أول خطوة وأهمها في التحليل العلمي والدقيق لهذه الحادثة هو أن نصل إلى قدر مشترك جامع بين جميع النصوص التي نقلت حادثة غدير خم من خلال التحقيق والتفحص الواسع والعميق في ثنايا النصوص التاريخية والروائية الموثوقة وبعبارة أخرى أن نصل إلى القاسم المشترك بين جميع الروايات المختلفة في هذا الصدد والذي يقرّ به علماء الفريقين (الشيعة والسنة). والخطوة التالية هي أن نعلم ما هي الحوادث التي رافقت تلك الواقعة (أي ما هي خلفياتها وعللها وعوامل وقوعها). ولقد قمنا بتينك الخطوتين بقدر استطاعتنا وفيما يلي نقدم لكم أيها القراء الكرام خلاصة تلك الواقعة كما جاءت في التواريخ المعتبرة وكما يقبل بها طرفا الدعوى:
في السنة العاشرة للهجرة انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو آخر سفر للحج، وذلك بعد أن أرسل برسائل إلى رؤساء القبائل العربية وبلاد المسلمين ودعاهم إلى الحضور لأداء مناسك الحج في مكة. ومن جملة ذلك أنه أرسل إلى عليٍّ (ع) – الذي كان في حينها في اليمن يقوم بمهمة جباية أموال الزكاة من أهلها – برسالة دعاه فيها إلى الحضور معه في حجته تلك. عندما استلم عليٌّ (ع) رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكّر في نفسه أنه لو أراد أن يحمل معه أموال بيت المال وينطلق بها إلى مكة فإنه لن يصل في الموعد المحدد. لذا عهد بأمر تلك الأموال إلى عدد من الأفراد الذين كانوا معه – مثل بريدة الأسلمي وخالد بن الوليد- وأمرهم بحملها تحت إشرافهم وإيصالها إلى مكة، وانطلق مسرعاً نحو مكة ليحضر مناسك الحج. بعد إنهائه للمناسك عاد ليلتقي بالقافلة القادمة من اليمن فلما وصل إليها رأى أن خالد بن الوليد وبريدة الأسلمي وآخرين قد تصرفوا في بعض أموال بيت المال. فغضب من ذلك ووبخهم على تصرفهم بتلك الأموال [إذْ هي أمانةٌ لا يجوز التصرف بها دون إذن] وواجههم بشدّة. فكبُر على أولئك المتخلفين ذلك التصـرف الذي كان في الحقيقة عين الصواب، فحملوا في قلوبهم على الإمام واستعدوا للانتقام لأنفسهم فأرسلوا أشخاصاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو جاؤوه بأنفسهم وشكوا إليه عنفَ عليٍّ وحِدَّته وتشدُّدَه معهم. فاستمع إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهاهم عن معاداة عليٍّ (ع) وبين لهم بعض فضائله ليهدِّئَ من غضبهم. لكن خالداً وبريدة وآخرين، بعد لقائهم رسول الله، واصلوا إساءة الكلام بحق عليٍّ (ع) بقدر ما استطاعوا، وكان من شأن تلك الإساءة أن تؤثر في كثير من الناس الذين لم يكونوا يعرفون عليَّاً (ع) بشكل صحيح بعد، وتجعلهم يسيئون الظن بحقه وتنفر قلوبهم منه. عندما شاهد رسول الله ذلك الوضع رأى لزاماً عليه –قبل أن يتفرّق الناس وقبل أن يصل صدى مثل هذه المشادّة إلى مكة أو المدينة ويشيع فيها ويؤثر في أهلها- أن يدافع عن شخصية عليٍّ (ع) البارزة والممتازة ويعرّفه للناس بفضائله ومناقبه ويضع بذلك حداً للقضية. لذا [في توقفه لصلاة الظهر والعصر قرب غدير يقال له غدير خم] ألقى خطبة عرّف فيها بالإمام عليٍّ وبيَّن وجوب محبته وموالاته على جميع المسلمين مبتدئاً بأخذ إقرار منهم بأنه «أولى بهم من أنفسهم» ثم قال: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» ثم دعا اللهَ قائلاً: «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»([1]).
تلك كانت خلاصة حادثة غدير خم كما جاءت في الوثائق والمستندات التاريخية والحديثية المتفرقة الموثوقة والمعتمدة لدى الفريقين. وكما رأينا كانت علة خلفية وقوع تلك الحادثة قضيَّة المشاجرة التي وقعت بين بعض الصحابة في قافلة اليمن (خاصة خالد بن الوليد وبريدة الأسلمي) وبين عليٍّ (ع) ولا ينبغي أن نُغْفِلَ هذه النقطةَ الهامّةَ في تحليلنا لهذه الحادثة.
