شهد القرن الرابع الهجري تحولاً كبيراً في علم الكلام بانتصار مذهب أهل السنة والجماعة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي على المذاهب الكلامية الأخرى وعلى الأخص مذهب “الاعتزال”. وكان الإمام الأشعري في العراق (متوفى ٣٢٤ هـ/ ٩٣٥ م) يعلن انفصاله عن المعتزلة ورفضه لمذهبهم، وعودته إلى السنة وينشيء المدرسة الأشعرية لأهل السنة والجماعة التي امتد أثرها إلى الشام وخرسان ومعظم الأمصار بفضل أجيال متصلة من الأشاعرة انبروا للدفاع عن مذهب الأشعري وعقيدة أهل السنة، وكان الإمام الماتريدي (متوفى ٣٣٣ هـ/ ٩٤٤م) في بلاد ما وراء النهر يهاجم المعتزلة في شخص الكعبي إمام أهل الأرض عند المعتزلة في زمانه وينتصر للسنة ويؤسس المدرسة الماتريدية لأهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر، تلك المدرسة التي حمل لواءها من بعده سلسلة متصلة من الماتريدية أسهموا في تدعيم العقيدة الماتريدية لأهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر، وكان الإمام أبو جعفر الطحاوي في مصر (متوفى ٣٢١ هـ/ ٩٣٣م) يصدر “بيان السنة والجماعة” ولكنه يلتفت عن “الكلام” ومناقشة أصول العقائد، وتنصرف همته على الفقه فيغلب على مدرسة أهل السنة والجماعة في مصر التي أسسها الطحاوي الإتجاه الفقهي، ولذلك فالأشعرية والماتريدية هما المدرستان الكلاميتان لأهل السنة والجماعة. يقول “طاش كوبرى زادة”: ( ثم إعلم أن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفي والآخر شافعي، أما الحنفي فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي (إمام الهدى)، وأما الآخر الشافعي فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين وناصر سنة سيد المرسلين والذَّاب عن الدين والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري.
أصل الإمام الماتريدي ونسبه:
هو الإمام أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي، والماتريدي نسبة إلى القربة التي ولد بها وتسمى ماتريد أو ماتريت، وماتريد أو ماتريت قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النهر، ويراد به نهر جيحون.
لا نعرف كثيراً عن والديه ولا عن أحد من أسرته، وإن كان المؤرخون يذكرون أن نسبه يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد كليب الأنصاري، وهو الذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر للمدينة. ولا يذكر أحد من المؤرخين تاريخ مولده، ولكنهم متفقون على أنه توفي عام ٣٣٣ هـ/٩٤٤م.
ثقافته:
تفقه الإمام الماتريدي في العلم على أئمة العلماء في عصره الذين أخذوا العلم بدورهم عن سلسلة من العلماء تنتهي إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، تخرَّج الماتريدي في حلقة الإمام أبي نصر العياضي، وهو أنصاري مثله، يرجع نسبه إلى يحيى بن قيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وكان العياضي من أهل العلم والجهاد، فقد استشهد خلف أربعين رجلاً كلهم من أقران الماتريدي وهو يحارب الكفرة في بلاد الترك. ورغم أن أبا نصر العياضي كان شيخاً للماتريدي فإنه كان يجلس معه في حلقة أبي بكر أحمد الجوزجاني، وكذلك كان يجلس الإمام أبو بكر أحمد الجوزجاني مع تلميذه الإمام أبي نصر العياضي في حلقة شيخهما الإمام أبي سليمان الجوزجاني تلميذ الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.
تلك هي مشيخة الصلاح والتقوى التي تخرج فيها الإمام الماتريدي، وقد عكفت المشيخة على رواية الكتب المنسوبة للإمام أبي حنيفة ورسائله ووصاياه في أصول العقائد ودراستها فكان “الفقه الأكبر” المنسوب لأبي حنيفة و”الرسالة”، و”الفقه الأبسط”، و”العالم والمتعلم”، و”الوصية” هي التعليقة التي يحملها فقهاء مذهب النعمان في أصول العقائد، وقد حملها الماتريدي ورواها عن شيوخه ولكنها أخذن شكلاً آخر على يديه.
