الخوارزمي الحنفي رائد التقانة في عصره فقيه حنفي مبرز ورياضي مخضرم واقتصادي قدير
كنت ولا أزال احترم عمداء العلم من كل فن سواء أكان علما دينياً أو دنيوياً، ولا بد من قول الحقيقة أنه لم يكن يخطر ببالي أن أتكلم عن الخوارزمي الفقيه الحنفي والرياضي المبدع إمام عصره وجهبذ زمانه في فنون الجبر والمقابلة والحساب والفلك مع أني كنت قد أخذت على نفسي عهدا أن ابرزَّ الجوانب الاقتصادية عند أئمة الحنفية ما استطعت إلى ذلك سبيلا. ولم يكن يخطر ببالي أيضاً أن تتقاذفني أمواج البحث إلى شخصية سامقة لها علو الكعب في فنون شتى بنى العالم المعاصر حضارته على بواكير ثمارها وبادئات معارفها.
ذات يوم وأنا أتصفح أحد المواقع التاريخية المهمة والموضوعية على شبكة النت قرأت كلاما رتيبا أخذ بمجامع قلبي وأضاف إلى حِجا عقلي ولُبي براهين ساطعة وأدلة دامغة كنت أتمنى أن أكون قد ألممت بها منذ زمن وهذا ما دفعني للكلام عن الإمام الخوارزمي الحنفي إمام الرياضيات في عصره.
رأيت كاتباً من المؤرخين المعاصرين المتجردين الثقات يكتب عن الإمام الخوارزمي مقالاً بعنوان (لولا الخوارزمي ما كان الإنترنت)[ المؤرخ الثقة الدكتور راغب السرجاني في موقعه قصة الاسلام] وتزامن ذلك مع ما كنت أعده من عدة لجمع أشتات بحث عن أشهر اقتصاديي أئمة الفقه الحنفي مما حدا بي أكثر وحضني قدما إلى مزيد من البحث عن الإمام الخوارزمي الحنفي ودره الاقتصادي الرائد وما قدمه من بواكير الأبحاث وبديع الإنتاج المعرفي الذي بنت على أسسه الحضارة العالمية معارفها وتفتقت من أكمامه تقاناتها وتكنولوجيتها.
من هو الخوارزمي
هو أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمي القرطبلي عالم مسلم, يكنى بأبي جعفر الخوارزمي. قيل أنه ولد حوالي 164هـ 781م (وهو غير مؤكد) وقيل أنه توفي بعد 232 هـ أي بعد 847م) وقيل توفي سنة 236 هـ. يعتبر من أوائل علماء الرياضيات المسلمين حيث ساهمت أعماله بدور كبير في تقدم الرياضيات في عصره.
اتصل بالخليفة العباسي المأمون وعمل في بيت الحكمة في بغداد وكسب ثقة الخليفة إذ ولاه المأمون بيت الحكمة كما عهد إليه برسم خارطة للأرض عمل فيها أكثر 70 جغرافيا.
ترك العديد من المؤلفات في علوم الفلك والجغرافيا من أهمها كتاب الجبر والمقابلة الذي يعد أهم كتبه وقد ترجم الكتاب إلى اللغة اللاتينية في سنة 1135م وقد دخلت على إثر ذلك كلمات مثل الجبر Algebra والصفر Zero إلى اللغات اللاتينية.
انتمائه لمدرسة الفقه الحنفي لم تروي لنا كتب التراجم كلاما طويلاً عن نتاجه الفقهي والديني على صعيد المذهب الحنفي بل اكتفت بأن اعترفت به إماماً وفقيهاً مبرزاً في المذهب الحنفي ولعل ميوله نحو نوع آخر من فنون العلم التي كان نادراً ما يبحث بها أقرانه من علماء عصره هي السبب وراء عدم الوقوف على آثار فقهية مهمة في هذا المضمار بل على العكس خلف نتاجا وتراثا علميا رائعا وحافلا في فنون أخرى وكأنه ارتأى أن سد الثغرة في هذا النوع من فنون العلم كان واجبا ملحا لا يقل أهمية عن علوم الشريعة ذاتها. وهذا ما دعاني للكلام عنه كإمام من أئمة الحنفية المبرزين في عصره إذ أن مدرسة الحنفية الفقهية كانت تسمى مدرسة الرأي أو مدرسة العقل والقياس وليست علوم الرياضيات والحساب ومشتقاتها ببعيدة عن مجامع هذه الفنون وروحها.
