

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 2,641 مشاهدة

بِسمِ اللَّه الرَّحْمنِ الرحيمِ
مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين، وبعد؛

فلما كان الدفاع عن الدين واجباً على كل قادر، وكذلك التمييز بين الصحيح والباطل مما يقوله من ينصب نفسه دالاً على الحق الذي يراه فيه، أو ينصبه غيره ليقوله، والجدال بالتي هي أحسن لا شك أنه واجب لا يجوز لمسلم أن يتخلص عنه إذا كان قادراً عليه، ونقد الكتب والمؤلفات لا شك أنه من هذا الباب، وبيان الصحيح منها من الباطل لا شك في وجوبه. ويجب على الإنسان أن ينصر ما يعتقد أنه الحق، ودَفْعُ ما يعتقد أنه الباطل، سواءا كان هذا الباطل صادرا من مسلم حسن النية والقصد أو من سيء النية والقصد، وسواءا كان هذا الباطل من عالم أو من مدع للعلم وهو في الحقيقة عارٍ عنه وجاهل به. ويندرج في هذا من ينتسب إلى أهل السنة ومن يتبرأ منهم ويظن أنه من الناجين ومن المهتدين.
لهذا كله، ولغيره، رأيت أنه يتحتم عليَّ أن أقيد بعض الملاحظات على الكتاب الموسوم بـِ ” منهج الماتريدية في العقيدة”.
ولضيق الوقت الذي أملكه أخَّرْتُ ذلك مراراً وأياما بل وشهوراً، آملا أن أحصل على زمان كافٍ أقيد فيه بتفصيل ما أريد قوله في هذا الباب، وأعتمد في ذلك على الأدلة والنقول المفصلة، ليكون حجة واضحة بذاته على كل من يقرأه.
ولكن لما طلب بعض الإخوة مني أن أكتب ردا ولو مختصرا على هذا الكتاب دفعني هذا إلى تغيير العزم، والاقتصار على تنبيهات جليلة. وإشارات دقيقة، لا تخلو من استدلالات لطيفة. فما لا يدرك جله ؛ لا يترك كله.
وأنا في ذلك موقن أن الله تعالى لا يترك من هو مخلص النية يريد الاهتداء إلى الحق الصريح إذا خلص نفسه من الشوائب. ولا توفيق إلا من الله تعالى، وهو القوي الحكيم.

نبذة عن الكتاب متعلَّق النقد
هذا الكتاب صادر عن عدم دراية بحقيقة علم التوحيد، وتقليد محض وتعصب شديد، كل هذا منا الآن ادعاءٌ، دليله ما سيأتي من كلام.
وصاحب الكتاب د. محمد بن عبد الرحمن الخميس، سائرٌ على خُطى صاحبه الآخر المشتد في تعصبه وعدم معرفته بكثير من الأمور التي يكتب فيها المدعو بسفر الحوالي، في كتابه المسمى بمنهج الأشاعرة في العقيدة.
وكلٌّ منهما يشترك مع الآخر في صفات أهمها:
– الجهل الكبير بعقائد أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحق (الأشاعرة والماتريدية).
– عدم القدرة على الخوض في العقائد خوض المجتهدين، بل كل منهما لم يخرج لجهله ولضيق أفق عقله عن رتبة التقليد.
– وهما بعد ذلك يقدسان كلام ابن تيمية، ويأخذان ردودهما وانتقاداتهما على الأشاعرة والماتريدية من كلامه، ومعلوم أن ابن تيمية من أشد أعداء هؤلاء، وقد بينا نحن في غير موضع أن ما ينقله ويشرحه من مذهب أهل السنة لا يُرْكَنُ إليه، سواءا أكانت باللفظ أو بالمعنى، وهو من حيث المعنى لا يكاد ينقله عن خصومه كما يريدونه هم، بل يفسره ويوضحه كما يحلو له هو ثم يشرع في التشنيع عليهم بناءاً على نسبة هذا المعنى اليهم. وهذا يستدعي الغاية من العجب.
– وفوق هذا، فهما لما سبق يشتركان في الجهل الكبير بمعنى النصوص الشرعية التي وقع الخلاف في معناها، وبالتالي فلا أحد منهما عنده القدرة على الانصاف، لتلبسه بما يضادُّه.
وتوجد أسباب أخرى غير ما ذكرنا هنا، لم نعرج عليها للاختصار.

منهجنا في النقد
إذا كانت المسألة التي يعترض عليها المؤلف المذكور بينة ولم يكن لاعتراضه وجه، اكتفينا بالكلام المختصر الكافي في دفع شبهته وبيان وجه الحق في المسألة.
وإذا نقل نقلا، فإن سلمناه له بينا المراد من الكلام المنقول، وإلا رددناه عليه وبينا النقل الصحيح.
وإذا احتج بدليل أو نص ناقشناه فيه وبيَّـنَّـا ضعف كلامه وسقم أحواله، وأتينا بالوجه الصحيح للنص، وذكرنا الدليل الصحيح بإشارة أو عبارة.
والتفسيرات الباطلة نردها عليه، ونبين الصحيح.
والتهويلات؛ في حال كون المسألة مُحتملةً للخلاف، نقلِّلُ من شأنها، ونهوِّنُ على القارئ الأمر، بإيضاح المقام الصحيح للمسألة.
إلى غير ذلك مما ستلاحظه.
واعتمادنا الأول بعد ذلك هو في إرجاع القارئ إلى المصادر الأصلية لعقائد أهل السنة والجماعة أهل الحق، ليتضح له الحال، ويتبين له الحق من الضلال.
وسنذكر كلامه قبل الرد عليه وذلك إذا كان الرد موجها عليه مباشرة ولا يشترك فيه مع غيره ؛ دون تلبيس، فإنه وسيلة الجاهل الضعيف،وإلا اكتفينا بذكر المعنى متعلَّقِ الرد..
الشروع في نقد ما في هذا الكتاب