كانت هذه المؤلفات بمثابة “بيان” لعقيدة أهل السنة وما يصح الإعتقاد به من غير دليل ولا برهان. ولكن هذه العقيدة وما تضمنته من أصول تحولت من “عقيدة” إلى “علم” أي إلى “علم الكلام” على يد الماتريدي لأنه “حقق تلك الأصول في كتبه بقواطع الأدلة، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية”. فكان هو “متكلم” مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر؛ ولذلك سميت المدرسة بإسمه وأصبح المتكلمون على مذهب الإمام لأبي حنيفة في بلاد ما وراء النهر يسمون بـ”الماتريدية”، واقتصر إطلاق إسم أبي حنيفة على الحنفية المتخصصين في مذهبه الفقهي.
وتخرج على يديه أربعة من أئمة العلماء هم أبو القاسم اسحاق بن محمد بن اسماعيل الشهير بـ”الحكيم السمرقندي” المتوفى عام (٣٤٠ هـ /٩٥١م)، والإمام أبو الحسن علي بن سعيد الرستغفني، والإمام أبو محمد عبد الكريم بن موسى البزدوي المتوفى عام (٣٩٠ هـ/٩٩٩م)، والإمام أبو الليث البخاري.
كما قام جيل متصل من الماتريدية يوضحون مذهب امامهم وينقِّحُونَه، فيلتقون معه كثيراً ويختلفون معه أحياناً ويسهمون بذلك في تدعيم العقيدة الماتريدية لأهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر.
مؤلفاته:
تدل عناوين الكتب التي يذكرها المؤرخون للامام الماتريدي على أنه كرس حياته للدفاع عن العقيدة والرد على المنحرفين عن السنة، كما تدل أيضاً على سعة معارفه والمامه بعلوم الدين من فقه وأصول وكلام وتفسير.
فقد رد على المعتزلة ونقض أصولهم الخمسة وتعقب الكعبي بالذات، امام أهل الأرض عند المعتزلة ومعاصر الماتريدي فنقض آراءه ومؤلفاته، ففي الرد على المعتزلة صنف “بيان وهم المعتزلة”، و”رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي”، وفي نقض آراء الكعبي ومؤلفاته صنف رد “أوائل الأدلة للكعبي”، ورد “تهذيب الجدل للكعبي” ورد “وعيد الفساق للكعبي”.
وكذلك رد على القرامطة والروافض وصنف في ذلك “الرد على أصول القرامطة” ورد “كتاب الإمامة لبعض الروافض”. أما مؤلفاته في أصول الفقه فهي “مآخذ الشرائع” و”كتاب الجدل”، وهو فوق ذلك يكتب في التفسير والكلام على طريقة أهل السنة، كما يصنف في الفقه فيسمى كتابه في التفسير “تأويلات أهل السنة” أو “التأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد”، وهذا التفسير شهد سعة علم الماتريدي وغزارة معارفه في علوم الدين واللغة، ومن حسن الحظ أن حفظ لنا الزمن هذا التفسير كما حفظ لنا كتاب المقالات وكتاب التوحيد، أما كتبه الأخرى فقد ضاعت كلها.
وما زالت مؤلفاته الموجودة مخطوطة حتى الآن فيما عدا كتاب التوحيد الذي حققناه ونشرناه عام ١٩٧٠م، فكان أول عمل ينشر على الناس من أعمال الإمام الماتريدي مؤسس المدرسة الماتريدية في علم الكلام لأهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر. ولا ترجع أهمية كتاب التوحيد إلى أنه من أقدم النصوص لشيخ من شيوخ أهل السنة والجماعة، بل لأنه المصدر الأول لكل رجال المدرسة الماتريدية وشيوخها الذين جاؤوا بعد الماتريدي ونصروا مذهبه.
كتبه: د. فتح الله خليف
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة مصر