القرآن هو المصدر الأول للأحكام الشرعية، وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، واعتماد الإمام اللكنوي رحمه الله على نصوص المذهب أغنى عن التعرض للكلام على هذا الأصل؛ لأنَّها قد استنبطت من القرآن، إلا أنَّه يوجد بعض المسائل يمكننا الكلام عنها تحت هذا الأصل: مسألة: أقسام الحكم التكليفي: يقسم الحكم التكليفي عند الحنفية على سبعة أقسام، وهي: الفرض، والواجب، والندب، والإباحة، والمكروه التنزيهي، والمكروه التحريمي، والحرام [ينظر: ((أصول الفقه)) للخضري (ص33)، و((أصول الفقه الإسلامي)) لبدران أبو العينين (ص257)]. ف الفرض: ما كان فعله أولى من تركه، مع منع الترك الثابت بدليل قطعي. الواجب: ما كان تركه أولي من فعله مع منع الترك الثابت بدليل ظني. السنة: ما كان فعله أولى من تركه بلا منع الترك، إن كان مما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدون من بعده.
هذا التعريف للسنة
ذكره ابن عابدين وهو الذي ارتضاه الإِمَام اللَّكْنَوِيّ بعد ذكر كثير مِنْ تعاريف الْحَنَفِيَّة، أَثناء تَحقيقه لمعنى السُّنَّة المؤكدة في (تحفة الأخيار)، إذ أدخل فيها سنة الخلفاء الراشدين، وقال: (وإليه يميل كلام صاحب (الهداية) حيث يستدل على سنية التراويح بمواظبة الخلفاء الراشدين، بل كلام جميع الفقهاء في ذلك المبحث) [تحفة الأخيار، ص84]. ولكنَّه بين أن ترك سنة الصحابة ليس بمثابة ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ومبنى هذا على أنَّ سنة الخلفاء أيضاً سنة مؤكدة كالسنة النبوية، إلا أنَّ الإثم في تركها دون في تركها، وأنَّ الاقتداء بفعل الصحابة عموماً مندوب ٌ، وبفعل الخلفاء خصوصاً لازمٌ، ولاسيما الشيخان النيران منهم)[تحفة الأخيار،ص134]. وكذلك نبه على أنَّ السنة كما تثبت بالمواظبة تثبت بالترغيب والاهتمام، فقال: (الحقُّ أنَّ السُّنِّيَّة كما تَثبتُ بالمواظبةِ، كذلك تَثبتُ بالتَّرغيبِ البالغ، وإظهار الاهتمام بالفعلِ، كما حقَّقنا في (تحفة الاخيار)[السِّعَاية،1: 116]. وتفصيل هذا التحقيق على ما ورد في(تحفة الأخيار) هو: أنَّ(مواظبة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي هي مَدارُ السُّنية عند جمعٍ، وتَنقسِمُ إلى قسمينِ:
أحدُهما
المواظبةُ الفعلية، وهي أن يواظب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على فعلٍ بنفسه، كالسُّنن الرَّواتب وغيرها. وثانيهما: أن يُواظب على تشريعِهِ، والأمر به، والترغيب إليه: كالأذان للصَّلاةِ، فإِنَّه سنةٌ مُؤكدة باتفاق مِنْ يعتد بِهِ مِنْ العلماء، مع أَنَّه لم يفعله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بنفسِهِ مَرةً أَيْضًا، فَضلاً عن أن يُواظبَ عليه… فوَجْهُ كَونِهِ سُنةً مؤكدةً لَيْسَ إلا المواظبة التَّشريعية. وكذلك نقول في مواظبة الخلفاء: إنَّها على قسمينِ: مُواظبةٌ فعليةٌ، ومُواظبةٌ تشريعيةٌ، وكلٌّ مِنْ هذه الأنواع الأربعة مُوجِبٌ للسُّنية، يأثَمُ بتركِها كما دَلَّ عليه حديث: (عليكم بسنتي وسنَّةُ الخلفاءِ الرَّاشدين)[في صحيح ابن حبان،1: 179)، و(المستدرك،1: 174)، و(المسند المستخرج،1: 36)، و(جامع الترمذي،5: 44)، و(سنن الدارمي،1: 57]، وحديث: (اقتدوا باللَّذينِ مِن بعدي: أَبِي بَكْرٍ، وعُمَر)[في (المستدرك،3: 79)، و(جامع الترمذي،5: 609)، و(سنن ابن ماجة،1: 37))، و(مصنف ابن أبي شيبة،6: 350)، و(مسند البزار،7: 248)، و(مسند أحمد)((5: 382))، و(المعجم الكبير97]، وغير ذلك)[تحفة الأخيار،ص121-122].