أولا : كلام عن الفطرة

في صفحة (5) يقول : ولو أن الناس تُرِكوا دونما مؤثرات خارجية، لنشأوا كلهم على الإسلام، إذ هو الفطرة الصحيحة. أهـ.
ثم قال في صفحة (6) : فالإنسان ليس بحاجة إلى قواعد علىالكلام والى استدلالات الفلاسفة والنظار وغيرهم حتى يتوصل إلى الاقرار بوجود الله تعالى، فإن هذا لشيء جبلت عليه النفوس وفطرت عليه العقول. أهـ.
يريد بهذا الكلام أن يكرر ما هو معهود ممن هو مثله من أنه لا حاجة للناس إلى الاستدلال ولا حاجة لهم إلى علم الكلام، ويلجأ هو وأمثاله في بيان عدم الحاجة إلى القول بأن وجود الله تعالى أمر فطري مفطور عليه الإنسان، بل يقولون أن كل العقائد هي مفطورة في الإنسان ولذلك تراهم يستدلون على عقائدهم بالفطرة ؟!
ولذلك تراهم يُرجعون إلى الفطرة جميع عقائدهم، عقائد التشبيه والتجسيم من كون الله تعالى في جهة وأنه يتحرك وأن له حيزا إلى غير ذلك، ويدعون أن كل ذلك معلوم بالفطرة.
ويستدلون عادة بقوله تعالى ” فطرة الله التي فطر الناس عليها”، وبقول الرسول عليه الصلاة والسلام ” ما من مولود الا يولد على الفطرة، أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه… “، ولا يذكرون تكملة الحديث كما سنذكرها لأنها تنقض عليهم ما يريدون إثباته.
ويوردون الحديث القدسي ” وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وانهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.”، كما فعل كاتب هذا الكتاب.
ونحن سوف نناقش هذه الجهات باختصار بما يكفي اللبيب والعامي.
فأما معنى الفطرة ؛ فقد قال ابن فارس في المقاييس : فَطَرَ : الفاء والراء أصل صحيح يدل على فتح الشيء وإبرازه.
ثم قال : والفطرة : الخِلقةُ.أهـ
وذكر الراغب الأصفهاني هذا المعنى في المفردات، ثم قال: وفطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق، وهو ايجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعلٍ من الأفعال.أهـ
فالفطرة في اللغة معناها : الخِلقةُ على هيئة معينة.
وهذا المعنى اللغوي هو أصل المعنى المراد في الحديث والآية، فالله تعالى خلق الناس على هيئة معينة، وأودع فيهم من القوى ما لو استعملوها استعمالا صحيحا سليما لأدى بهم هذا الاستعمال إلى الدين الحق الذي هو الإسلام. ولهذا قال الاصفهاني : ” وفطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان.”أهـ
فهي إذن القوة المودعة – بلا تأثير خَلقيٍّ للعبد – من الله تعالى هبة وتفضلا، يخلق الله عند استعمالها استعمالا صحيحا نتائجها من العلم بالله تعالى وبدينه الحق وغير ذلك.
وقد أوردت نصوصا كافية في هذا المعنى في بحثي المختصر في معنى الفطرة.
وأما الحديث الذي ذكره هذا المؤلف ويذكره معه أصحابه. فلطالما تمنيت أن يشير أحدهم إلى الرواية الكاملة له ويذكرها، ويفسره تفسيرا صحيحا بملاحظة جميعه لا بملاحظة بعضه كما ذكره هنا، ولكن إلى هذا الزمان لم أجد أحدا منهم يورده كاملا، وما ذاك الا لأنهم يعلمون أن آخر الحديث يرد على ما يريدون هم اثباته بما يذكرونه منه ويقتصرون عليه.
وقد ذكرنا نحن هذا الحديث كاملا في بحث الفطرة المذكور، وأشرنا إلى أقوال العلماء فيه، ونكتفي هنا بذكر ما تقوم به الحجة، ففي نهاية الحديث كما في بعض الروايات الصحيحة التي رواها الامام مسلم وغيره كالبيهقي، وذكرها الامام السيوطي في الجامع الصغير.. يقول الرسول الكريم بعد قوله ” يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، “فإن كانا مسلمين فمسلم”. هذه الزيادة التي لم أرَ أحدا من اصحاب هذا المؤلف المشار اليه يذكرها، وهي تنص صراحة على أن الطفل كما يتأثر بوالديه ويلحق بهم في الحكم أن كانا نصرانيين أو يهوديين أو مجوسيين، فكذلك يتأثر بهما ويلحق بهما في الحكم أن كانا مسلمين، وهذا يدل على أن الطفل في الأصل لا يقال له مسلم أو كافر، ولكن الحكم عليه بالكفر أو الإيمان أي الإسلام، إنما هو حكم تبعي إلحاقيٌّ لا أصلي، أي أن حاله يلحق بحال والديه أو الدار التي وجد فيها أو غير ذلك، مما هو مذكور في كتب الفقه.
وعندي أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى استدلال فإن ما يدَّعونَ أنه مفطور في الناس من العلم بوجود الله تعالى وصفاته، لا يشعر به أحد منهم ولا من غيرهم في أنفسهم عندما كانوا أطفالا، وكذلك لا يشعرون به في الأطفال الذين نراهم ويرونهم، وإنما يثبت هذه العلوم من يثبتها ويتوهم وجودها في الفطرة عندما يخلق الإنسان ويخرج من بطن أمه لفرط تعصبه وضيق عقله. وأما ما قد يرونه من بعض الناس عندما يقولون بما يقول به هؤلاء من عقائد وأقاويل، فإنما هو أثرٌ لتقليده غيرَه، فلا أحد من الصغار ولا الكبار من توجد معه هذه العقائد بل ولا غيرها من العلوم عندما يخرج من بطن أمه.
لأن الإنسان يخرج إلى هذا العالم عاريا عن أي علم، وقابلا لأن يتعلم كما هو مذكور في نص الآية التي سنذكرها.
وأيضا فهذه الأمور المفطورة كما يدعي هؤلاء في الناس منذ خلقهم ! هي لا شك علومٌ توجد معهم منذ الخلقة والولادة على ما يدعيه هؤلاء !
وهذا باطل، كيف يكون صحيحا والله تعالى يقول في كتابه العظيم “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا”. فأنت ترى الآية قد نفت وجود أي علم، والنفي المسلط على النكرة يفيد العموم كما تعلم، فهذا يستلزم عدم وجود أي علم في الإنسان حين ولادته. وهذا نص صريح على عدم وجود أي نوع من انواع العلوم في فطرة الإنسان، بل كل ما فيه من هذا الجانب إنما هي قوى قادرة على الوصول إلى العلوم والادراكات.
وقد ناظَرْتُ احدَهم في هذا بعد أن ادعى نفس الادعاء المذكور فقلت له : هل هذه الامور التي تدعيها هي مخلوقة مع الإنسان منذ الولادة ؟
فقال: نعم.
قلت: هل هي علوم معينة بما تدعيه من وجود الله تعالى وغير ذلك؟
قال: نعم.
قلت، فأنت تقول بأن الإنسان يُخلق معه علومٌ وهو خارج من بطن أمه ؟!
قال : نعم !
قلت: فهذه مخالفة صريحة لنص الآية ” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا “.
فسكت، وبُـهر، واعترف بالغلط.
فقلت له: فالفطرة المذكورة لا يمكن أن تكون من جنس العلوم بنص الآية، فلزم أن تكون من قبيل الشروط أو الاسباب للعلوم، والقابلية.
وهذا هو ما نص عليه المحققون من العلماء المتقدمين والمتأخرين.
وهذه الفطرة من شأنها أن تكون مائلة إلى الدين، بالقوة، لا بالفعل. وهذا هو معنى قوله تعالى ” حنيفا مسلما “، فالأصل أن يكون الوصف مقيدا، لا كاشفا لأن هذا هو المستلزم لزيادة الفائدة، لا مجرد تأكيدها، خاصة في حال عدم وجود منكر، فالكل يعلم أن إبراهيم كان حنيفا، فالزيادة بالوف هنا يفيد التقييد، لا مجرد الكشف، والتقييد نوع من التخصيص، فالحنيفية أعم إذن من الإسلام، والأعم لا يساوي الأخص كما هو واضح، فالناتج إذن أن الحنيفية ليست هتي عين الإسلام، والحنيفية هي الفطرة، فلو كانت الحنيفية هي نفس الإسلام لما جاز وصفها به. ولكنها تستلزمه، فوصفت به،والإسلام غيرها، ولكنه لازم عنها، وغير متعارض معها.
وظاهر كلام المؤلف المذكور، أن الفطرة هي علوم توجد مع الإنسان، وظاهرٌ أن هذا باطل.
فإن قصد أن الفطرة هي القابلية والتأهل لالتزام الدين والأخذ به، فلا نخالفه في ذلك، وليس ذلك ما يقصده. ولكن نخالفه أنها هي فقط كافية مطلقا للدلالة إلى الدين، بل نقول إنه يلزمها قواعد عقلية أو وجدانية قلبية، وهي تكون منبعثة عنها بالارادة الإنسانية الجازمة المتوجهة نحو اقتناص العلوم والمعارف، وتكون مقوية حارسة للفطرة.
وبهذا يثبت أن البحث والنظر لازم لا يمكن أن ينفك الإنسان عنه، وهو المقصود بكلام الأعرابي الذي سئل عن كيفية معرفته لله تعالى، فاستدل لهم بالكون وعظمته وظهور الحكمة فيه. وقد ذكر المؤلف هذه القصة، وهي دليل عليه لا له.
وبهذا نكون قد أشرنا إلى نقاطٍ كافية ترشد الطالب إلى الحق في هذه المسألة.

ثانياً :إشاعات تراجع الأشاعرة

وأما ما ذكره بعد ذلك من كلام حول تراجع بعض العلماء عن علم الكلام، وشكهم وترددهم في حياتهم !!
فهذا كلام باطل وقد أشبعنا الكلام عليه في أكثر من موضع، وقد أفردت لكل واحد من العلماء الذين نسب اليهم هذا الأمر مقالا ورسالة توضح حالهم وتهافت ما نسب اليهم، ومقاصد من نسب اليهم ذلك. فلتراجع.

