اعتبر الحنفية من إنقطاع الباطن أن يخالف حديث الآحاد السنة المشهورة؛ لأنَّ ما يكون من السنة مستفيضاً فهو بمنزلة الكتاب في ثبوت علم اليقين به عندهم، وما كان ظنيَّاً فهو لا يقوى على معارضة هذا اليقين.
يقول الإمام السرخسي في أصوله: “إن أصل البدع والأهواء إنما ظهر من قِبَلِ تَرْكِ عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة المشهورة، فجعلوا التبع متبوعاً، وجعلوا الأساس ما هو غير متيقِّن به فوقعوا في الأهواء والبدع … إنما السبيل ما ذهب إليه علماؤنا رحمهم الله من إنزال كلّ حجَّة منزلتها؛ فإنهم جعلوا الكتاب والسنة المشهورة أصلاً، ثم خرَّجوا عليهما ما فيه بعض الشبهة وهو المروي بطريق الآحاد ممَّا لم يشتهر، فما كان منه موافقاً للمشهور قبلوه، وما لم يجدوا في الكتاب ولا في السنة المشهورة له ذِكْراً قبلوه أيضاً، وأوجبوا العمل به، وما كان مخالفاً لهما ردّوه، على أن العمل بالكتاب والسنة أوجب من العمل بالغريب بخلافه”.
ومثَّل الحنفية لهذا النوع من الأحاديث بحديث (القضاء بشاهد ويمين) فقال الإمام النسفي في كتابه كشف الأسرار على المنار في الأصول: “ مثل حديث الشاهد واليمين”، فإنه يخالف المشهور وهو قوله عليه السلام: “البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر” أي المدَّعى عليه. وقد روى حديث الشاهد واليمين عدد من الصحابة رضي الله عنهم؛ منهم ابن عباس، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله، وعمر، وعلي، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعمارة بن حزم، وسُرَّق، وبلال بن الحارث، وأبو سعيد الخدري، وزبيب بن ثعلبة، وأبو بكر وعثمان.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قضى بيمين وشاهد” فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الأقضية باب القضاء باليمين والشاهد، وأما أحاديث باقي الصحابة فقد خرَّجَها الزيلعي في كتابه “نصب الراية” وايضاً ابن حجر في التلخيص الحبير والهيثمي في مجمع الزوائد والبيهقي في السنن الكبرى.
وأما الحديث المشهور (البينة على المدعى واليمين على من أنكر) ورد بلفظه ومعناه عن عدد من الصحابة، منهم ابن عباس، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وزيد بن ثابت، وبَرَّة بنت أبي تجراة (تجزئة)، رضي الله عنهم.
أما حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه فقد ورد من عدة طرق، منها: رواية عبد الله بن داوود عن ابن جريج، عن ابن أبي مُليكة أنَّ امرأتين كانتا تَخْرِزان في بيت أو في الحجرة، فخرجت احداهما وقد أُنفذ بإشفى في كفِّها، فادّعَت على الأخرى، فرفع إلى ابن عباس، فقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قومٍ وأموالهم”، ذكّروها بالله، واقرؤوا عليها : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) [سورة آل عمران 77]، فذكَّروها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اليمين على المدَّعى عليه” رواه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير.
ولاشتهار هذا الحديث عند الحنفية فقد جعلوه قاعدةً من قواعد الفقه، والحكمة فيه أنَّ جانب المدَّعى ضعيف؛ لأنّه يدّعي خلاف الظاهر، فكانت الحجَّة القويَّة واجبةً عليه ليتقوى بها جانبه الضعيف، والحجة القوية هي البينة، وجانب المدَّعى عليه قوي، لأن الأصل عدم المدَّعى به، فاكتفي منه بالحجة الضعيفة وهي اليمين.
لكن ما هو بيان المخالفة بين الحديثين؟
قالوا المخالفة من وجهين:
الوجه الأول: “ أنَّ الشرع جعل جميع الأيمان في جانب المنكِر دون المدَّعى؛ لأنَّ اللام تقتضي استغراق الجنس، فمن جعل يمين المدَّعي حجَّة فقد خالف النص ولم يعمل بمقتضاه وهو الإستغراق”.
الوجه الثاني: “ أن الشرع جعل الخصوم قسمين؛ قسماً مدَّعياً، وقسماً منكراً، وجنس البيِّنة على المدَّعي. وهذا يقتضي قطع لبشركة، وعدم الجمع بين اليمين والبينة في جانت، والعمل بخبر الشاهد واليمين يوجب ترك العمل بموجب هذا الخبر المشهور”.
ولمَّا راسل الإمام مالكٌ الليثَ بن سعد رضي الله عنهما، وعاتبه في ترك العمل بأحاديث جرى العمل عليها عند أهل المدينة، منها حديث القضاء بشهادة شاهدٍ ويمين صاحب الحقَّ، ردَّ الليث على الإمام مالك رضي الله عنهما برسالة طويلة جاء فيها: “ … ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفتُ أنَّه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقضِ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثمَّ ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمتَ في إحياء السنن، والجدّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رُزيق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إنَّا كنَّا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين”.
وقال الامام محمد بن الحسن الشيباني في الموطأ بروايته عن الإمام مالك في باب الدعوى والشهادات وادِّعاء النسب: “ ابن أبي ذئب عن ابن شهاب الزهري، قال: سألته عن اليمين مع الشاهد فقال: بدعة، وأول من قضى بها معاوية، وكان ابن شهاب أعلم عند أهل الحديث بالمدينة من غيره، وكذلك ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، قال: كان القضاء الأول لا يقبل إلا شاهدان، فالأول من قضى باليمين مع الشاهد عبد الملك بن مروان”.
قال المرتضى الزبيدي في كتابه عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة: وروي ما يعارض (قضى بشاهد ويمين) ففي الإستذكار … عن الشعبي قال: إنَّ أهل المدينة يقضون باليمين مع الشاهد ونحن لا نقول بذلك … وحديث الصحيحين “اليمين على المدَّعى عليه”، وفي رواية “ البينة على المدَّعي واليمين على من أنكر”، يرده، وكذا حديث الصحيحين: “شاهداك أو يمينه”.أهـ وهذا جزء من حديث طويل عن الأشعث بن قيس، أوله: عن أبي وائل، قال: قال عبد الله:” من حلف على يمين، يستحق بها مالاً وهو فيها فاجرٌ لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)، إلى (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران 77]، ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ قال: فحدثناه، قال: صدق، لفِيَّ والله نزلت، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: شاهداك أو يمينه، قلت: إنه إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجرٌ لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ هذه الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)، إلى (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) رواه البخاري في كتاب الرهن ومسلم في كتاب الإيمان.
وفي الواقع إن الأئمة الحنفية لم يعتذروا عن العمل بحديث القضاء بالشاهد واليمين لمخالفته الحديث المشهور فقط وإنما لهم أسباب أخرى منها أن الحديث مخالف لظاهر القرآن أيضاً. وهنا تجدر الإشارة أن الجمهور الذين أخذوا بحديث القضاء بالشاهد واليمين كانت لهم حججهم القوية في العمل به، حتى إن بعضهم جعله أشهر من حديث البينة على المدّعي واليمين على من أنكر. ولسنا هنا بصدد ترجيح مذهب على آخر فهذا ليس من شأن أمثالنا وإنما الذي نريد بيانه هو أن لكل مجتهد مستقل منهجاً ارتضاه وطريقاً سلكه.
المؤلف: الشيخ د. علي بقاعي