إن الخوض في الحديث عن دور النقد في التقديرات الشرعية أمرٌ ليس بالسهل, وخصوصا إذا كان الحديث عن مقادير شرعية الهدف من دراستها هو الوقوف على مدى دقتها وانضباطها. هذا إذا كانت مجردة بنفسها, فما هو الحال فيما لو وُظِّفَ فيها مسائل النقد (الدرهم) وَرُّكِبَ المزيج من (مسائل النقد والتقديرات الشرعية) على مسائل الطهارة. فهو أمر تتآلف فيه وتلتقي عناصر يصعب فهم المغزى من تلاقيها لولا أن جمع بينها الفقه الإسلامي وبين مغازليها ومرادتها الاجتهاد الحنفي المبدع في افتراض المسائل وحلها واستحداث النوازل وشرح معضلاتها.
وكذلك فإن تتبع عبارات الفقهاء وما أوردوه من مقادير شرعية وما أسهبوا في شرحه واستفاضوا في توجيه الرواية فيه هو ركوب للصعب من الأمور خصوصا في مثل هذه المسائل المركبة.
وبالتالي يمكن القول أن هذا البحث هو مخاضة عسيرة في البحث عن دور النقد (الدرهم) وأثره في التقديرات الشرعية عند الحنفية. وليس هذا وحسب بل دراسة وجه جديد من وجه الإبداع عند الحنفية يتمثل في توظيف النقد (الدرهم) – كوظيفة معيارية وليس وظيفة ثمنية- واستحداث دور جديد له في مقادير الشرع يظهر أثرها في مسائل النجاسة المعفو عنها.
ولقائل أن يقول وهل للدرهم باعتباره نقد- أوجد الله فيه صفة الثمنية- وظيفة في أبواب الطهارة ؟ فهذا الأمر للوهلة الأولى أمر مستهجن لكن لو تتبعنا ما ورد في اجتهادات الحنفية في كتبهم المعتبرة ومتونهم المشتهرة لعلمنا كيف أن مدرسة الاجتهاد الحنفي كانت بحق- وبدون تعصب- سباقة في إبداع واستنباط أحكام جديدة لم تسبقها إليها مدرسة فقهية اجتهادية أخرى. وبما أن لكل مدرسة فقهية نهجهاً واتجاهها في طريقة عرض الأحكام واستنباطها فإنه يمكن القول أن موضوع هذا المقال هو بسط لموضوع مهم من وجهة نظر المدرسة الحنفية بعنوان (أثر الدرهم كأداة اقتصادية في التقديرات الشرعية عند الحنفية ودوره في اجتهادات مسائل النجاسة والطهارة).
ولكي يستقيم القول فلا بد من الحديث أولا عن الدرهم كأداة نقدية اقتصادية ثم آلية ربط هذه الأداة بالمقادير الشرعية وكيفية تركيب هذا الدور على مسائل النجاسة المعفو عنها في الاجتهاد الحنفي . وذلك وفق الترتيب التالي:
التاريخ النقدي للدرهم في الفقه الإسلامي
يعتبر الدرهم من وجهة نظر الشرع أداة اقتصادية أصيلة تقاس بثمنيتها قيم الأشياء وله تاريخه المتجذر في التراث الفقهي فضلاً عن مكانته المعاملاتية المتفردة في مسائل الفقه الاقتصادية عند الفقهاء باعتباره نوعاً من أنواع النقود التي تتميز بخواص تميزه عن سائر أنواع النقود الأخرى كالدينار وغيره من ضروب النقد – حتى المستحدث منها اليوم كالنقد الورقي -. فالدرهم وإن كان من حيث الصفة أدنى رتبة من الدينار على اعتبار أن الدينار مضروب من الذهب والدرهم مضروب من الفضة, إلا أن لكل منهما شأنه ومنزلته و خصوصيته في ميازين مسائل الفقه والمبايعات منذ عهد استقرار الأحكام , لا بل لا أكون مبالغا إن قلت أن وجود الدرهم قد سبق في نشأته ووجوده تاريخ نشوء الفقه الإسلامي نفسه – على اعتبار أن التعامل بالدرهم على اختلاف أشكاله وأوزانه كان جاريا العمل به قبل وبعد ظهور الإسلام وبعثة خير المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت جزيرة العرب تتبع في نقدها للروم في الدينار وللفرس في الدرهم . فعندما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان العرب يتعاملون بهذين النقدين، الذهب في صورة “دنانير” والفضة في صورة “دراهم”، وكانت هذه النقود ترد إليهم من الممالك الكبيرة المجاورة، كانت النقود الذهبية “الدنانير” ترد في الأغلب من بلاد الروم البيزنطيين، وكانت النقود الفضية “الدراهم” ترد من ديار الفرس، وكانت هذه الدراهم مختلفة الأوزان، ما بين كبار وصغار، وخفاف وثقال، ولهذا لم يكن أهل مكة في الجاهلية يتعاملون بها عدًا، بل وزنًا كأنها قطع أو سبائك غير مضروبة، وكانت لهم أوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم[رسالة النقود للمقريزي -ضمن كتاب “النقود العربية” ص 25]. وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة على ذلك كله بقوله صلى الله عليه وسلم: (الميزان ميزان أهل مكة)[رواه البزار وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي] وفرض زكاة الأموال في الدراهم والدنانير ، وبذلك يكون صلى الله عليه وسلم قد اعتبر كلاً من الذهب والفضة نقدًا شرعيًا، ورتب عليهما أحكامًا كثيرة[فقه الزكاة – (1 / 201)].