ثالثاً : الموقف من علم الكلام

لما لم تكن المعارف والعلوم مخلوقة في الإنسان منذ الولادة، وكانت العلوم الدينية هي أكثر العلوم فائدة للإنسان، ولا يتم صلاح الإنسان الا بها، فقد لزم ضرورة أن يوجد علم يبني الأدلة القاطعة على هذه العلوم، ويرد الشبهات والتشكيكات التي يوردها الملحدون ومنكرو الاديان والمبتدعة المنحرفون عن النهج الصحيح، ولا يستطيع أي إنسان أن يدعي أن الفطرة تكفي في كل ذلك،فإن هذا يدل بكلامه على عمق جهله، وهذا يكفي في سقوط الكلام معه.
ولو كان الأمر كذلك، لما تكاثرت الآيات في القرآن الكريم التي تحض الناس على الالتفات إلى دقيق صنع الله تعالى والى التفكر في السموات والأرض، والى الإشارات البليغة في مناقشة الكفار واليهود والنصارى وغيرهم.
والعلم الذي يؤدي هذه الوظيفة في الدين الإسلامي، وعند المسلمين هو العلم المسمى بعلم الكلام أو علم التوحيد أو علم أصول الدين أو غير ذلك من الأسماء.
ولا يستطيع أحد أن ينكر إنكارا صحيحا وجه الحاجة إلى مثل هذا العلم الجليل.
وقد يتم النقاش والجدال حول أحد الأدلة أو بعضها المستخدمة في هذا العلم والواردة في بعض الكتب فيه، أو بعض الآراء التي قال بها بعض العلماء في هذا العلم. ولكن أن يتم القدح في أصل الحاجة إلى هذا العلم فهذا هو الأمر الغريب الذي لا يقول به الا كل جاهل.
وأن نخالف بعض العلماء في بعض ما قالوا، فهذا لا شيء فيه، وإنما هو من باب الاجتهاد، لأن الإنسان يخطئ ويصيب، ولكن لا شك في وجود قواعد راسخة يشترك فيها المسلمون جميعا لا يمكن لأحد أن يخدشها.
ولا أشك أن صاحبنا هنا، الذي يقدح في علم الكلام لا يدري من مباحثه شيئا، ولا يعرف الا كلمات التقطها من هنا ومن هناك. والجاهل بالشيء هو أول من يعاديه، لأنه يتصور كل المفاسد فيه!
ويجب أن يكون معلوما أنه لم يوجب أحد من العلماء المعتبرين على عوام الناس أن يعرفوا الله تعالى على طريقة المتكلمين ونصوصهم صريحة منتشرة في هذا الأمر في كتبهم، بل الواجب عليهم أي على العوام هو معرفة الله تعالى من غير تحديدٍ لوجه الدليل شرط أن يكون صحيحا ولو إجمالياً،كقول الأعرابي ” البعرة تدل على البعير والسير يدل على أثر المسير، أسَماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير “.
وقد نص العلماء في كتبهم علىأن مثل هذا الاستدلال الاجمالي كاف في هذا الباب، وكذا في باقي المسائل في علم التوحيد.

رابعاً: إشارة إلى خدمات المتكلمين للدين

هناك عبارات يكثر بعض الناس من تردادها، وهي أن المتكلمين اتبعوا الفلاسفة، وأنهم قلدوهم في العلوم. ولعمري أن هذه تهمة عظيمة تدل على جهل عظيم بالفلسفة وعلى الكلام!
فإن أول الناس الذين بينوا عوار الفاسد من المذاهب الفلسفية هم أصحاب علم الكلام، وإن الذين وقفوا في وجه الملحدين من فلاسفة الشرق والغرب وكل من ادعى الحكمة وخالف أمرا من أمور الدين، هم المتكلمون.
وكتبهم دليل على ذلك.
وقد شهد القاصي والداني أن علم الفلسفة قد اندحرت جيوشه في الشرق بأثرٍ من هجوم المتكلمين عليهم.
وأحل المتكلمون نظريات خاصة بهم وأدلة سديدة استندوا في اكثرها إلى ما فهموه من النصوص الشرعية، خصوصا في مجال الالهيات.
وأما المنطق وعلم المقولات ومناهج الاستدلال وطرق التفكير الصحيح فلا تسل عن مقدار وجلالة الخدمات التي قدمها المتكلمون، حتى صارت نظرياتهم وآراؤهم هي الأساس الذي استند اليه الغربين في إقامة دعائم العلوم التجريبية الحديثة، وهذا لا ينكره أحد عنده شيء من العلم.
وأما النظرة في حقيقة الوجود، فبالله أسألُ هذا المدعي أن يدلنا على شيء ساير فيه المتكلمون أهل الفلسفة في ذلك ؟ الا أن يكون أمرا صحيحا لا يجوز عقلا ولا شرعا إنكاره، وإلا فإن الأصول الباطلة التي بنى عليها الفلاسفة أو لنقل بعضُهم أقوالَهم، قد ردها المتكلمون من الملة الحنيفية.

خامساً: حول التأويل والظاهر

عندما يقول أهل السنة وأهل الحق وهم الأشاعرة والماتريدية، أن بعض الناس مجسمة، فهذا لا يعني على الاطلاق أن النصوص التي اعتمد عليها هؤلاء ظانِّين أنها تؤيد ما يقولون، هي الموحية لهم بأفكار التجسيم.
ولذلك فإنهم عندما يردون عليهم ويفندون أقوالهم ويبطلون آراءهم، فهم لا يردون على القرآن والسنة كما يدعي هؤلاء المجسمة.
ولكنهم إنما يبطلون ما فهمه هؤلاء المجسمة من الكتاب والسنة ويبينون أن هذه الأفهام ليست مأخوذة من الكتاب والسنة، وأن ما يدعي هؤلاء أنه ظاهر النصوص الشرعية، فإنما هو ما ظهر لعقولهم أي لنفوسهم. ونقول أن هذا المعنى الباطل قد ظهر لنفوسهم ولم يظهر لنا، فلا بد أن يكونوا قد اتبعوا أساليب في الفهم تخالف ما اتبعناه، وإلا لو كان الظهور لمجرد الفطرة لكانت فطرتهم تستلزم التسيم وفطرتنا تستلزم التنزيه لنفس الفطرة، ومعلوم بطلان ذلك، إذن الوسائل التي اتبعوها في الفهم هي التي أدت بهم إلى فهم واستظهار هذا المعنى المؤدي إلى اعتبار الله تعالى جسما ومحدودا، ونسبوا فهمهم هذا إلى النصوص الشرعية، وهذا باطل، فلو كانت النصوص الشرعية تستلزم لذاتها هذا المعنى، لفهمه كل واحد ممن نظر فيها، وليس الأمر كذلك. ولذلك نص العلماء على أن معاني الجسمية ظهرت لأوهام المجسمة، فنسبوها إلى النصوص الشرعية، فتراهم بعد ذلك يتهمون كل من ينفي الجسمية والحد عن الله تعالى بمخالفة النصوص، وهو إنما يخالف ما نسبوه هم إلى النصوص الشرعية، ولا يسلم لهم بذلك. فنحن نُبطل أن تكون نفوسهم قد اتبعت الطرق السليمة في التفكير وفي فهم النصوص. وإلا لما امكن لهم أن يصلوا إلى مثل هذه الآراء الباطلة من القول بالحد والجسمية والأعضاء والحركة والجلوس وحلول الحوادث في الذات الإلهية، وغير ذلك من الآراء الباطلة. وذلك لأن الإنسان العاقل لا يصل إلى الآراء الباطلة.
وأهل الحق في نفس الوقت يقولون أن من يرد ما ثبت بالنص أو بالقطع أنه من الشرع فهو كافر. ولذلك لا يجوز أن ينسب اليهم أحد أنهم يخالفون النصوص أو يردون الأحاديث بعد أن علموا أنها ثابتة.
وأهل الحق لا ينسبون إلى احد من المخالفين من أهل الإسلام أنه يرد ما علم كونه من الدين بالضرورة، أقصد أهل الإسلام المعتبرين. ولذلك فلهم في تكفير الفرق أقوال، أرجحها عند الجمهور منهم عدم التكفير إلا بما وضحوه من مقاييس ذكروها في كتب الفقه وأصول الدين.
ونحن نرى في نفس الوقت أن المجسمة من المنتسبين إلى الإسلام يدعون أن الأشاعرة والماتريدية وهم أهل السنة علىالحقيقة، يخالفون الثابت من النصوص بالعقل، ويردون النصوص وسائر النقول اذا خالفت ما يقولون به هم، فيصورونهم كالملحدة والكفار الذين لا يعتدون بالنصوص الدينية، والأمر بخلاف هذا قطعا. وهؤلاء يكذبون على أهل الحق كعادتهم في كثير من كتبهم.
وسوف تتضح لك بعض الأمثلة على ما نقول هنا فيما يلي إن شاء الله تعالى.