ولعل أهم ما يؤكد منزلة الإمام الخوارزمي كشخصية حنفية متميزة هو عرض الخليفة المأمون عليه منصب القضاء مرات عده وفي كل مره يرفض ولعل رفضه لمنصب القضاء سببه ما لهذا المنصب من حساسية عالية وهو نفس السبب الذي دعا أبا حنيفة نفسه من قبل لرفض المنصب. ومن المعهود في ذلك الزمان أن منصب القضاء لا يوكل إلى شخص إلا إذا بلغ رتبة في الفقه والفهم والعلم والاجتهاد يكون قد فاق بها أقرانه وبز فيها أئمة عصره، ومن الجدير بالذكر أن الخوارزمي ارتضى لنفسه أن يكون قيماً على خزانة فقه المأمون وهذا منصب علمي رفيع لكنه قد لا يكون بسوية مرتبة قاضي في مؤسسة الخلافة وذلك لإدراكه أنه في هذا الموقع العلمي الرفيع قد يكون أنفع لأمته ودينه إذ يسد بذلك الفن – الجبر والمقابلة- ما هو حاصل من نقص أو قصور في علوم أمته ويؤدي فيه رسالته بصدق أكثر مما لو كان قاضياً.
وبعد هذا كله تسعفنا التراجم بأن الخليفة المأمون كلفه بتأليف كتابه ” الجبر والمقابلة ” لتخفيف حسابات علم المواريث على الناس ( حيث تستعمل الكسور كثيرا في علم المواريث )، بالإضافة إلى انه قدم حلول عملية لتوزيع أنصبة الإرث حسب الشريعة الإسلامية على اعتبار أن علم الفرائض نوعان: أحكام وحساب. وكل هذا يصب في خانة إمامته الفقهية الحنفية البارعة التي تشهد بنبوغه وتوظيف العلوم الدنيوية لخدمة الدين.
ومع أن مشروعه الذي كلف به من قبل الخليفة المأمون كان من منطلق تسخير العلوم الدنيوية لخدمة العلوم الدينية إلا أن لم يسلم من الانتقاد والمعارضة من قبل بعض العلماء وخصوصا ممن أتو بعده بزمن.
إلا أن البعض الآخر من الفقهاء وخصوصا الحنفية منهم طبق نظرية الخوارزمي الحسابية في الجبر على مسائل الميراث وذكروا في كتبهم مسائل منها وصرحوا فيها بأن الخوارزمي رأيه في هذه المسألة كذا وكذا وهذا دليل على إقرارهم بإمامته في الفقه وزيادة على ذلك ارتضائهم لاجتهاده في فن الجبر والحساب وتوظيفه لهذا الفن في مسائل الفقه والميراث وأضرابها، وقد تكرر هذا النوع من المسائل مرات عده في كتبهم وهذا إن دل على شيء يدل على ما ذهب إليه الباحث من أن الإمام الخوارزمي إمام ضليع في الفقه الحنفي لكن شمس نبوغه أشرقت من جانب الجبر والحساب والمقابلة ومنها سطع نجمه.
فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد جاء في المحيط البرهاني من كتب الحنفية ما يشهد لكلامنا السابق بالقول: وذكر محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب «الجبر والمقابلة» في كتابه: ((أن المريض إذا وهب جاريته من رجل وسلمها إلى الموهوب له فوطئها الموهوب له ومات الواهب ولا مال له غير الجارية ولم يجز الورثة الهبة ويعصب في الثلثين كان على الموهوب له ثلثا عقر الجارية للورثة، وهذا يشير إلى أن حق الورثة يستند ولا يقتصر على حالة الموت، ذكر جواب المسألة على هذا الوجه ولم يسنده إلى أصحابنا، فإن كان ما ذكر هو صحيحاً لبطلت الهبة في الثلث الباقي في مسألتنا لكن لا يكاد يصح؛ لأنه مخالف لجواب سائر كتب أصحابنا أن حق الورثة وملكهم لا يستند بل يقتصر، وإن العقر لا يجب))[المحيط البرهاني للإمام برهان الدين ابن مازة – (6 / 191)].
أضف إلى ذلك أن جما غفيرا من العلماء القدامى الذين كان لهم علو الكعب وعظيم المنزلة في هذا الدين لما لهم من تصانيف عظيمة تلقتها الأمة بالقبول والتسليم والثناء عليها نقلو عن الإمام الخوارزمي توظيفه لعلم الحساب في ضبط وتحقيق حوادث وواقعات تاريخية كبرى على صعيد الأمة الإسلامية مرتضين بذلك نهجه هذا في توظيف الحساب والجبر لخدمة قضايا تاريخية كبرى وأحداث مهمة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي كزمن ولادة النبي محمد وزمن هجرته إلى المدينة، فهذا هو أمير المؤمنين في الحديث ابن حجر العسقلاني إمام عصره ينقل عن الإمام الخوارزمي ويستشهد برأيه في تحديد زمن خروج النبي إلى المدينة بدقة.
فقد جاء في فتح الباري لابن حجر: [ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّد بْن مُوسَى الْخُوَارِزْمِيّ قَالَ : إِنَّهُ – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ مَكَّة يَوْم الْخَمِيس][جاء في فتح الباري لابن حجر – (11 / 236)].