صورة المسألة من كتب الفقه الحنفي
جاء في اللباب: [ومن أصابه من النجاسة المغلظة كالدم والبول)…… (مقدار الدرهم فما دونه جازت الصلاة معه: لأن القليل لا يمكن التحرز عنه؛ فيجعل عفواً، وقدرناه بقدر الدرهم أخذاً عن موضع الاستنجاء (فإن زاد) عن الدرهم (لم تجز) الصلاة، ثم يروى اعتبار الدرهم من حيث المساحة، وهو قدر عرض الكف في الصحيح، ويروى من حيث الوزن، وهو الدرهم الكبير المثقال، وقيل في التوفيق بينهما: إن الأولى في الرقيق، والثانية في الكثيف، وفي الينابيع: وهذا القول أصح، وفي الزاهدي قيل: هو الأصح، واختاره جماعة، وهو أولى؛ لما فيه من إعمال الروايتين مع مناسبة التوزيع][اللباب في شرح الكتاب – (1 / 27)]
وجاء في البحر الرائق:[وقال النَّخَعِيّ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا مِقْدَارُ الْمَقْعَدَةِ فَاسْتَقْبَحُوا ذلك وَقَالُوا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ][البحر الرائق – (1 / 240)].
وذكر السرخسي:[…… القليل من النجاسة عفو ولهذا قدرنا بالدرهم على سبيل الكناية عن موضع خروج الحدث هكذا قال النخعي رحمه الله تعالى واستقبحوا ذكر المقاعد في مجالسهم فكنوا عنه بالدرهم. وكان النخعي يقول إذا بلغ مقدار الدرهم منع جواز الصلاة. وكان الشعبي يقول لا يمنع حتى يكون أكثر من قدر الدرهم وأخذنا بهذا لأنه أوسع ولأنه قد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو مبطون ولوث المبطون أكثر ومع هذا كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار والدرهم أكبر ما يكون من النقد المعروف فأما المنقطع من النقود كالسهيلي وغيره فقد قيل إنه يعتبر به وهو ضعيف والتقدير بالدرهم فيما اتفقوا على نجاسته كالخمر والبول وخرء الدجاج][المبسوط للسرخسي – (1 / 107)].
قال في بدائع الصنائع:[ ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ من الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ من حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ أو من حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ ما يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ ظُفْرَهُ كان كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْن.وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مُحَمَّدٍ في هذا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ الْمَائِعِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ][بدائع الصنائع – (1 / 80)].
الشرح والتعليق
يمكن تلخيص الصورة الفقهية التي هي محل البحث من خلال النقول السابقة بما يلي: ((أن المقدار المعفو عنه من النجاسة المغلظة الذي تصح معه الصلاة في الاجتهاد الحنفي هو ما كان مقدار الدرهم فما دونه لأنه قليل, والقليل لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا, فما زاد عن الدرهم لم تجز الصلاة معه)).