وفي كلامه السابق رد على ابن الهمام من اعتبار السنة بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((فما لرجل أن يأخذ بقول ابن الهمام وحده فِي هذا المبحث، مع كونه مخالفاً للمذهب والحديث، أما كونه مخالفاً؛ فلما ذكرنا عن جمع منهم، وأما كونه مخالفاً للحديث؛ فلما أوردنا سابقاً منْ الأخبار الدالة على لزوم اتباع سنن الخلفاء ولاسيما الشيخين منهم))[((تحفة الأخيار))(ص85)].
وقال أيضاً بعد ذكر كلام ابن الهمام: ((وعندي هو كلام غير مقبول، فإنَّ اقتصار السنية على المواظبة النبوية غير مسْلَّم عند المحققين مِن أصحابنا)[تحفة الأخيار،ص50]. وذكر رحمه الله أنَّ (ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما
سنة الهدى، ويقال لها السنة المؤكدة، وهي التي يلام تاركها، وهي إنَّما تكون بالمواظبة على وجه العبادة.
وثانيهما
السنة الزائدة: وهي التي واظب عليها على سبيل العادة، وهي التي تساوي الاستحباب في أنَّه يثاب فاعلها ولا يلام تاركها))[عمدة الرعاية،1: 68)].
والمندوب
ما كان فعله أولى من تركه بلا منع الترك، ولم يواظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء،(وهو ما يكون مطلوباً شرعاً من غير ذم على تركه، بخلاف السنة المؤكدة، ويسمى مستحباً وأدباً وفضيلة ونفلاً، وقد يفسر بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة وترك أخرى ولم يواظب عليه، وهذا ِأخص من الأول))[عمدة الرعاية،1: 68)]. وبين رحمه الله أنَّ الندب يثبت بالأحاديث الضعيفة إذا لم تكن شديدة الضعف وكانت مندرجة تحت أصلٍ شرعي، فقال: (الحقُّ في هذا المقام: أَنَّهُ إِذَا لم يثبت ندبُ شَيْء أَو جوازهُ بخصوصه بحديثٍ صَحِيح، وَوَرد بِذَلِكَ حديثٌ ضعيف، ليْس شديدَ الضعف: يَثبت استحبابُه وجوازُه به، بشرط أن يكونَ مندرجاً تحت أصلٍٍ شرعي، ولا يكونَ مناقضاً للأصول الشَّرعيَّة والأدلَّة الصَّحيحةِ))[((الأجوبة الفاضلة))(ص55)]. وقال: ((وخلاصة الكلام، الرَّافع للأوهام، هو أنَّ ثُبوتَ الاستحبابِ، أو الكراهةِ ـ الَّتِي هي فِي قوةِ الاستحباب ـ أو الجوازِ بالحديثِ الضَّعيف مع الشُّروطِ المُتَقدِّمةِ لا يُنافي قولَهم: إنَّه لا يُثبِت الأحكامَ الشَّرعية، فإنَّ الحكم باستحباب شيءٍ دلَّ عليه الضَّعيفُ أو كرهتِهِ: احتياطيٌّ، والحكمَ بجوازِ شيءٍ دَلَّ عليه تأكيدٌ لما ثَبَت بدلائلَ أُخَر، فلا يَلزمُ منه ثبوتُ شيء من الأحكام في نفس الأمر، ومن حيث الاعتقادُ، نعم لو لم تُلاحَظ الشَّروطُ المتقدِّمةُ، لزِمَ الإشكال البته. ولعلك تتفطَّنُ مِنْ هذا البيان الصَّرِيح، والتِّبيان الرَّفيع دَفْعَ ما يُتوهَّمُ من صَنيع الفقهاءِ والمحدِّثين، حيثُ يُثبتونَ الاستحبابَ ونحوَه بالأحاديثِ الضَّعيفة في مَواضعَ كثيرةٍ، وَيَستنكفونَ عَنهُ في مَواضعَ كثيرةٍ، وهل هذا إلا تعارُضٌ وَتساقُطٌ؟ وجهُ الدَّفع أنَّ المواضعَ الَّتِي أثبتوا فِيهَا الاستحبابَ بالضَّعيفةِ، هي مَا لم يَطَّلعوا على شدَّةِ الضَّعف فِي أحاديثها، والتي استنكفوا فيها عن ذلك، وعلَّلوا بكونِ الأحاديث ضعيفة هي الَّتِي لم تَدخُل الأعمالُ الثابتةُ بها تحتَ الأصولِ الشَّرعيَّةِ، أَوْ وجدوا فِي تلك الأحاديثِ ضَعفاً شديداً، فأسقطوها عن الاعتبارِ بالكليةِ))[ ((ظفر الأماني)) (ص 200)].