سادساً: أهل السنة والمجسمة

يقول هذا المؤلف في صفحة 9 :”وقد هالني ادعاء بعضهم أن أهل السنة والجماعة هم الأشعرية والماتريدية، ورموا السلف بالتجسيم والتشبيه”.
كذا قال، وكونه قد استغرب لماّ سمع هذا الكلام، يدل استغرابه هذا على مدى الجهل الذي هو واقع فيه بحيث يدفعه إلى الاستغراب من أمر أصبح مشورا في كتب عامة اهل العلم. وهذا ينبئك على مقدار وضحالة المعلومات التي يملكها هذا المستغرب في هذا الموضوع الذي يتصدى للكتابة فيه.
ولنا على كلامه بعد ذلك ملاحظات.
أما أن البعض ؟! هم من ادعى أن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة فهذا باطل، فمن ادعى ذلك ليس البعض فقط، بل هم جماهير أهل السنة، وجماهير العلماء من المسلمين على الاطلاق.
ونحن هنا لا نريد أن نعدد أسماء كبار العلماء من الأشاعرة أو ممن يوافقونهم في العقائد، فإن هذا الأمر أشهر من أن يذكر هنا، بل أن أغلب الفحول والعلماء من أهل الإسلام لا يخالفون الأشاعرة الا في بعض المسائل التي ينتمي معظمها إلى فروع الدين لا إلى أصوله. وهذا يعلمه من عنده أدنى إنصاف ويقول به. واما عند من اصبح الدين كله عنده أصولا، حتى سحب هذه الأصولية على ما قال به هو من الأقوال التافهة فإنه لا يدري ما هو المقصود من الأصول والفروع.
ويكفي لمعرفة ما قلناه الرجوع إلى كتب طبقات العلماء وتراجمهم من المتقدمين والمتأخرين كمثل ما قاله ابن السبكي وابن عساكر وابن حجر والسخاوي والقاضي عياض وطاش كبرى زاده ونجم الدين الغزي وغيرهم كثير.
أما ما ادعاه من أن أهل الحق رموا السلف بالتجسيم، فقوله هذا تلبيس، فإن كلمة السلف إذا أطلقت أريد بها أهل القرون الثلاثة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، فهل يوجد أحد من الأشاعرة أو الماتريدية رمى هؤلاء بالتجسيم ؟؟!
إذا لم يوجد وهو لا يوجد ولن يوجد، فكيف أجاز هذا الرجل لنفسه إطلاق مثل هذا القول، إلا لأنه متعصب مشتد في غلوِّهِ !
وإذا قصد أنهم قالوا أن طائفة ممن وجد في زمان السلف الصالح هم مجسمة، فهذا صحيح، وهو لا يقصد هذا المعنى. فقد وجد فيهم الخوارج ومن قال بنبوة الامام على ابن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، بل منهم من قال بألوهيته، رضي الله عنه،ووجد المعتزلة في زمان السلف، ولا يستطيع أن ينكر هذا منكر، كما وجد الجهمية والجعدية وغيرهم ممن عرفنا عنهم الضلال في زمان السلف الصالح.
والحق أن الأشاعرة والماتريدية إنما رموا بعض من ادعى التمسك بظواهر النصوص من القرآن والسنة، وهو على ما هو عليه من شدة الجهل والمكابرة مع عدم الانصاف، رموا هذه الطائفة بالتجسيم، وكلامهم صحيح في نسبة هؤلاء إلى التجسيم.
ويحاول المجسمة في كل زمان ومكان التمسح بنصوص الكتاب والسنة وإلصاق المعاني الباطلة بهما إلصاقاً بلا دليل، وإظهار التقوى والورع واللين وحسن الأخلاق، وهم عارون عن ذلك كله. وأشهر دليل على ذلك ما نراه ممن ينتسب إلى السلفية في زماننا هذا، وهم أتباع وفروع الكرامية والمجسمة ممن انتسبوا إلى الإمام أحمد وهو منهم براء.
والحق أن الأشاعرة والماتريدية هم المدافعون عن عقيدة أهل السنة والجماعة على مر التاريخ والأزمان إلى هذا الزمان، ولا يجهل هذا الا من لا اعتبار له أو حاقد متعصب مُغَرَّرٌ به.
وقد قسم مؤلف هذا الكتاب ما ذكره إلى مباحث ومسائل، وسنتابعه وننقده فيه مسألةً مسألةً.

المبحث الأول
أ- مصدر التلقي عند الماتريدية
قال مؤلف الكتاب أن مصدر التلقي الأول في معظم ابواب التوحيد هو العقل دون النقل، وعلل ذلك بقوله : لأن الأدلة العقلية عندهم قطعية اما السمعية فإنها هي ظواهر ظنية. أهـ
كذا وضح مذهب القوم. وهذا العرض منه لمذهبهم يدل علىمعرفته الناقصة الملفقة لما يقولون، هذا إذا أحسنا فيه الظن.
ولما كثر الكلام في هذه المسألة أي مسألة العقل والنقل وموقف الأشاعرة والماتريدية – أهل الحق – منهما، وصار الكلام فيها مكررا فإننا سنوضحه هنا باختصار كاف منبهين على أصول المعاني، لا سيما أننا قد فصلنا فيها في أكثر من موضع في ما كتبناه من الردود والكتب في العقائد وأصول الفقه.
وأما هذا المؤلف فإنه اتخذ سبيل التلبيس كعادة أصحابه، فأطلق القول عليهم بأنهم يقولون أن العقل هو مصدر التلقي في معظم العقائد، وظاهر كلامه أنهم يأخذون العقائد من حيث هي دين وشرع وملة من العقل، ويوجبون ذلك بحيث يترتب العقاب والثواب على ذلك، وهذا القول باطل كما هو معلوم من نصوصهم في كتبهم المشهورة.
فالذي يقولون به إنما هو أن العقل آلة لمعرفة الوجوب الثابت لله تعالى، فهو كاشف لا مثبت، والماتريدية خصصوا الكلام في أن العقل يدرك ثبوت وجوب معرفة الله تعالى خاصة. ولهذا قال الامام البياضي في إشارات المرام صفحة 75:
“العقل آلة لمعرفة الوجوب الثابت لله تعالى ولمعرفة الحسن اللازم لا موجب كما قالت المعتزلة”.
ثم قال: وهو معتبر وآلة لمعرفة ذلك بدون السمع. أهـ

فأين هذا الكلام من كلام هذا الكاتب الذي لايدري في أي موضوع يتكلم وفي أي بحر يغوص.
وهذا الكاتب يريد أن ينسب إلى الأحناف الماتريدية أنهم يقولون أن العقل هو الذي يملي علينا الدين لا الشرع، وهذا القول ليس ما يذهبون إليه، فانتبه لذلك، وهو يقصد بذلك أن يقدمهم إلى القارئ على أنهم يقدمون العقل على النقل، ويهملون النقل.
ثم انظر إلى سذاجته في التفكير وفي العرض وإلى تلبيسه عليهم وهو يقول: إن السبب في القول الذي يقولون به – على زعمه – هو أنهم يقولون أن العقل دلائله قطعية أما السمع فدلائله ظنية.
ولا أرى هذا إلا سخافة في تأصيل المسائل وفي بيان حقائق المذاهب. فلا علاقة أصلا للمسألة الأولى بالثانية، بل هي مسألة أخرى، وذلك أن الأخذ بما هو أخذ يتضمن التدين والإذعان والخضوع، وهذا الأمر لا يتوقف فقط على كون المأخوذ قطعيا، بل يمكن أن ينبني أيضا على مجرد كونه ظنيا، والشرط في الأخذ بهذا المعنى هو كون مصدر الأخذ هو الله تعالى أو الرسول عليه السلام، ولا يهم بعد ذلك كون المأخوذ قطعيا أو ظنيا، كغالب الأمور التعبدية. ولكن العقائد اشترط فيها كونها قطعية لما لها من محل كبير في الدين، ولكونها أصولا يقوم الدين عليها. وزيادة شرط القطع في العقائد، لا يستلزم عدم الأخذ من الله تعالى. لأن القطع يتحقق أيضا في المنقول من الشرائع، ولكن اشتراط كون المأخوذ منه هو الله أو الرسول لكي يعتبر تدينا، هو إبطال لاعتبار مجرد العقل في التدين، كما هو معلوم في أصول الدين، وهذا هو المعبر عنه عند علماء أهل السنة بأنه لا حكم إلا لله تعالى، وأنه لا حكم للعقل، يقصدون بالحكم الحكم الشرعي المأخوذ للتدين.
ثم هل يجهل هذا الكاتب أن المحققين من الأشاعرة والماتريدية قالوا بأن النصوص والنقول الشرعية بعضها يفيد القطع وبعضها يفيد الظن، وذلك حسب قوة النقل المتفاوت من المتواتر إلى الآحاد. لا أظن أن أحدا يجهل هذا الأمر، لأنه من الوضوح بمنزلة الشمس، ولكن هو الزيغ عن طريق الرشاد والحق، وهو التلبيس على عامة الناس الذي يوجه كتابه هذا اليهم.
وقد قرر أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية قبل أن يأتي مشايخ هذا الكاتب المفتون، أن النقل الصحيح الثابت المعنى لا يمكن أن يتعارض مع البراهين العقلية.
ثم إنه لم يقل أحد منهم أن الأدلة العقلية كلها قطعية، ولذلك اهتموا بترتيب مراتب الحجج وبيان القوي منها والضعيف سواء في كتب المنطق أو في كتب علم أصول الفقه وعلم التوحيد.
وأما القاعدة التي يكثر هؤلاء المجسمة في هذا العصر من الكلام عليها وي ما يُطلق عليه اسم ( القانون الكلي ) فقد تكلمت عليه في غير موضع ووضحت معناه بحيث لا يخفى على أحد.
وهذا الكاتب الساذج قد اعترض على القانون الذي ذكره أهل السنة، ثم أعاده بمعناه في آخر كلامه، تماما كما فعل زميله الآخر سفر الحوالي في كتابه المتهافت الذي أشرنا اليه في أول الكلام.