التساؤلات التي تطرحها الصورة الفقهية ونقولاتها
1) من أين أتى الحنفية بهذا التقدير الشرعي ( تقدير النجاسة المعفو عنها بالدرهم لتصح معه الصلاة) ومن عادة الفقهاء استخدام النقد (الدرهم ) في أبواب المعاملات والمبايعات فما وجه التشبيه هنا ؟ وما الحكمة من استخدامه في باب النجاسة والطهارة؟
2) أي درهم يقصد الحنفية؟ هل هو درهم معين له وزن معلوم أم درهم مخصوص متعارف عليه؟
3) تكلم الحنفية وأسهبوا في التفريع والتخريج حول مسألة وزن الدرهم في النجاسة المتجسدة, ومساحة الدرهم في النجاسة المائعة.لا بل واضطربت روايتهم كثيراً في تحديد نوع ووزن الدرهم المقصود. وهذا يثير تساؤلا مهماً وهو هل بلغ الاجتهاد عند الحنفية إلى حد أنهم استحدثوا وظائف نقدية جديدة للدرهم لم يخلق النقد لها أصلاً ؟ وهل في ذلك حط لقيمة النقد أم عدول عن القياس واستظهار لوظائف جديدة للنقد لم يتوصل لاستنباطها غير الاجتهاد الحنفي؟
في ضوء هذه المعطيات التي ساقتها النقولات الفقهية سيكون مدار البحث والإحاطة الفقهية الاقتصادية وذلك وفق الترتيب التالي:
أولاً: آلية اشتقاق الحنفية لهذا التقدير
لاشك أن الطريقة التي كنَّى بها فقهاء الحنفية عن موضع خروج النجاسة وتشبيهه بالدرهم فيه خلق رفيع وأدب جم يدل على حسن سمت وكمال أخلاق الفقهاء الربانيين فقد قيل:( من تفقه رق طبعه). ولقد صرح غير واحد من فقهاء المذهب بأنهم من فرط أدبهم كرهوا ذكر المقاعد ومكان خروج النجاسة في مجالسهم وترفعوا عنه فكنوا عنه بشيء ذي معنى, وشبهوه بشيء ذي مغزى . ولم يكن قولهم وتشبيههم عبثاً بل هو كلام دقيق غاية الدقة في القياس والتشبيه.
فقد جاء قول الغنيمي الحنفي:[ وقدرناه بقدر الدرهم أخذاً عن موضع الاستنجاء] [اللباب في شرح الكتاب -(1 /27)]. صريحا في توضيح آلية الاشتقاق.
وقال ابن نجيم [وقال النَّخَعِيّ أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا مِقْدَارُ الْمَقْعَدَةِ فَاسْتَقْبَحُوا ذلك وَقَالُوا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ][البحر الرائق – (1 /240)]. فكلامه هنا يوضح سبب لجوء الحنفية لهذا التشبيه.
وقال السرخسي [ولهذا قدرنا بالدرهم على سبيل الكناية عن موضع خروج الحدث هكذا قال النخعي رحمه الله تعالى واستقبحوا ذكر المقاعد في مجالسهم فكنوا عنه بالدرهم].
فجميع النقول السابقة تصرح بأن هذا التقدير الشرعي مشتق من تشبيه مكان خروج النجاسة بالدرهم لتشابههما بالاستدارة والحجم. ولعل بركة أدبهم وحسن سمتهم آتى أُكُلَهُ برأيي واعتقادي إذ ألهمهم الله عز وجل وأرشدهم إلى هذا القياس والتشبيه العجيب. الذي هو في الأصل تضاد ليس من عادة الحنفية الوقوع به لا بل من عادتهم تجنبه. وهم الذين يتكلمون في مسائلهم وفروعهم عن أنه إذا بلغ ثمن شيء ولو كان خسيسا من حيث القيمة , وأدنى الخسيس عندهم ما بلغ درهما لا يجوز إتلافه وإهلاكه باستخدامه لإزالة النجاسة لأنه وان قل فهو مال متقوم في نظرهم[الدرهم قدر معتبر له خطر فلا يجوز إتلافه فيما له عنه مندوحة. حاشية رد المحتار – (1 /254)] . فكيف يبلغ بهم الحد أن يحطوا من قيمة النقد (الدرهم) الذي شرف على سائر الأشياء فقيس بثمنيته قيمتها فشبهوا مكان خروج النجاسة به؟
ثانياً: هل استحدث الحنفية وظيفة جديدة للنقد(الدرهم) لم يخلق لها أصلاً ؟
بالنظر إلى وظائف النقد التي ساقها الفقهاء القدامى والمعاصرون على حد سواء فإن هذه الوظيفة التشبيهية المعيارية (تشبيه المقدار المعفو عنه بالدرهم)[قلنا ان الوظيفه هنا وظيفه معيارية وليس ثمنه] وتوظيفه كتقدير شرعي لم ترد عندهم كوظيفة من وظائف النقد المعتبرة, وهذا يعلله أن وظائف النقد وظائف ماليه معاملاتية ترد في أصناف العقود والمبايعات. لكن أن ترد وظيفة للدرهم كتقدير شرعي في المقدار المعفو عنه من النجاسة فهذا أمر أورده الحنفية في عباراتهم, ولعله لا يسلم من وجوه النقد والمعارضة. وعلي فرض أنه استنباط واستحداث مقصود من وجهة نظرهم فهل هذا أمر لا غبار عليه أم ماذا؟
الجواب: اعتقد أن من لم يُسَلِّم باعتبار هذا التقدير وظيفة جديدة من وظائف النقد (الدرهم) [عرف فقهاء المسلمين النقود بأهم وظائفها وهي: وسيلة للتداول، ومقياس للقيم، ومخزن لها، ووسيلة للسداد الآجل, وقسموا هذه الوظائف إلى قسمين:
وظيفتان أساسيتان للنقود:
* وسيط للتبادل.
