الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد؛
فإن الفقير الى رحمة ربه الغنيّ قاسم الحنفي يقول: إني رأيت من عمل في مذهب أئمّتنا -رضي الله عنهم- بالتشهّي، حتى سمعت من لفظ بعض القضاة: وهل ثَمَّ حَجْر؟ فقلت: نعم، إتباع الهوى حرام، والمرجوح في مقابلة الراجح بمنزلة العَدَم، والترجيح بغير مرجِّح في المتقابلات ممنوع.
وقد قال في كتاب “أصول الأقضية” لليعمري (رحمه الله): “ من لم يقف على المشهور من الروايتين أو القولين فليس له التشهي في الحكم بما شاء منها من غير نظر في الترجيح.
وقال الإمام أبو عمرو في كتاب “أدب المفتي”: “إعلم أن من يكتفي بأن يكون فتياه أو عمله موافقاً لقولٍ أو وجهٍ في المسألة ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح فقد جهل وخرق الإجماع ..”.
وحكى الباجي أنه وقعت له واقعة فأفتي فيها بما يضره، فلما سألهم قالوا: ما علمنا بأنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافق قصده، قال الباجي:” وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممَّن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز”.
قال في “أصول الأقضية”: “ولا فرق بين المفتي والحاكم، إلا أن المفتي مخبر بالحكم، والحاكم ملزم به”.
وقال الأصولييون أجمع: لا يصح الرجوع عن التقليد بعد العمل بالإتفاق، وهو المختار في المذهب.
وقال الإمام أبو الحسن الخطيب في كتاب “الفتاوى”: “ المفتي على مذهب إذا أفتى بكون الشيء كذا على مذهب إمام، ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه محض تشهٍّ”، وقال أيضا: “إنه بالتزامه مذهب إمام مكلف به ما لم يظهر له غيره، والمقلد لا يظهر له بخلاف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة”، ووجّه بهذا مسألة الأصول التي حكي فيها الإتفاق وقال: “لا يصح التقليد في شيء مركب من إجتهادين مختلفين بالإجماع”، ومثَّلوا له بما إذا توضأ ومسح بعض شعره ثم صلى بنجاسة الكلب، قال في كتاب “توقيف الحكام على غوامض الأحكام”: :بطلت بالإجماع”، وقال فيه: “والحكم الملفق باطل بإجماع المسلمين”، فلو أثبت الخطَّ مالكي فحكم شافعي لم ينفذ”، وذكر مثالاً آخر وقال:”وكثير من جهلة القضاة يفعلون ذلك”، يعني الحكم الملفق.
فقال بعض من لا يدري مراد العلماء: قد قالوا: إن الإمام متى كان في جانب وهما في جانب فالمفتي والقاضي بالخيار، فقلت: ليس كما تزعّم؛ قال الإمام العلامة الحسن بن منصور بن محمود الأوزجندي المعروف بـ “قاضي خان” في كتاب “الفتاوى” له: “رسم المفتي في زماننا من أصحابنا إذا استفتي عن مسألة:
إن كانت مروية عن أصحابنا في الروايات الظاهرة بلا خلاف بينهم فإنه يميل إليهم ويفتي بقولهم ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهداً متقنا، لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم، واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا يقبل حجته لأنهم عرفوا الأدلة وميَّزوا بين ما صح وثبت وبين ضده.
وإن كانت المسألة مختلفا فيها بين أصحابنا فإن كان مع أبي حنيفة أحد صاحبيه يأخذ بقولهما لوفور الشرائط واستجماع أدلة الصواب فيها، وإن خالف أبا حنيفة صاحباه في ذلك فإن كان اختلافهم اختلاف عصر وزمان كالقضاء بظاهر العدالة يأخذ بقول صاحبيه لتغيّير أحوال الناس، وفي المزارعة والمعاملة ونحوها يختار قولهما لاجتماع المتأخرين على ذلك، وفيما سوى ذلك يخيَّر المفتي المجتهد ويعمل بما أفضى إليه رأيه، وقال عبد الله بن المبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة.
وإن كانت المسألة في غير ظاهر الرواية، إن كانت توافق أصول أصحابنا يعمل بها، وإن لم يجد لها رواية عن أصحابنا واتفق فيها المتأخرون على شيء يعمل به وإن اختلفوا يجتهد ويفتي بما هو الصواب عنده.
وإن كان المفتي مقلداً غير مجتهد يأخذ بقول من هو افقه الناس عنده ويضيف الجواب إليه فإن كان أفقه الناس عنده في مصر آخر يرجع إليه بالكتاب ويتثبت في الجواب ولا يجازف خوفاً من الإفتراء على الله تعالى لتحريم الحلال وضده. وذكر في “المحيط” نحوه في القاضي.
