لا يخفى أن الإقرار بإجتهاد رجل إقرار له بكل معنى الكلمة، فيكون ذلك الرجل صاحب أصول وقواعد، قد عرفها وأتقنها، وأنه يقدر على استنباط الأحكام في ضوء تلك الأصول.
فعلى هذا الأصل المنطقي: يكون للإمام أبي حنيفة – وكذلك لغيره من الأئمة المجتهدين رحمهم الله – أصول لنقد الأخبار والعمل عليها، فيصحح حديثا ويضعف آخر في ضوئها، كما كان له قواعد يمشي عليها في استخراج الأحكام من الأحاديث النبوية، وأصول لدفع التعارض والترجيح بين الروايات، غير أنه لم ير أن يضمنها كتابا، ويضبطها بالقيد – فيما نعلم -، فلم يصلنا منها إلا أقوال منثورة ونصوص مبعثرة في بطون الكتب، وإليك بعضها:
١- لا يقبل خبر الواحد المخالف لنص القرآن
صرح الإمام أبو حنيفة بأنه إنما يأخذ بأخبار الآحاد إذا لم يخالف القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف القرآن ولن يخالفه، وإنما جاء مبينا له.
فيؤهذ من نصه أصل كبير من أصول الحنفية: وهو أن مخالفة أخبار الآحاد نص القرآن الكريم دليل على عدم صحة أصل الخبر، أو السهو من جانب الرواة، أو بأنه مؤول.
٢- يشترط لقبول خبر الواحد استمرار حفظ الراوي لمروية من آن التحمل الى الأداء
روى الحافظ ابن أبي العوام، والحافظ أبو عبدالله بن البيع الحاكم النيسابوري، وحافظ المغرب ابن عبدالبر النمري الأندلسي، واللفظ لان أبي العوام، عن أبي حنيفة، أنه قال.
فذكر في هذه الرواية شرطا آخر لنقد أخبار الآحاد، وهو أنه لا يقبل خبر الواحد إلا أن يحفظه المحدث من يوم سمعه الى يوم يحدث به، وهذا الشرط يعد من أصعب الشروط لقبول الأخبار، وهو السبب الرئيسي لقلة مرويات الإمام أبي حنيفة رحمه الله بالنسبة الى ما سمعه.
٣- بيان مراتب الأدلة عند الإمام أبي حنيفة
روى إمام الجرح والتعديل ابن معين عن أبي حنيفة، قال: . يستنبط من هذا النص أمور:
يستنبط من هذا النص أمور:
أ- مآخذ التشريع الإسلامي وبيان مراتبها عند الإمام أبي حنيفة، فالقرآن مقدم على السنة، والسنة على أقوال الصحابة، وعلي على القياس.
ب- تعد أقوال الصحابة عند الإمام أبي حنيفة من حجج الشريعة.
ج- أقوال التابعين ليست بدليل شرعي يحتج بها عند الإمام أبي حنيفة، لأنه كان من التابعين، وليس قول تابعي حجة على الآخر، وهذا ظاهر الرواية.
وجاء في رواية النوادر: أن أئمة التابعين الذين أفتوا زمن الصحابة، كالحسن البصري، وسعيد ابن المسيب، وعلقمة، وزاحموهم ففي الفتوى، والصحابة سوغوا لهم الإجتهاد، فالإمام أبو حنيفة يقلدهم، لأنهم لما سوغوا الإحتهاد صاروا مثلهم.
وصحح ظاهر الرواية السرخسي، وابن الهمام، وابن نجيم، وابن عابدين.
ورجح رواية النوادر الإمام البزدوي، والنسفي.
د- الإمام أبو حنيفة يقدم خبر الواحد على القياس.
٤- خبر الواحد مقدم على القياس
روى الحافظ ابن أبي العوام، والموفق المكي، بسندهما عن أبي حنيفة، قال: .
نبه في هذه الرواية إلى مرتبة القيام ومكانتها في الشريعة الإسلامية، وفيه رد بليغ على من نسبه إلى تقديم القياس على الخبر.
٥- جواز في العرض
روى الحافظ المجود أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، والإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وتلميذه الحافظ إبن أبي العوام، والحافظ ابن عبدالبر الأندلسي والحافظ الخطيب، بسندهم عن أبي قطن، قال: قال لي أبو حنيفة: اقرأ علي وقل: حدثني.
فهذه الرواية أوضحت رأي الإمام أبي حنيفة في مسألة اختلف فيها الحافظ وهو أنه هل يجوز استعمال -حدثنا- في العرض – أي: القراءة على الشيخ-؟
فيرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أنه يجوز للطالب أن يستعمل لفظ -حدثنا- في القراءة على الشيخ/ كما هو رأي أكثر الحفاظ.
٦- الرواية عن أهل الأهواء والبدع
روى الحافظ الخطيب البغدادي بسنده عن ابن المبارك أنه قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال .
٧- رواية الفقهاء تترجح على رواية الشيوخ
روى الإمام عالم ما وراء النهر أبو محمد الحارثي، مناظرة جرت بين أبي حنيفة والأوزاعي بمكة في بحث رفع اليدين، وستأتي تلك المناظرة في موضع (( في موقعنا مسجد صلاح الدين)).
استنبط أئمة الحنفية من هذه المناظرة: أنه إذا تعارض حديثان، يرجح أحدهما كونه رواية الفقهاء/ كما يرجح الآخر علو الإسناد/ طان أصل الإمام أبو حنيفة رحمه الله ترجيح رواية الفقهاء على رواية المحدثين، وإن كان فيه علو الإسناد، وكان أصل الإمام الأوزاعي رحمه الله ترجيح ما فيه علو الإسناد.
٨- عدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله كثيرا من الرواة وجرحهم
..عدل..
– ابراهيم ابن ميمون الصائغ المروزي
– جعفر بن محمد الباقر المعروف ب —جعفر الصادق—
– الحسن بن عمارة البجلي
– حماد ابن سليمان الكوفي
– سفيان ابن سعيد الثوري
– شريك النخعي
– شعبة العتكي
– عطاء بن رباح
—الخ
..جرح..
– جابر النخعي
– جهم بن صفوان
– طلق بن حبيب
– عمرو بن عبيد المعتزلي البصري
– مقاتل البلخي
– محالد بن سعيد الهمداني
—الخ
فأعلم بصنيعه هذا أن الحديث يؤخذ عن الثقات لا عن كل من هب ودب.
فهذه نصوص منثورة في بطون الكتب، ولا شك أن له كان قواعد رصينة في الأخذ بالأخبار ونقدها، غير أنها ليست مسطورة على القرطاس، ولكننا نستطيع أن نلمس آثارها ونشاهد ملامحها فيما كان يستنبطه من الأحكام، لأنه لا يمكن أن يتكون مذهب من المذاهب الفقهية، إلا أن يكون عند صاحبه تلك الأصول التي يرتكز عليها عند الإستنباط، أما التعبيرات والإصطلاحات التي نجدها اليوم فأكثرها من صنع المتأخرين.
كتبه عبد المجيد التركماني.