* مقياس مشترك للقيمة.
وثلاث وظائف ثانوية وهي:
* تستخدم كمستودع للقيمة.
* تستخدم كمعيار للمدفوعات الآجلة.
* تستخدم كاحتياط لقروض البنوك.]
سيقول أن الله عز وجل خلق النقد كأثمان تقاس بها قيم الأشياء وهي أغلى الأشياء, ومن الصعب حمل هذا التقدير عند الحنفية على انه وظيفة جديدة من وظائف النقد استنبطوها واستحدثوها جرياً على عادتهم في الإبداع وافتراض النوازل المستجدة. هذا إن لم نقل أنه حط لقيمة النقد (الدرهم الفضي) الذي جعله الله فيه صفة الثمنية ومن كان فيه هذه الصفة المعيارية فهو ذو مكانه وشرف[قال الأمام الغزالي عن الذهب والفضة (خلقهما الله لتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى هي التوسل بهما إلى سائر الأشياء، لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء. احياء علوم الدين 4/91] وتشبيه المقدار المعفو عنه من النجاسة به فيه انتقاص كبير لهذه القيمة وحط لها.
كذلك يرى الباحث من خلال عبارات الحنفية أنهم عندما قدروا النجاسة المعفو عنها بالدرهم المثقالي الكبير الذي يساوي عشرين قيراطا فإنه لم يكن مقصودهم صفة الثمنية في الدرهم فكأنهم اخرجوه عن معنى الثمنية وارادوا بالمقدار الوزني على اعتبار أن مسألة تقدير الأوزان بالدراهم كان معمولاً بها.
وبالمقابل ربما يدافع الحنفية عن وجهة نظرهم هذه بالقول بأن الأمر لا يعدو أن يكون تشبيهاً, وهذا التشبيه ليس فيه خروج وعدول بالدرهم عن قواعد القياس لا بل هو إعمال للوظيفة المعيارية للدرهم وليس للوظيفة الثمنية, وهم لا يقصدون أصلاً استحداث وظيفة جديدة للنقد (الدرهم) وإنما جاءت عباراتهم جرياً على العادة بالتشبيه بما هو منضبط عادةً فقدروا النجاسة المعفو عنها وشبهوها بما هو منضبط في رأيهم- مع التحفظ على هذا الرأي- وهو الدرهم من حيث الوزن والمساحة.
ويجاب عن هذا بالقول: أن رواية الدرهم وتحقيق القول في وزنه ومساحته جاءت مضطربة جدا في روايات المذهب الحنفي وبهذا تنتقض نظرية (ما هو منضبط) السابقة الذكر .
فقد جاء على سبيل المثال في كتاب البناية شرح الهداية عند الكلام عن تقدير النجاسة المعفو عنها: [والمراد به الدرهم الشهليلي [المغرب في ترتيب المعرب – (1 / 460) شهل الشِّهْليليُّ من الدَّراهم مقدارُ عَرْض الكفّ] نسبة إلى موضع يسمى الشهليل, وفي المغرب : الشهليلي من الدراهم: مقدار عرض الكف, وفي المحيط: الدرهم ما يكون مثل عرض الكف, وفي صلاة الأحد: الدرهم الكبير المثقال,ومعناه ما يبلغ وزنه مثقالا.
وفي بعض الكتب: قدره بالدرهم البغلي. وعند السرخسي رحمه الله يعتبر بدرهم زمانه, وفي الأسرار: دون الدرهم لا يمنع جواز الصلاة لكن تكره الصلاة معها][البناية شرح الهداية 724/1]. فهذا النقل يعكس حالة الاضطراب في التقدير عندهم. لكن سيأتي الكلام فيما يستقبل من هذا البحث عن كيفية وآلية التوفيق بين الروايات و كيف خرج الحنفية فيما بعد بقول منضبط أو رأي متفق عليه مفتى به على أقل تقدير.