ب- حكم تأويل النقل
أما مسألة التأويل، فهي أظهر من أن تحتاج إلى توضيح، ونحن لا نتكلم مع هذا المدعي فيها هنا بعد أن تكلم عليها فحول العلماء من المتقدمين والمتأخرين، وأجازوا التأويل بشروطه المذكورة في كتبهم.
والتحقيق في الدافع الذي يدفع هذا الكاتب وأمثاله إلى الكلام في هذه المسألة، هو كما يلي:
ان هؤلاء عبارة عن بقايا فرق المجسمة والكرامية، وإحياء لهم في هذا الزمان، وهم لا يهتمون من علم التوحيد بأكثر من نسبة الحد والجهة والمكان والأعضاء وغير ذلك إلى الله تعالى، ولما كانوا لا يملكون من العقول والنفوس الصافية المخلصة ما يؤهلهم للدفاع عن قولهم بأدلة معتبرة، لجأوا إلى القدح في كل وسيلة يستخدمها جماهير المسلمين مثل النظر العقلي وأساليب اللغة المختلفة وغير ذلك، ومن هذه الأساليب التأويل الذي هو فرع في إثبات المجاز والاستعارة والكناية وغيرها من أساليب اللغة العربية الأصيلة في البيان. قدحوا في هذا كله ليتمكنوا بعد ذلك من أن يثبتوا ما يريدون إثباته مما يتوهمون أنه ظواهر نصوص شرعية.
والسلف لم يثبتوا كيفيةً أصلا ويفوضوا العلم بها إلى الله تعالى،بل لم يتكلموا أصلا في هذه المسألة، لأنهم أمرُّوا النصوص لوضوحها كما جاءت، وهذا هو مذهب التفويض الذي قدح فيه هذا الكاتب بعد أن صوَّره تصويرا باطلا، فقال إنهم يمرون بناءا على التفويض على النصوص التي فيها الخلاف كآية الاستواء وآية اليدين وغيرهما كما يمرون على الحروف المقطعة، وشتان بين هذا القول وبين ما يعتقده أهل السنة من مذهب التفويض حيث أجمعوا كلهم على أن التفويض إنما هو تأويل إجمالي والتأويل تفصيلي.
وهؤلاء الذين ينتمون إلى السلف فى هذا العصر يُقَوِّلونهم ما لا يقولون، وينسبون اليهم الفاسد من الآراء والمعانى، لا لشىء إلا لأن أوهامهم صورت لهم أن هذا هو الحق والمذهب الصحيح وهو فى الحقيقة قول فاسد مبتدع لا دليل لهم عليه قائم بذاته إن هى إلا أقاويلهم وادعاءاتهم وتهويلاتهم.
السلف لم يقولوا أن الاستواء معناه الجلوس والاستقرار، ولم يقولوا أن الله فى مكان أو جهة وله حد من جميع الجهات وهو يتحرك بالانتقال من حيز إلى حيز؛ وأنه تقوم به الحوادث والتغيرات وأن خلقه يؤثرون به وأنه ينفعل منهم وبهم. الى غير ذلك من الترهات. وأما عقائد أهل السنة أهل الحق فهى معروفة معلومة عند كل من له عقل.

ج- علم الكلام، الموقف منه
الموقف من علم الكلام، هذا الموقف الذى ينسبونه إلى السلف وهو موقف الرد التام والتبديع والتفسيق. بل التكفير فى كثير من الأوقات.
هذا الموقف هو ضحكة المتقدمين والمتأخرين، وهو السوط الذى يرهبون به كل من يقترب من علم الكلام.
والحقيقة أن فحول العلماء من أهل الإسلام، لا أقول الأشاعرة والماتريدية، بل جميع من انتمى إلى الإسلام، تمسك بهذا العلم واتبع مناهجه، وكل فرقة وطائفة لها إبداعاتها فيه، وأهل السنة – الأشاعرة والماتريدية – هم باعتراف الجميع وصلوا إلى أعلى الدرجات التحقيقية فيه.
وهذا العلم، لا يخلو إما أن يكون حقا أو باطلا. فإن كان باطلا، فلنقل أن جماهير علماء المسلمين تمسكوا بالباطل وهذا مستحيل وإلا فهو حق فى ذاته.
وأما من قدح فيه من الأولين، فإنما كان قدحه متوجها على من تكلم فيه وغلط، ولا يمكن أن يكون قادحا في من تكلم فيه وأصاب وإلا وجب ردُّ قدْحِه وجرحه كائنا من كان.
وعلم الكلام فى حقيقة الأمر، هو بحث عن الأدلة اليقينية العقلية والنقلية التى تدعم قواعد الدين.
فهو ليس عبارة عن كلمات جامدة، ولا أحكام متعنتة ولا تعصبات عمياء.
بل هو بحث واجتهاد وابتكار. بل لا نجد فى علم من العلوم الإسلامية ما يبرز الهوية الإسلامية مثلما نجد فيه.
ولا يقدح فى هذا العلم على الإطلاق إلا كل جاهل، أو غير عالم بما فيه.
ولنا كلام طويل في هذا المبحث في أكثر من موضع.
وهل يستطيع أحد أن يدعي أن أحدا غير المتكلمين تصدى للفلاسفة.
هل سمعت عن حشوي أو مجسم تصدى للرد على نظريات الملحدين الكفار، وغيرهم ممن يقدحون في أصول الدين وفروعه، سواءا في العصور القديمة أو الحديثة.
بل نحن في هذا الزمان أشد ما نكون حاجة إلى هذا العلم وإظهاره وإبراز محاسنه وتشجيع الأذكياء من الناس على التمسك بما فيه، والخوض على قواعده ونشر الدين والدفاع عنه بناءا على ما فيه.
ومن يدعي أن المتكلمين قد قلدوا الفلاسفة من اليونان والهنود وغيرهم، فهو جاهل لا يعي ما يقول. فإن الناظر في كتب هؤلاء والعارف بما ذكره المتكلمون يعلم أنه لم يوجد نقد عقلي قوي ورد للفاسد من آراء البشر الا في كتب المتكلمين، كل هذا بالحجة والتدليل، لا بالصراخ والعويل!
المبحث الثاني
بيان عقائد الماتريدية إجمالا