وقال الإمام العلامة أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني في كتاب “البدائع” له: إن القاضي إن كان من أهل الإجتهاد وأفضى رأيه إلى شيء يجب عليه العمل به .. أما إذا لم يكن من أهل الإجتهاد فإن عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الأحكام والإتقان عمل بقول من يعتقد قوله حقاّ على التقليد وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بقول أهل الفقه في بلده من أصحابنا وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد من أصحابنا يسعه أن يأخذ بقوله.
وقال ايضاً في صفة القضاء:” وأن يكون القضاء لله تعالى خالصاً، لأن القضاء عبادة والعبادة إخلاص العمل بكليته لله تعالى.
وقال برهان الأئمة في “شرح أدب القضاء” للخصاف: “وينظر القاضي في فصلين أحدهما المتفق عليه فيقضي به لأن الحق لا يعدو قول أصحابنا، والثاني: المختلف فيه فقال عبد الله بن المبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة لأنه رأى الصحابة وزاحم التابعين في الفتوى فقوله أسدّ وأقوى، ما لم يكن اختلاف عصر وزمان، وقال المتأخرون يستفتي”.
وقال في “شرح الهداية” بعدما نقل الخلاف في قضاء المجتهد بخلاف رأيه أن الفتوى على عدم النفاذ في الوجهين يعني النسيان والعمد، ثم قال:” والوجه في هذا الزمان أن يفتي بقولهما لأن التارك لمذهبه عمداً لا يفعله إلا لهوى باطل لا لقصد جميل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره هذا كله في القاضي المجتهد.
فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة مثلاً، فلا يملك المخالفة فيكون معزولاً بالنسبة إلى ذلك الحكم.
وقال في القنية عن “المحيط” وغيره: اختلاف الروايات في قاض مجتهد إذا قضى على خلاف رأيه، والقاضي المقلد إذا قضى على خلاف مذهبه لا ينفذ.
وقال أبو العباس أحمد بن إدريس: “ هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده، كما يجب على المفتي أن لا يفتي إلا بالراجح عنده أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحاً عنده؟
جوابه: أن الحاكم إن كان مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم ويفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحاً عنده، مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده كما يقلده في الفتوى، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعاً، وأما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع”. [انتهى]
فقال من لا يدري مراد العلماء؛ قد فُقِدَ المجتهد والأفقه!
قلت: ففيما فيه الروايات نعمل بقول ابن المبارك على أن المجتهدين لم يُفقدوا حتى نظروا في المختلف ورجّحوا وصحّحوا فشهدت مصنفاتهم بترجيح دليل أبي حنيفة والأخذ بقوله إلا في مسائل يسيرة اختاروا الفتوى فيها على قولهما أو قول أحدهما وإن كان الآخر مع الإمام، كما اختاروا قول أحدهما فيما لا نص فيه للإمام للمعاني التي أشار إليها القاضي -رحمه الله- بل اختاروا قول زُفَر في مقابلة قول الكل لنحو ذلك. وترجيحاتهم وتصحيحاتهم باقية فعلينا اتباع الراجح والعمل به كما لو أفتونا به في حياتهم.
قيل: ففي غير الروايات عن الأئمة قد يحكون أقوالاً بلا ترجيح وقد يختلفون في التصحيح، قلت: نعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف وأحوال الناس وما هو الأرفق بالناس وما ظهر عليه التعامل وما قوي وجهه ولا يخلو الوجود ممن يميز هذا حقيقة لا ظناً بنفسه فيرجع من لم يميّز لمن يميز، لبراءة ذمته.
ولمّا تمّ لي هذا النظر، أحببت أن أضع على المختصرات التي تحفظ في هذا الزمان تصحيحات معزوة إلى قائلها أو ناقلها، كما فعله الأئمة من الشافعية لمختصراتهم وإن كان ذلك موجوداً في الشروح والمطولات إلا أنهم أسعفوا بذلك من لم يصل إلى تلك.
وقد قال الإمام برهان الشريعة المحبوبي في أول كتابه: “إنه حاوٍ لما هو أصح الأقاويل والإختيارات”. وقال الإمام أبو البركات النسفي في صدر كتابه:” وأورد في هذا الكتاب ما هو معول عليه في الباب”، فأذكر في المسائل المعروفة أنهما قد اعتمدا ذلك وربما ذكرت من وافقهما على ذلك.
المؤلف: قاسم بن قطلوبغا