مسألة فرعية: هل الدراهم هي أثمان بأصلها فتكون ألاثمان نوعان ذهب وفضه . أم أن الأثمان هي الذهب, والدراهم هي تابعة لها وتقدر بها. وفائدة الخوض في هذه المسألة هو التحقق من مسألة ما إذا كان المقصود بالتقدير- تقدير النجاسة المعفو عنها بالدرهم- بالدرهم عند الحنفية هو إبراز الوظيفة الثمنية أو الوظيفة المعيارية. وهذه الجزئية بالذات تحدد اتجاه البحث وتؤكد لنا أو تنفي أن مراد الحنفية من هذا التقدير الشرعي هل هو استحداث لوظيفة جديدة للنقد لم تخلق لها أصلاً أم لا.
والجواب يكون من خلال الكلام التالي:
الذي نقله أحد الباحثين بقوله : فقد اعترض على المشتغلين بالفقه في العصر الحديث بأنهم جعلوا نصابين للزكاة عند تقديرهم لنصاب الزكاة في الذهب والفضة. وليس هذا مقصودا وإنما المقصود أنه هناك نصاب واحد للزكاة, ومن هنا فإنهم يرون أن العملة الذهبية أو ما يقوم مقامها يؤدي وظيفتها هو الأساس في التقدير.
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: انه لابد أن تكون في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم قيمة (200درهم) هي قيمة (عشرين مثقالاً) من الذهب لأنهما نوع واحد من الزكاة مقابل للنعم والثمار والزرع وإذا كانت قيمتها واحدة في عصره صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت في الاقتصاد العالمي أن الذهب وحده هو الذي يصلح مقياسا لتقدير قيم الأشياء ولذا لا تتغير قيمته في مختلف العصور غالبا لأنه الميزان الثابت لتقدير ما في الأشياء من قيم وثبت أن الفضة ليست كذلك وإن كانت قد التقت مع الذهب في كونهما معا كانا نقدا رئيسا في صدر الإسلام فإن قيمة الفضة تختلف واختلفت بمضي العصور ولذلك نعتبر الذهب في الزكاة وحده التقدير[المقادير الشرعية والاحكام الفقهية المتعلقة بها- د.محمد نجم الدين الكردي, ص 63].
وبالتالي بالاستناد إلى هذا الرأي القائل أن الأصل في الثمنية وتقدير الأنصبة الشرعية في الزكاة هو الذهب وليس الفضة . والفضة تابعة له وليست أساسا تقديريا في الأصل. فمن هنا يمكن تعليل رأي الحنفية بأنهم قدروا النجاسة المعفو عنها بالدرهم الفضي الذي هو ليس في الأصل أساساً في الثمنية. مما يعني أنهم أرادوا من هذا التقدير الصفة المعيارية وليس الصفة النقدية الثمنية فلم يعد المأخذ على الحنفية قائما من ناحية أنهم حطوا من قيمة النقد بهذا التقدير.
ثالثاً: الدرهم وزنا والدرهم مساحة
توحي النقول السابقة أن الحنفية تعاملوا مع الدرهم من ناحيتين قياسيتين:
الأولى: من حيث الشكل إذ قدروا النجاسة المائعة المعفو عنها بالدرهم مساحة وهو ما يساوي (مقعر الكف).
والثانية: من حيث الوزن. إذ قدروا النجاسة المتجسدة(التي لها جرم) المعفو عنها بالدرهم وزناً.
سبب اضطراب رواية الدرهم عند الحنفية
بإحالة النظر في عبارات الحنفية نجد أن رواية الدرهم عندهم مضطربة و ليس ثمة نوعية محدده من الدراهم تم اعتمادها وزنا بادئ الرأي. ولعل هذا نفسه يعود إلى عدة عوامل. منها كون الدرهم نفسه كان مضطربا أصلا من حيث الشكل والوزن تبعا لكل مصر يضرب فيه أو حسب البلاد التي يجلب منها , فضلاً عما كان يتعرض له الدرهم من وسائل الغش بأن يأخذ الناس منه قراضة فيخف وزنه
[معنى القراضة: قال أبو العباس بن سريج: إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئا كثيرا بالسبك كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } فقالوا: {أتنهانا أن نفعل في أموالنا } يعني الدراهم والدنانير { ما نشاء } من القرض ولم ينتهوا عن ذلك { فأخذتهم الصيحة } نيل الأوطار – كتاب البيوع (5 / 279)]. كما أنه مختلف مابين الإسلام وما قبله أيضا من حيث أن درهم الإسلام له وزن مغاير لوزن الدرهم الذي كان يستجلب من فارس.