والحرام
إن كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل[((التوضيح))(2: 124)].
والمكروه التحريمي
إن كان الترك أولى من الفعل بلا منع الفعل وكان إلى الحرمة أقرب، أي يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة، فترك الواجب حرام يستحق العقوبة بالنار، وترك السنة المؤكدة قريب من الحرام يستحق حرمان الشفاعة[ينظر: ((التلويح))(2: 126)].
والمكروه التنزيهي
إن كان الترك أولى من الفعل بلا منع الترك وكان إلى الحل أقرب، أي أنَّه لا يعاقب فاعله أصلاً لكن يثاب تاركه أدنى ثواب.
والمباح
إن استوى الفعل والترك[ينظر: ((التوضيح))(2: 124-126)].
مسألة: المطلق والمجمل
عرَّف الإمام اللكنوي رحمه الله المطلق والمجمل وبين الفرق بينهما، فقال: المشهور في تعريف المطلق: أنَّه المعترض للذات دون الصفات لا نفياً ولا اثباتاً. وبعبارة أخرى: المتعين ذاتاً المبهم وصفاً. وبعبارة أخرى: المعلوم المعنى المجهول الكيفية. وعرَّفه التفتازاني في ((التلويح)) بأنَّ
المطلق
هو الشائع في جنسه بمعنى أنَّه حصة من الحقيقة محتملة لحصص كثيرة من غير شمول ولا تعيين. ويقابله المقيّد: وهو ما أُخرجَ عن الإبهام والشيوعِ بوجهٍ ما كـ((رقبةٍ مؤمنة))، فإنَّها خرجت عن شيوعِ المؤمنة وغيرها، وإن كانت شائعةً في الرقبات المؤمنات.
والصحيح في تعريف المجمل: أنَّه ما خفي المراد منه لنفس اللفظ خفاءً لا يدرك إلا ببيان المجمل، سواء كان ذلك الخفاء لتزاحم المعاني المتساوية الإقدام: كالمشترك الذي لم يظهر ترجيح أحد معانيه، أو لغرابة اللفظ: كقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً}[المعارج: ١9]، فلا يعلم معنى الهلوع لغرابته، فوصل الله بيانه بقوله {إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}[المعارج: ٢٠ – ٢١]، أو للانتقال من معناه الظاهر المعلوم إلى ماهو غير معلوم: كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}[البقرة: ٤٣]،
فإنَّ معنى الصلاة لغةً: الدعاء، وهو ليس بمراد قطعاً، ولا يعلم معنى آخر له ما لم يبينه المجمل، فبين الله تعالى ورسوله معنى الصلاة وكيفيتها قولاً وعملاًَ فزال إجماله، كذا حققه في ((التلويح)) وغيره.