أ- الاستدلال على وجود الله: من المعلوم أن علماء المسلمين، وفي مقدمتهم الأشاعرة والماتريدية قد اتبعوا كثيرا من الطرق في إثبات وجود الله تعالى والاستدلال على صفاته الجليلة. وهم لم يحصروا طرق الاستدلال في عدد معين بل أن حصروه فإنهم يحصرونه كما تقتضيه الأدلة بجهات معينة، كالاستدلال على وجوده تعالى من جهة إثبات أن العالم ممكن، أو الاستدلال على ذلك من جهة كون العالم حادثا، أو من جهة الاحتياج الكائن في العالم، أو من جهة الحكمة الظاهرة فيه، وهكذا.
ولكل جهة من هذه الجهات صور عديدة متكاثرة لا تنحصر تحت عدد.
وقد اشتهر من بين الأدلة الكثيرة التي حققها أهل السنة عدد معين من الادلة، كدليل الحدوث المعلوم بصورته المعهودة، وهي الاستدلال على وجود الله تعالى وصفاته بإثبات أن العالم حادث، وهذا يتم بأشكال عديدة من القياس، ومن مقدمات متعددة متغايرة، ولكنها غير متضادة ولا متنافرة، وقد اشتهر من بين هذه الصور القياسية والمقدمات العديدة، تلك التي تنبني على تقسيم الموجودات إلى أعيان، وهي الأجسام وأجزاؤها الفردة، ومن الأعراض وهي كيفيات تقوم بالأعيان.
وهذا الدليل بمقدماته وتدرجاته المعلومة عند من له أدنى أطلاع، قد اشتهرت بين الناس العامة والخاصة، اشد الاشتهار، حتى توهم البعض انه لا يوجد دليل عند علماء الأشاعرة والماتريدية على وجود الله تعالى الا هذه الصور والمقدمات والقياسات.
وهذا التوهم إنما هو لعدم معرفتهم بما يقوله علماء أهل السنة المحققون الذين تتقاصر نفوس هؤلاء المعترضين عن أن تمس معاني أقوالهم. فتراهم دائما إنما يتعلقون بما يتوهمون من أقوالهم، وهو ليس كذلك.
وبناءا على هذه المقدمة المختصرة فيما يتعلق بهذه المسألة نقول، لقد شرع مؤلف الكتاب المذكور بالاعتراض على علماء الإسلام وهم من ذكرناهم لك، وعرفناك بهم، واتهمهم بأنهم لا يتبعون طريقة القرآن الكريم في الاستدلال على وجود الخالق، وهذا الكلام منه يستدعي الغاية من العجب.
فقد حض القرآن الكريم في أكثر موضع على النظر في الكون وفي النفس الإنسانية بأكثر من أسلوب وفي أكثر من آية، وكذلك حث علىالتفكر في الكون من حيث وجود الحكمة التامة فيه، فهذا يستدعي إثبات وجود الخالق، إلى غير ذلك من جوانب.
ونحن كما ذكرنا لك فإن أدلة المتكلمين وعلماء أهل الحق لا تتعدى هذه الصور والرسوم. بل هي في أكثرها مستنبطة بتفاصيلها من القرآن الكريم.
فكيف يجوز لهذا المدعي الآن أن يقول أن طريقتهم ليست هي طريقة القرآن ؟؟!
وماذا يعني هذا القائل بطريقة القرآن ؟ فلننظر فيما يقول..
قال في صفحة 33 عن منهج السلف في ذلك الذي ينسبه اليهم ويدعي أنه هو طريق القرآن ” فقد استدلوا بالفطرة السليمة المضطرة بطبعها إلى الاقرار بوجود الله تعالى والاعتراف بالخالق ” أهـ
ولنسأله عما يريده بالفطرة السليمة، هل يوجد فطرة غير سليمة ؟! وكيف تكون الفطرة غير السليمة موجودة، وقد ادعى أن الفطرة هي الخلقة التي خلق الله تعالى الناس عليها، وهي علوم ومعارف، فهل تكون هذه العلوم التي خلقها الله تعالى في الناس دلالة لهم إلى الحق غير سليمة ؟ ! وهل توجد إمكانية لتغيير الخلقة التي يخلقها الله تعالى لهدف معين على زعمهم، لتصبح غير سليمة، وبالتالي لا توجه الإنسان إلى ما هو مراد منه ؟!
إن هذا الكلام في غاية الاضطراب كما يظهر لك. والحق أن الفطرة ليست أمرا غير ما ذكرته لك في أول هذا الكتاب، وأن العلماء من أهل السنة لم يستخدموا في الاستدلال غير القوى التي منحها الله تعالى لهم، ليصلوا إلى الخالق.
وبهذا يتضح لك شدة فساد هذا المدعي هنا وأصحابه في كلامهم.
ونحن لا نقول أن كل الأدلة التي يوردها المتكلمون في كتبهم يستطيع أي إنسان أن يفهمها ويدقق فيها من أول نظرة، أو بجهد قليل. بل إننا نقول أن بعض الأدلة التي يوردونها تحتاج لعقل جامع وقلب ذكي وجهد عظيم، وهذه الامور لا تتوفر في كثير من الناس، وأيضا توجد بعض الادلة يسهل على عامة الناس أن يفهموها.
وهنا تكمن عبقرية علماء الكلام، فإنهم لاحظوا اختلاف درجات الناس في الفهم والذكاء، فوضعوا لكل طائفة منهم ما يناسبهم من الأدلة، فمن يريد التدقيق والتحقيق يجد ذلك ومن يريد الدليل العام الاجمالي والوعظ الكافي والحجة الخطابية فإنه يجده أيضا.
ولا ينبغي أن يعترض على هذا المنهج أحد من العقلاء.
فلا يجوز لأحد أن يقول أن الدليل يجب أن يكون واحدا لجميع الناس لأن من يقول هذا يخالف صريح العقل وواضح البيان.
ولهذا فإننا نقول أن منهج المتكلمين قد بلغ بهذا الوجه مرتبة عالية من الحكمة، بخلاف غيرهم ممن لا يطيق ذلك.
ب- التوحيد
– أقسام التوحيد
التوحيد والوحدانية عند أهل السنة يندرج تحتها مسائل، منها ما يتعلق بالذات، ومنها ما يتعلق بالمخلوقات في علاقتهم مع الذات الالهية.
فأما ما يتعلق بالذات، فيجب الاعتقاد أن الذات الالهية واحدة وحدة مطلقة من حيث هي ذات، متصفة بصفات جليلة، منزهة عن شوائب النقص، وعن الحدوث ومستلزماته وعن مشابهة الحوادث من حيث هي حادثة من أي وجه كان.
ويجب تنزيه الله تعالى والقول بوحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله لأن الله تعالى موجود وله صفات وله أفعال، فالوحدانية تتعلق بكل أمر من هذه الثلاثة.
فالوحدانية في الذات : كون الذات لا يشبهها شيء فلا يوجد ذات متصفة بالكمال المطلق غير ذات الله تعالى وأيضا فهي واحدة لا تتكون من أجزاء وليست مركبةلأن التركيب والأجزاء من سمات الحدوث.
والوحدانية في الصفات : كون الذات موصوفة ومتصفة بصفات الكمال المطلق وأن هذه الصفات لا تنسب الىغير الله كما تنسب اليه تعالى.
والوحدانية في الأفعال: كون الله تعالى متصفا بأنه فاعل خالق مختار اختيارا مطلقا، لا يمنعه شيء عما يريد، ولا بذلك الا هو تعالى. فلا يجوزأن ينسب معنى أفعال الله تعالى وهو الخلق والابداع إلى غيره.
فهذه كلمات مختصرة توضح المراد بالتوحيد والوحدانية عند اهل السنة.
وقد اتفق على هذه المعاني جميع المسلمين، ولكن قد جرى النزاع في أمور ادعاها البعض من غير أهل السنة فقال أن للتوحيد غير ما ذكرتم، وهي:
– التوحيد في الربوبية.
– التوحيد في الألوهية.
– التوحيد في الأسماء والصفات.
وادعى أن تقسيم التوحيد بهذا الأسلوب وما عليه السلف، وهو موجود فى كتبهم قاطبة، وهذا ادعاء ليس عليه دليل بل هو باطل بالاستقراء نفسه الذى يدعيه هو دليلا عليه.
وحقيقة هذه المسألة وهى تقسيم التوحيد قد تكلمنا عليها فى أكثر من موضع مما كتبناه، وذكرها العديد من العلماء، فالكلام فيها مشهور وتلخيص الكلام:
أن هذا التقسيم أن كان المراد به هو التسهيل على الأفهام التوضيح والتدريس لعامة الناس وطلاب العلم، فقد يتسامح فيه بشرط عدم حصر الأقسام بما ذكروا، وهذا إذا خلا عن الغلط فى تقسيم المعانى، ولكن الحال غير هذا، فقد بينا نحن أن معانى هذا التقسيم المذكور ليست بمستقيمة ولا تامة وفيها تلفيق وذكرنا أنها وضعت أصلا كتقسيم فى القرن الثامن الهجرى من قبل بعض المجسمة أراد بها الرد على ما ذكره أهل السنة من كلام فى هذا الباب. ولم يكن همه استقراء المعانى الشرعية وتحقيقها ثم ذكر خلاصة ما بان له وظهر فى المسألة.
وحتى لو سلمنا لهم هذا التقسيم المذكور، فلم يصرون على أنه هو الذى اختاره السلف – أى الصحابة والتابعون والتابعون – وردوا غيره، فى حين أننا نعلم وهم يعلمون أنه لم يظهر هذا التقسيم إلى حيز الوجود إلا فى القرن الثامن الهجرى على يد شيخهم ابن تيمية؟
وكل ما ورد من عبارات على لسان المتقدمين فإنما هو إشارات وبيان لمعانى الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وردت متناثرة ولم يريدوا بها حقيقة التقسيم حتى جاء هؤلاء المدعون، وصاروا يتوهمون أن كل إنسان تلفظ بكلمة الألوهية أو الربوبية فقد أراد بها ذكر قسم من أقسام التوحيد.ثم هم قالوا بناء على هذا التقسيم أن توحيد الربوبية ليس كاف فى الدخول فى الإيمان والإسلام، وأن المشركين كانوا موحدين توحيد الربوبية، وهذا الكلام فى غاية البطلان لما ورد فى نصوص القرآن من أن النصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولما ورد فيه من أن مشركى العرب كانوا يعبدون غير الله معتقدين انه ينفعهم ويضرهم. كما ذكرنا هذا بتفصيل فى محل آخر.
ثم زادوا على ذلك بأن قالوا أن سائر الأشاعرة والماتريدية لم يحققوا من أقسام التوحيد إلا توحيد الربوبية، فساووا بينهم وبين المشركين ؟؟! وتناسوا أن الغالبية العظمى من علماء الدين هم أشاعرة وماتريدية، أبدعوا فى سائر العلوم وسيبقى هذا من مفاخرهم وشوكة فى عيون هؤلاء المجسمة عديمى التحصيل.
وهؤلاء لا ينكرون أن أغلب العلماء من المسلمين والعامة هم أشاعرة وماتريدية وذلك على طول القرون إلى هذه الأيام. ولكنهم يكابرون ويقولون لا يضرنا مخالفة الأكثرين حتى وإن كانوا من اعلم علماء المسلمين.
وعجبا لهم مع أن من برز اسمه منهم وجاز له أن يتكلم مع اعوجاج رأيه وسقم تفكيره لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، الا انهم يرون انفسهم قد حازوا علوم المتقدمين والمتأخرين ؟! وما هذا الا غاية في الضلال والجهل.
وهؤلاء أدخلوا قضايا التجسيم في صفات الله تعالى، فقالوا له حد من جميع الجهات، وهو في جهة وفي مكان سموه عدميا، وبعضهم وجوديا، ونسبوا إلى الله تعالى الحركة والانتقال من محل إلى محل، والقول بأن الحوادث تقوم بذات الله تعالى، وأن التغير يطرأ عليه، جل شأنه، إلى غير ذلك من القضايا الفاسدة، كنسبة العين واليدين اليه تعالى مع عدم نفي كونهما أعضاءا، بل هم يعتقدون كونها أعضاءا وأجزاء لله تعالى عن ذلك، ونسبوا اليه تعالى الاستقرار والجلوس على العرش.
أدخلوا كل هذه المفاسد في قسم الاسماء والصفات، واعتبروه قسما من أقسام التوحيد. وصاروا يبدعون كل من خالفهم فيه معتبرين أنفسهم أهل الحق والتحقيق، واستصغروا سائر علماء الأمة ونسبوا اليم الضلال، ولم يحكموا بالجنة الا لمن سار على دربهم الفاسد هذا.