وباعتقادي هذا سبب وجيه للاضطراب في رواية الدرهم عند الحنفية من حيث الأصل ابتداء حتى أننا نجد أن السرخسي – (وعند السرخسي رحمه الله يعتبر بدرهم زمانه)- أورد قولاً مفاده أن المعتبر به درهم زمانه وما ذاك إلا دليل على مدى تباين اجتهادات فقهاء الحنفية في تحديد نوع معين من الدراهم.
لكن لابد من العودة إلى عبارات المذهب لنعرف كيف اتفقوا فيما بعد على نوعية من الدراهم يظهر منها أنها توفيقية كما توحي به نصوصهم التالية:
فقد جاء في البحر الرائق:[ وَأَرَادَ بِالدِّرْهَمِ الْمِثْقَالَ الذي وَزْنُهُ عِشْرُونَ قِيرَاطًا وَعَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في كل زَمَانٍ دِرْهَمُهُ وَالْأَوَّلُ هو الصَّحِيحُ كَذَا في السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ كَعَرْضِ الْكَفِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بَسْطُ الدِّرْهَمِ من حَيْثُ الْمِسَاحَةُ وهو قَدْرُ عَرْضِ الْكَفِّ، وَصَحَّحَهُ في الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا، أو قيل من حَيْثُ الْوَزْنُ وَالْمُصَنِّفُ في كَافِيهِ . وَوَفَّقَ الْهِنْدُوَانِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمِسَاحَةِ في الرَّقِيقِ كَالْبَوْلِ وَرِوَايَةَ الْوَزْنِ في الثَّخِينِ وَاخْتَارَ هذا التَّوْفِيقَ كَثِيرٌ من الْمَشَايِخِ، وفي الْبَدَائِعِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِ ما وَرَاءَ النَّهْرِ وَصَحَّحَهُ الشَّارِحُ الزَّيْلَعِيُّ وَصَاحِبُ الْمُجْتَبَى وَأَقَرَّهُ عليه في فَتْحِ الْقَدِيرِ لِأَنَّ إعْمَالَ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى خُصُوصًا مع مُنَاسَبَةِ هذا التَّوْزِيعِ . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سُئِلَ عن قَلِيلِ النَّجَاسَةِ في الثَّوْبِ فقال إذَا كان مِثْلَ ظُفْرِي هذا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حتى يَكُونَ أَكْثَرَ منه وَظُفْرُهُ كان مِثْلُ الْمِثْقَالِ كَذَا في السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ][البحر الرائق – (1 / 240)].
وَكُلٌّ من هذه الرِّوَايَاتِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فإنه لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ من الدِّرْهَمِ من حَيْثُ الْعَرْضُ أو الْوَزْنُ وَإِنَّمَا رَجَّحَ في الْهِدَايَةِ رِوَايَةَ الْعَرْضِ لِأَنَّهَا صَرِيحَةٌ في النَّوَادِرِ وَرِوَايَةُ الْوَزْنِ لَيْسَتْ صَرِيحَةً إنَّمَا أُشِيرَ إلَيْهَا في كِتَابِ الصَّلَاةِ حَيْثُ قال الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ الْمِثْقَالِيُّ إلَيْهِ أَشَارَ في الْبَدَائِعِ
وفي بدائع الصنائع:[وَاخْتَلَفُوا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ من النَّجَاسَةِ قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ وقال الشَّعْبِيُّ لَا يَمْنَعُ حتى يَكُونَ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وهو الصَّحِيحُ لِمَا رَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظفره ( ظفر) من النَّجَاسَةِ قَلِيلًا حَيْثُ لم يَجْعَلْهُ مَانِعًا من جَوَازِ الصَّلَاةِ وَظُفْرُهُ كان قَرِيبًا من كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ وَلِأَنَّ أَثَرَ النَّجَاسَةِ في مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ عَفْوٌ وَذَلِكَ يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ خُصُوصًا في حَقِّ الْمَبْطُونِ وَلِأَنَّ في دِينِنَا سَعَةً وما قُلْنَاهُ أَوْسَعُ فَكَانَ أَلْيَقَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ثُمَّ لم يذكر في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ صَرِيحًا أَنَّ الْمُرَادَ من الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ من حَيْثُ الْعَرْضِ وَالْمِسَاحَةِ أو من حَيْثُ الْوَزْنِ وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ ما يَكُونُ عَرْضَ الْكَفِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رَوَيْنَا من حديث عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لِأَنَّ ظُفْرَهُ كان كَعَرْضِ كَفِّ أَحَدِنَا وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِقْدَارَ مِسَاحَةِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ في كِتَابِ الصَّلَاةِ الدِّرْهَمَ الْكَبِيرَ الْمِثْقَالَ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْوَزْنِ وقال الْفَقِيهُ أبو جَعْفَر الْهِنْدُوَانِيُّ لَمَّا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مُحَمَّدٍ في هذا فَنُوَفِّقُ وَنَقُولُ أَرَادَ بِذِكْرِ الْعَرْضِ تَقْدِيرَ الْمَائِعِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ تَقْدِيرُ الْمُسْتَجْسِدِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ كانت أَكْثَرَ من مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَزْنًا تُمْنَعُ وَإِلَّا فَلَا وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ][بدائع الصنائع – (1 / 80)].