والفرق بين المجمل والمطلق: أنَّ المجمل مجهول المراد متوقف الحال حتى يأتي البيان من المتكلَّم موصولاً أو مفصولاً، فإذا جاء البيان التحق ذلك بأصله، وصار المجمل حينئذٍ مفيداً لما أريد منه. والمطلقُ معلوم المراد، مجهولُ الكيفيّة، غير محتاجٍ إلى البيان، وحكمه أنَّه يحمل على الأقلّ المتيقّن[ينظر: ((السعاية))(2: 92)، و((عمدة الرعاية))(1: 6)]. ومشى رحمه الله في هذه المسألة ممشى الحنفية في الأخذ بعدم تخصيص مطلق القرآن إلا بالأحاديث المتواترة أو المشهورة، وأنَّه لا يجوز الزيادة عليه بحديث الآحاد وإن كان صحيحاً[ينظر: ((أصول الشاشي))(ص29)]، فقال في ((عمدة الرعاية))(1: 61، 108): ((الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد لا تجوز فضلاً عن القياس))، وأذكر تطبيقاً لهذا الأصل لمسألتين
أحدهما خالف فيها المذهب الحنفي لما ظهر له واعراضه أدلتهم، والثانية: وافق فيها المذهب الحنفي، وهما كالآتي:
المسألة الأولى
مسألة مقدار أقل المهر، اختار الإمام اللكنوي رحمه الله العمل بمطلق الآية ولم يأخذ بالحديث الوارد فيه، فقال: ((المختار في بابِ المهرِ هو العمَلُ بإطلاقِ قوله:{وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم}[النساء: ٢٤] الآية، كيف لا، وقد تقرَّر في أصولِ الفقه أنَّ العمل بإطلاق الكتاب أوجَبُ، ولا تجوز الزيادة بخبر الواحد عليه وإن كان صحيحاً، فكيف يُزادُ بمثل هذا الحديث الذي تَناهَى حالُه في الضعف على الكتاب ؟!… وبالجملةِ لم يأتِ أَصحابنا في تقديرِ المهرِ بعشرة دارهمٍ بدليلٍٍ شافٍ، فالعَمَلُ بإطلاق القرآن أوْجَبُ، وهذا وإن كان قولاً مُخالفاً للحنفية، لكنَّه هو القولُ الفَيْصَل، فتَشَكَّرْ، فإِنَّه بحثٌ شريف لا تَطَّلعُ عليه مِن غيرِي))[((ظفر الأماني))(ص 174)].
المسألة الثانية
مسألة جواز التكبير بالفارسية، إذ قال رحمه الله في ((آكام النفائس))(ص51): ((يجوز التَّكْبِير بالفارسية))، استناداً إلى مطلق القرآن وعدم جواز الزيادة عليه بخبر الواحد، فقال: (( لم يقم دليل قاطع على اشتراط اللغة العربية في التَّكْبِير، ليصحَّ بِه النَّكير، بل ظاهرُ الآية والأحاديث مطلق، لا يفيد إِلا اشتراط الذّكر المطلق، والأحاديث الواردة في هذا الباب القولية والفعلية لا تدلُ على اختصاص التَّكْبِير بالعربي، بحيث لا يجزي غير العربي، بل غاية ما تثبت منه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى عليه، ورغب غيره إِليه، وهو إِنَّما يثبت الوجوب أَو السُّنية، لا أنَّه لا يجزي التَّكْبِير بالفارسية، وإن كانت الأحاديث دالة على اختصاصه بالعربي بالغاً على حدِّ الاشتراط، فالآية مُعراة عن هذا الاشتراط، ولا تصلح الآحاد ناسخة لحكم الكتاب، ولا مُقيد لإطلاق ما في الباب))[آكام النفائس،ص52-53].
مسألة مفهوم المخالفة
مفهوم المخالفة: (وهو أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما ثبت في المنطوق)[التنقيح،1: 141)، وينظر: (أصول الفقه الإسلامي) لبدران أبو العينين (ص430)]. من المعروف في كتب الأصول في مبحث الألفاظ عدم أخذ الحنفية بمفهوم المخالفة في النصوص الشرعية، إلا أنَّ بعضهم قد عمم هذا الحكم في الأحناف مطلقاً حتى لعبارات فقهائهم في كتبهم، وقد ردَّ الإمام اللكنوي على هذا الزعم، حيث قال: ((إنَّ نسبة عدم القول بمفهومِ المخالفةِ إلى الحنفية مطلقاً فرية قطعاً، ومثله لا يصدر إلا ممن لم تتيسر له معاينة كتب فقههم وِأصولهم، ولم يرزق وسعة النَّظر في دفاترهم وزُبرهم، فإنَّهم إِنَّما ينكرون ذلك في الأحكام الشَّرعية لا في العبارات العلميَّة))[((تذكرة الراشد))(ص 271)]. والله أعلم.
المؤلف: الدكتور صلاح محمد ابو الحاج
المصدر: مركز انوار العلماء الثقافي الدولي