– أول واجب على المكلف
اشتهر عند أهل السنة أن أول واجب هو معرفة الله تعالى، وأنه لا يشترط لصحة المعرفة كونها عن دليل ونظر، ولكن هذا زيادة في الكمال. وذكروا أن الإنسان لكي ينال ثواب كلمة الشهادة لا بد أن يكون عارفا بمعناها وان من قالها من دون فهم معناها ودون تصديق واعتقاد لها فلا تفيده شيئا.
وقرروا أن الإنسان لا يمكن أن يُعرَفَ دخوله في الدين شرعا الا بأن ينطق بكلمة التوحيد. ولهذا قالوا أن نطق المكلف بالشهادتين هو شرط لإجراء أحكام الإسلام عليه. وهذا الكلام في غاية التحقيق.
وأما الكلام الذي ذكره المؤلف المذكور فهو يدل على جهله التام بما في كتب القوم، وليس هو الا ثرثرة زائدة.
فلا يستطيع أحد أن يخالف ويقول أن النظر في حقيقة الدين ليس واجبا وان الأخذبالأدلة غير واجب، بل هما واجبان، ولكن إيمان المقلد صحيح مثاب عليه مع تقصيره في النظروالبحث.
ولم يقل أحد من الأشاعرة والماتريدية أن الكافر لا يجب عليه أول ما يجب لكي يعصم دمه أن ينطق بكلمة التوحيد.ولكن الخلاف وموضع الكلام عندهم أنها لا تكفيه عند الله تعالى الا أن كانت معانيها عنده صحيحة معتقدا بها مستقرا إلى هذا الاعتقاد.
والتطويل في هذا الموضوع زيادة على ما ذكر لا يفيد.
جـ – الصفات
أما الصفات والخلاف فيها، فتلخيصه أن الأشاعرة والماتريدية ينفون عن الله تعالى صفات الحوادث والأجسام كالحد والمقدار والحركة والحيز والجهة والتركيب والاجزاء والانفعال والتأثر بالغير، وهؤلاء الذين يخالفونهم يثبتون كل ذلك.
وليس الخلاف حول صفة ثبتت أصلا لله تعالى.
فلو نفى هؤلاء المجسمة ما أشرنا اليه، لبطل الخلاف وانمحى.
ولا تتوهم أن الخلاف هو في أنه هل يوجد لله يد ووجه أم لا، فكثير من الأشاعرة قالوا لله وجه، ولكن الخلاف هو هل هذا الوجه هو من قبيل الأعضاء والاجزاء ام لا ؟؟؟
فكل الأشاعرة نفوا ذلك، وكل المجسمة ممن خالفوهم لم ينفوه.
وكذلك في اليد وغيرها.
واما الاستواء فقالت المجسمة هو الجلوس والحلول والاستقرارعلى العرش والكون في مكان.
وعند الاشاعرة: لا ضرر في إثبات الاستواء لله تعالى بل يجب اثباته ولكن لا على سبيل الكون في مكان والجلوس كما تقول المجسمة.
هذا هو أصل الكلام، وكل ما سواه فهو تهويل لا يراد به وجه الله تعالى.
فما دام الامر كذلك، فمن هو أقرب إلى الصواب، الذي ينزه اله تعالى عن مشابهة الحوادث أم من يقول بذلك ؟!
وأما قولهم أن الأشاعرة لا يثبتون الا سبعة صفات أو ثمانية أو غير ذلك من الاعداد، فما هو الا كذب عليهم، لأنهم كلهم أجمعوا على أن كمالات الله تعالى التي هي صفاته لا يدرك حدها لأنه لا حد لها، فلا نهاية لكمالاته تعالى، واما العدد المذكور في كتب التوحيد فليس هو حصرا لصفات الله تعالى، بل هو توضيح وتعليم لعامة الناس أقل ما يجب عليهم أن يعلموه لكي يصح إيمانهم ويستقيم إسلامهم، وإلا فإن الله تعالى لم يكلفنا بمعرفة جميع صفاته وأسمائه، لأن ذلك من تكليف ما لا يطاق.

د- الإيمان

لما نظر أهل السنة في هذه المسألة وسبروا جوانبها وحققوا نواحيها وجدوا أن الحاصل ثبوت ثلاثة معاني:
الأول: التصديق القلبي وهو مع الإقرار والإذعان.
الثاني: التلفظ باللسان بكلمة الشهادة.
الثالث: العمل بالأوامر الشرعية، كالكف عن شرب الخمر وأداء الصلاة.
ووجدوا الشرع لا يحكم بكفر من شرب الخمر ولا من ترك أيَّ أمر من أوامر الشريعة، إلا أن يكون مستخفا مستهينا او معاندا.
علموا أن العمل ليس داخلا في ماهية الإيمان الذي يتم بناء عليه عدم الخلود في لنار.
ووجدوا عدم دخول الأعمال في ماهية وحقيقة الإيمان واضحا، فلم يحصل خلاف بينهم فيها.
أما التلفظ فلما رأوا أن الشارع حكم بايمان الأخرس وإن لم يتلفظ لأنه لا يستطيع، ووجدوا العديد من الآيات تدل على أن الإيمان المذكور أصله في القلب أيضا.
ثم لما لاحظوا أن الشارع رتب الحكم على الإنسان بالكفر أو عدمه بكونه قائلا بكلمة التوحيد أو لا، قالوا أن التلفظ هوشرط لإجراء أحكام المؤمنين عليه،لأننا لا يمكن أن نعرف المؤمن من غيره الا إذا قال أو فعل فعلا يدل على ذلك. وأقرب الأمور الدالة على ذلك هي القول والتلفظ بكلمة التوحيد.
واما التصديق القلبي مع الاذعان المذكور فلا خلاف بين المسلمين أنه داخل في حقيقة الإيمان المعتبر شرعا في الحكم بنجاة الإنسان والمكلف من الخلود في النار وإن دخلها لمعصية فعلها.
فهذا هو ما عليه المحققون وجمهور العلماء، وهو التحقيق في هذه المسألة.
ونقل الخلاف عن ابي حنيفة، أنه اعتبر التلفظ جزءا من حقيقة الإيمان، ويكاد الخلاف يكون لفظيا بين هذا القول وبين ما قال به الجمهور من المحققين.
أما الأعمال، فقد بالغ الحشوية المجسمة في القول بأنها تدخل في صميم الإيمان، ومع ذلك لم يحكموا بالكفر على كل من ترك عملا، وهو تناقض صريح.
وسبب غلطهم أنهم لم يفرقوا بين أنه يطلق على الأعمال أنها إيمان، وبين كونها هي الإيمان أو جزءا من الإيمان أصل المسألة.
فلا شك أنه يطلق على الأعمال شرعا ولغة أنها إيمان، وكذلك على الأقوال، كما يطلق على التصديقات، وكل إطلاق من حيثية معينة.
ولكن الخلاف أصلا،بل أصل المسألة هي ما هو أقل قدر يجب علىالمكلف أن يحققه، لكي ينجو من الخلود من النار.
هذا هو أصل المسألة، وليست المسألة هي هل يطلق على الأعمال ايمان أو لا يطلق.
واما كلام المؤلف في هذا المبحث، فهو كلام غير مستقيم ولا يفيد وليس فيه جنس التحقيق.
وكل ما يمكن أن يقال بناءا على غير هذا الأصل، فهو كلام لا يلتفت اليه.