من خلال النقول السابقة يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1) التقدير بالدرهم منضبط في الزكاة وغير المنضبط في النجاسة المعفو عنها ما السبب.
2) أن الناظر في عموم التقديرات الشرعية عند الحنفية فيما يتعلق بالدرهم يشعر بأن ثمة تباينا شديدا في الاجتهادات حول تحديد نوع معين من الدراهم يعتمد كأداة منضبطة يقدر على أساسها حجم النجاسة المعفو عنها.
وعلى سبيل المقارنة ومن باب النظر في الأشباه والنظائر نجد على عكس حالة الاضطراب في الرواية التي تقدير النجاسة المعفو عنها استقرارا في تقدير نصاب الزكاة بالدرهم في فريضة الزكاة إذ يعتمد الحنفية الدرهم الذي يساوي 14 قيراطا. بينما نرى أن الأغلب من فقهاء الحنفية رجح رواية الدرهم المثقالي الكبير الذي يساوي 20 قيراطا في النجاسة المعفو عنها. وهنا مدعاة للتفكر والنظر لماذا اعتمدوا في البابين درهمين مختلفين مع أن الدرهم هو الدرهم كأداة نقدية فلماذا هنا يعتمدون الكبير وهناك الصغير. ولعل الناظر في شروحهم يرى من بين السطور إيحاءات بشيء ما اضطرهم لهذا.
فالدرهم المثقالي الذي يساوي 14 قيراط إنما أخذوه واعتمدوه في تقدير نصاب الزكاة في الزمن المتأخر. بعد أن كان العمل جاريا على أوزان متعددة من الدراهم في صدر الإسلام وخصوصاً في عهد عمر بن الخطاب [المقادير الشرعية والاحكام الفقهية المتعلقة بها- د. محمد نجم الدين الكردي, ص 63] من بينها الدرهم المثقالي الكبير الذي يساوي 20 قيراطا. ولعل ابن نجيم الحنفي خير من فسر الفرق وأوضح وجه الاختلاف بين التقديرين: فقد نقل أن التنازع بين الصحابة قد حصل في مسائل الزكاة في الإيفاء والاستيفاء في الزكاة فاجتهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اتخاذ درهم ذي وزن معين وحمل الناس على التقدير به في أنصبة الزكاة الى يومنا هذا . كما يقول ابن نجيم – أي الزمن الذي يعيش فيه.
وبالتالي يفهم من كلام ابن نجيم أن الدرهم المثقالي الكبير الذي يساوي عشرين قيراطا كان له وجود قبل أن يجمع عمر الناس على اتخاذ الدرهم الذي يساوي 14 قيراطا في الزكاة . وهذا يعني أن الحنفية بقوا على الدرهم الذي يساوي 20 قيراطا في تقدير النجاسة المعفو عنها إلى يومنا هذا جرياً على ما هو قديم, واعتمدوا سواه وهو الدرهم الذي يساوي 14 قيراطا في الزكاة عملاً بما استحدثه عمر من اجتهاد .
واليك عبارة ابن نجيم وما جاء فيها ما يؤيد ما ذهب إليه الباحث: [وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الدَّرَاهِمَ كانت مُخْتَلِفَةً في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وفي زَمَنِ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما على ثَلَاثِ مَرَاتِبَ فَبَعْضُهَا كان عِشْرِينَ قِيرَاطًا مِثْلَ الدِّينَارِ وَبَعْضُهَا كان اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا ثَلَاثَةَ أَخْمَاسِ الدِّينَارِ وَبَعْضُهَا عَشَرَةُ قَرَارِيطَ نِصْفَ الدِّينَارِ فَالْأَوَّلُ وَزْنُ عَشَرَةٍ من الدَّنَانِيرِ وَالثَّانِي وَزْنُ سِتَّةٍ أَيْ كُلُّ عَشَرَةٍ منه وَزْنُ سِتَّةٍ من الدَّنَانِيرِ وَالثَّالِثُ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَيْ كُلُّ عَشْرَةٍ منه وَزْنُ خَمْسَةٍ من الدَّنَانِيرِ فَوَقَعَ التَّنَازُعُ بين الناس في الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فَأَخَذَ عُمَرُ من كل نَوْعٍ دِرْهَمًا فَخَلَطَهُ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ متساوية فَخَرَجَ كُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا فَبَقِيَ الْعَمَلُ عليه إلَى يَوْمِنَا هذا في كل شَيْءٍ في الزَّكَاةِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ][البحر الرائق – (2 / 244)]
فعبارة ابن نجيم صريحة بأنهم يعتمدون الدرهم الذي يساوي (14 قيراط) في التقديرات الشرعية التالية الزَّكَاةِ, وَنِصَابِ السَّرِقَةِ ,وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ. أما ما سواها فله درهمه الخاص هكذا توحي عباراتهم والله اعلم.