كما جاء أيضا في إتحاف القاري بدرر البخاري: [وقال الحاكم: ( تواترت الأخبار أن خروجه – صلى الله عليه وسلم – كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال إنه خرج من مكة يوم الخميس][إتحاف القاري بدرر البخاري – (3 / 78)].
وجاء في عمدة القاري:[ وقال الخوارزمي من حين ولد إلى حين أسري به أحد وخمسون سنة وسبعة أشهر وثمانية وعشرون يوما ومنه إلى اليوم الذي هاجر سنة وشهران ويوم فذلك ثلاث وخمسون سنة وكان ذلك يوم الخميس][عمدة القاري شرح صحيح البخاري – (6 / 460)].
(أبي علم الحاسوب) واضع أسس اللوغاريتم والمؤسس الحقيقي لشبكة النت
أما عن جانب نبوغ الإمام الخوارزمي في الحساب فقد ابتكر الخوارزمي مفهوم الخوارزمية في الرياضيات وعلم الحاسوب، (مما أعطاه لقب أبي علم الحاسوب عند البعض)، حتى أن كلمة خوارزمية في العديد من اللغات (و منها algorithm بالانكليزية) اشتقت من اسمه، بالإضافة لذلك، قام الخوارزمي بأعمال هامة في حقول الجبر والمثلثات والفلك والجغرافية و رسم الخرائط. أدت أعماله المنهجية و المنطقية في حل المعادلات من الدرجة الثانية إلى نشوء علم الجبر، حتى أن العلم اخذ اسمه من كتابه حساب الجبر والمقابلة، الذي نشره عام 830م، وانتقلت هذه الكلمة إلى العديد من اللغات (Algebra في الانكليزية.
يذكر عميد محرري صحيفة فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ الألمانية، فولفغانغ غونتر ليرش، إنه ما كان للعالم اليوم أن يرى الإنترنت أو الحاسوب لولا ما سطره الخوارزمي من نظريات ومفاهيم مؤسسه لعلمي الجبر واللوغاريتمات ووضعه للقواعد الأساسية لعلم الحساب الحديث.
ويقول ليرش الذي يعد أبرز الصحفيين الألمان المتخصصين في تاريخ الحضارة الإسلامية “إن رواد علوم الرياضيات الألمانية الحديثة آدم ريزا وكارل فريدريش غاوس وكورت جويديل بنوا نتائج أبحاثهم الباهرة على ما أخذوه من نتائج توصل إليها الخوارزمي، الذي ينسب إليه مفهوم الخوارزمية في الرياضيات ويعد عند بعض كبار علماء الرياضيات الأب الروحي لعلم الحاسوب”.
وأضاف “لا تجري الآن مناقشة علمية حول أهمية الإنترنت دون أن يستدل فيها بالخوارزمية التي توصل إليها الفلكي والرياضي المسلم الكبير، الذي يعود نسبه إلى منطقة خوارزم الواقعة حاليا بين أوزباكستان وتركمانستان.
ويذكر ليرش – أن الخوارزمي يعد واحدا من أشهر علماء الرياضيات والفلك والحساب في العالمين العربي والإسلامي. كما نبه الصحفي الألماني إلى أن ترجمة أعمال الخوارزمي إلى اللاتينية في العصور الوسطى ساعدت أوروبا في الوصول إلى ما تستخدمه الآن من نظريات حديثة في علوم الرياضيات والحساب، مشيرا إلى أن صاحب كتاب “حساب الجبر والمقابلة” هو واضع أسس علمي الجبر وحساب اللوغاريتمات وأول من أدخل الصفر في العمليات الحسابية ومبتكر علامة التساوي وحاصل ضرب علامات الجمع والطرح. ونوه إلى أن محمد بن موسى الخوارزمي اعتمد في معادلاته الرياضية على الأرقام والعلامات الرياضية واختلف بذلك عن اليونانيين الذين ركزوا في معادلاتهم على استخدام الحروف والرسوم [الدكتور راغب السرجاني في موقعه قصة الاسلام].
ولا يخفى على احد اليوم الأثر الكبير لا بل البالغ للحاسوب في الاقتصاد عامة والإسلامي خاصة, فعجلة الاقتصاد ومحركها اليوم هو الحاسوب ويكفي على ذلك شاهدا البورصات والمصارف والمؤسسات المالية والتجارات الالكترونية وأنظمة الدفع والتسديد الالكتروني ونحو ذلك ومدى اعتماد هذه المنظومات المالية الاقتصادية على الحاسوب في ترويج وتخديم قطاعاتها وزبائنها وكل ذلك فيه لأبي جعفر الخوارزمي قصب السبق غذ هو أبو الحاسوب حقاً.
المؤلف: حسام عبد الله
المصدر: مركز أبحاث فقه المعاملات الإسلامية