هـ- النبوات، مبحث العصمة

لخص شيخ الإسلام زكريا الانصاري مسألة عصمة الأنبياء في كتاب غاية الوصول، تلخيصَ تحقيق كما هو المعهود منه فقال في ص91:
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون، حتى عن صغيرةٍ سهوا فلا يصدر عنهم ذنبٌ،لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدا ولا سهوا. فإنْ قلتَ : يُشكِلُ بأنه صلى الله عليه وسلم سها في صلاته حيث نسي فصلى الظهر خمسا وسلم في الظهر أو العصر عن ركعتين وتكلم.قلتُ :لا إشكال على قول الأكثر الآتي ويدل له خبر البخاري إني أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني.
وأما على القول المذكور فيجاب عنه،بأن المنع من السهو معناه المنع من استدامته لا من ابتدائه، وبأن محله في القول مطلقا وفي الفعل اذا لم يترتب عليه حكمٌ شرعيٌّ، بدليل الخبر المذكور.لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لبيان الشرعيات.
ثم رأيتُ القاضي عياضاً ذكر حاصل ذلك ثم قال : ” إن السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه وسلم غير مضاد للمعجزة، ولا قادح في التصديق.”
والأكثر على جواز صدور الصغيرة عنهم سهوا الا الدالة على الخِسَّةِ كسرقة لقمة والتطفيف بتمرة، وينبهون عليها لو صدرت.أهـ
فهذا هو حاصل مذهب الأشاعرة والماتريدية.
ولا يلزم على هذا القول محال ولا استخفاف بنصوص الشرع كما قال هذا المدعي، ولا تأويل لما ورد منها، لأن من قال انها تدل على جواز صدور الذنوب والخطأ منهم، إنما يقول هذا بفهمه المردود المعارض لما قاله هؤلاء العلماء، مع عدم الانتباه لما قاله المشايخ.
وما دام قد تقرر مذهب أهل السنة كما مضى، فقد حددوا موقفهم وطرقتهم في فهم النصوص بناءا على الاستقراء والبرهان، فقال الامام السعد التفتازاني في ص191:
اذا تقرر هذه، فما نُقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية، فما كان منقولا بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره أن أمكنَ، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة. أهـ
وهذا ما أطلق عليه مصنف الكتاب متعلَّق هذا النقد بأنه تحريف قبيح، وكلامه هذا قبح منه يدل على سخف عقله وسماجة فكره.وبهذا نكون قد أتينا على ما أردنا ذكره في هذه التعليقة المختصرة. وأدعو الله تعالى أن ينفعنا بها والمسلمين.
خاتمة
في بيان من هم أهل السنة

وقد أحببنا أن نختم هذا التعليق اللطيف والنقد المنيف ببيان من هم أهل السنة والجماعة على التحقيق، وذلك بذكر كلام ابن السبكي التاج رحمه الله تعالى الذي ذكره في شرح عقيدة ابن الحاجب وأورده محقق كتاب “إشارات المرام من عبارات الإمام ” للعلامة البياضي رحمه الله تعالى في ص298:
“إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الاشاعرة والماتريدية”.
وقال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب :
“اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك”.
وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف
الأولى: أهل الحديث، ومعتقد مباديهم الأدلة السمعية – الكتاب والسنة والاجماع.
الثانية: أهل النظر العقلي وهم الأشعرية والحنفية (الماتريدية) وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي. وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط والعقلية والسمعية في غيرها،واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية الا في مسائل.
الثالثة: أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية، ومباديهم مبادي أهل النظر والحديث في البداية والكشف والإلهام في النهاية” أهـ.
وهو كلام في غاية الإفادة، ولاحظ أن مورد قسمة أهل السنة إلى هذه الطوائف الثلاثة إنما هو راجع إلى مصدر أخذهم للعقائد، بمعنى إن الجميع من أهل السنة يأخذون بالكتاب والسنة والعقل، ولكن بعضهم يركز في تثبيته للعقائد على النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وهؤلاء نحو الإمام البيهقي وغيره، وهؤلاء لا يغفلون العقل ولا النظر العقلي، ولكن أكثر معتمدهم على المنقول، وهؤلاء يسمون بأهل الحديث.
ومن أهل السنة مَن يركز أكثر على الأدلة العقلية والبراهين النظرية، كالإمام الرازي والغزالي والتفتازاني وغيرهم من العلماء، وهؤاء لا يقال إنهم يغفلون الأخذ بالكتاب والسنة ولا يقال إنهم يتهاونون بها، ولكنهم وجهوا أنظارهم إلى تحقيق الأدلة النظرية. وهؤلاء يكملون ما بدأته الطائفة الأولى، ويسمون أهل الكلام والنظر.
وطائفة من أهل السنة من يركزون أكثر على المعاملة، والمقصود من هذا أنهم يرجعون في الاعتقاد إلى طريقة أهل الحديث والنظر، ولكنهم يتميزون ببيان نتائج العقائد الدينية على روح الإنسان، ويحاولون بيان ما يشعرون به في جنانهم باللسان، ومنهم أبو القاسم الجنيد والحارث المحاسبي وغيرهم، ويحاولون إرشاد الإنسان إلى الطرق العملية التي تساعد على تثبيت العقائد المأخوذة بالطرق السابقة. وهؤلاء يسمون بالصوفية أو أهل الذوق.
فالحاصل أن جميع هذه الطوائف عقائدهم واحدة، ولكن مآخذهم متنوعة، ونلاحظ أن كل واحدة من هذه الطوائف لا تنكر مأخذ غيرها، ولكن كل واحدة تتميز بزيادة اعتمادها على نوع من الأدلة، فهو تنوع تابع لتغاير طرق الاستدلال، وليس تابعا لتغاير المستدل عليه. بمعنى أن عقائد الجميع واحدة، ولا يجوز أن يعتقد المحدث خلاف ما يعتقد به المتكلم، ولا يخالف الصوفي المتكلم. بل الجميع ملتهم واحدة، وعقيدتهم واحدة، وهم على قلب رجل واحد. واختلاف طرقهم لاختلاف طبائع الناس، فمن الناس من يميل بطبيعته إلى الذوق ومنهم من يميل إلى النظر ومنهم من يميل إلى النقل بمجرده. وكل منهم ممدوح ليس بمقدوح، ولا اعتراض على واحد منهم.
ولا يخفى أن بعض الذين انتموا إلى الإسلام وانتسبوا إلى المحدثين قد ضلوا، فمالوا إلى التجسيم أو غيرها من البدع، وأن بعض من انتمى إلى الإسلام وانتمى إلى أهل النظر والكلام، قد قال ببعض ضلالات الفلاسفة وغيرهم، وأن من انتمى إلى الصوفية قد قال ببعض ضلالات الباطنية، ولكن وجود هؤلاء المنحرفين لا يعني ذم أصل الطريقة.
وندعو الله تعالى أن يضع هذا الكتاب في كفة الحسنات في يوم الدين، وينفع به المسلمين.

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب

كتبه: الشيخ سعيد فودة

وسوم: عقائد, كشف شبهات, ماتريدية, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
الماتريدي وأنصاره من العلماء نهج حنفي أصيل
«العقيدة الركنية» لعبيد الله السمرقندي ترى النور في اسطنبول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

النقد والتقويم لمنتقد عقائد المدرسة الماتريدية

بِسمِ اللَّه الرَّحْمنِ الرحيمِ مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين، وبعد؛ فلما كان الدفاع عن الدين واجباً على كل قادر، وكذلك التمييز بين الصحيح…