تقدير النجاسة المعفو عنها بالدرهم المثقالي الكبير أخذ بسنة واجتهاد عمر رضي الله عنه
جاء في البحر الرائق: [وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه سُئِلَ عن قَلِيلِ النَّجَاسَةِ في الثَّوْبِ فقال إذَا كان مِثْلَ ظُفْرِي هذا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حتى يَكُونَ أَكْثَرَ منه وَظُفْرُهُ كان مِثْلُ الْمِثْقَالِ- الدرهم- كَذَا في السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ .
وقد جاء في نفس الموضع من البحر الرائق قبل الكلام السابق الكلام التالي: [وَاخْتَلَفُوا في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ من النَّجَاسَةِ قال إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ إذَا بَلَغَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ فَهُوَ كَثِيرٌ وقال الشَّعْبِيُّ لَا يَمْنَعُ حتى يَكُونَ أَكْثَرَ من قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ وهو قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وهو الصَّحِيحُ لِمَا رَوَيْنَا عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عَدَّ مِقْدَارَ ظفره (ظفر) من النَّجَاسَةِ قَلِيلًا حَيْثُ لم يَجْعَلْهُ مَانِعًا من جَوَازِ الصَّلَاةِ وَظُفْرُهُ كان قَرِيبًا من كَفِّنَا فَعُلِمَ أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ].
فهم وفق هذه النقول يتفقون على اعتماد الدرهم المثقالي الكبير في تقدير ما هو معفو عنه من النجاسة لكن تتباين اجتهاداتهم فيما سوا ذلك في المائعة والمتجسدة من النجاسة وظل التباين والاختلاف في التقدير بذلك إلى أن جاء الإمام الهندواني فحرر الإجتهادات في ذلك وتحرى الروايات فيها فظهر له أصل كل قول واليك ما حرره في هذا المقام وبه يظهر صواب ما ذهب اليه الباحث من فهم مستقيم (والله اعلم) لهذا التباين في الرأي.
فقد جاء في البحر الرائق:[ وَوَفَّقَ الْهِنْدُوَانِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ رِوَايَةَ الْمِسَاحَةِ في الرَّقِيقِ كَالْبَوْلِ وَرِوَايَةَ الْوَزْنِ في الثَّخِينِ وَاخْتَارَ هذا التَّوْفِيقَ كَثِيرٌ من الْمَشَايِخِ وفي الْبَدَائِعِ وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِ ما وَرَاءَ النَّهْرِ وَصَحَّحَهُ الشَّارِحُ الزَّيْلَعِيُّ وَصَاحِبُ الْمُجْتَبَى وَأَقَرَّهُ عليه في فَتْحِ الْقَدِيرِ لِأَنَّ إعْمَالَ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى خُصُوصًا مع مُنَاسَبَةِ هذا التَّوْزِيعِ].
فقد حرص الإمام الهندواني على الأخذ بكلا الاجتهادين في كل من المائعة والمتجسدة وظهر سداد رأيه المرضي في المذهب من خلال التوفيق بين الرأيين وهذا صنيع يوافق قواعد المذهب في إعمال الروايات والجمع بينها وهو أولى من تقديم رواية وترجيحها على أخرى أو تركها. فانظر كيف جعل الأمام الهندواني هذا الأمر نصب عينية عندما قال (لِأَنَّ إعْمَالَ الرِّوَايَتَيْنِ إذَا أَمْكَنَ أَوْلَى خُصُوصًا مع مُنَاسَبَةِ هذا التَّوْزِيعِ) فقد وُفِّقَ رحمه الله في طي مادة الخلاف وضبط الأقوال وأعمال الروايات ومن أتى بعده مشى على ما سطره في ذلك وبهذا جاءت المتون والشروح والله أعلم.
المؤلف: حسام علي عبد الله
المصدر: مركز أبحاث فقه المعاملات الإسلامية