والآن يأتي الدور لسماع قصة غدير خم من لسان أحد مراجع الشيعة (سماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي):
«في السنة الأخيرة من حياة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أدّى المسلمون مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حجّة الوداع في عظمة وجلال…….، أصحاب النبيِّ المشاركون في تلك الحجّة – الذين كانوا جماً غفيراً – يكادون يطيرون فرحاً لهذه السعادة الكبرى التي شرّفهم الله بها…..
كانت الشمس ترسل أشعتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول…
اقترب وقت الظهيرة، واقترب الركب الكبير من أرض الجحفة، وظهرت من بعيد أرض «غدير خم» القاحلة الجافة المحرقة.
كانت المنطقة، في الحقيقة تقع على مفترق طرق أربع حيث كان على الحجيج أن يتفرّقوا إلى الوجهة التي يقصدونها….. فجأةً إذا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصدر أمره للحجيج بالتوقُّف، فراح المسلمون ينادون الذين في مقدمة الركب أن يعودوا، وانتظروا حتى يلتحق بهم من كان في المؤخرة أيضاً….. وصعد مؤذن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في الناس لصلاة الظهر،…
كانت الرياح لافحة محرقة، حتى اضطر بعضهم إلى أن يضع قسماً من عباءته تحت قدميه وقسماً منها فوق رأسه كي يتقي حرارة الحصى وأشعة الشمس…..
انتهت صلاة الظهر. وهرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم يلوذون بها من حر الهاجرة. إلّا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إلهية جديدة في خطبته، وكان الذين يقفون على مسافة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيعون رؤيته، لذلك صنعوا له منبراً من أحداج الإبل ارتقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مخاطباً الناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه:… «… فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى مناد: وما الثقلان، يا رسول الله؟
قال: الثقل الأكبر كتاب الله… والآخر الأصغر عترتي…
فجأةً رأى الناسُ النبيَّ ينظر حوله… وما أن وقعت عينيه عَلَى علِـيٍّ حتى انحنى وأخذ بيد علِـيٍّ نحوه فرفعها حتى رُئِيَ بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيّها النّاس: من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه،… ثمّ نظر إلى السماء ودعا اللهَ قائلاً: «اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصـر من نصـره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار…». انتهت خطبة النبيّ…. ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي… الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرّب برسالتي والولاية لعليٍّ من بعدي»»([2]).
نلاحظ فيما نقلناه ملخَّصاً من كلام سماحة الشيخ مكارم الشيرازي أنه لم يأت في كلامه بأيِّ ذكر لآية التبليغ. لكنه كما رأينا سابقاً ادعى في تفسيره لآية التبليغ أن تلك الآية نزلت بشأن عليٍّ (ع) يوم غدير خم، وفي الاقتباس الذي ذكرناه أعلاه كان قصد الشيخ من قوله: «و هرع الحجيج يريدون نصب خيامهم الصغيرة التي كانوا يحملونها معهم يلوذون بها من حرّ الهاجرة. إلّا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرهم أنّ عليهم أن يستعدوا لسماع رسالة إلهية، جديدة في خطبته..» هو الإشارة إلى نزول آية التبليغ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله أمر نبيَّهُ بها أن يبلِّغ رسالته هذه (أي ولاية عليٍّ (ع) وإمامته). فلنأت الآن إلى بيان نقاط الضعف في استناد الشيعة إلى هذه القصَّة:
1. أوَّل إشكال هو أن قصة غدير خم تمّ تحريفها في النقل المذكور. فلم يُشِـرْ الشيخ ناصر مكارم أبداً إلى الحوادث المهمة التي شكلّت خلفيَّة بروز حادثة غدير خم (مثل الاختلاف والمشادة بين بعض أفراد قافلة اليمن وبين عليٍّ (ع) وشكوى بعضهم المتكررة – كخالد بن الوليد وبريدة الأسلمي- عليَّاً (ع) إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم) كما أُقْحِمَتْ حوادث أخرى (مثل نزول آية التبليغ وآية إكمال الدين في ذلك اليوم) دون أي سند أو مصدر موثوق ضمن القصة لكي تعطي النتيجة المطلوبة للشيعة. كما أن قضية المشادة بين رجال القافلة وبين عليٍّ (ع) وشكواهم علياً حُذفت كي لا يُعطى لكلمة «مولى» في جملة «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» معنى «الصديق المحب والنصير». كما أن آية التبليغ أُدرجت ضمن القصة كي يتم الإيحاء للقارئ بأن الله تعالى أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ذلك الكلام بشأن عليٍّ (ع) حتى يأخذ نَصْبه لِعَليٍّ إماماً جانباً إلهياً. كما أن آية إكمال الدين أُقحمت في القصَّة كي يتم الإيحاء للقارئ بأن دين الله إنما اكتمل بنَصْب عليٍّ إماماً وأنه من دون الاعتقاد بإمامته (وإمامة أولاده) يبقى دين الإنسان وإيمانه ناقصين. وتمّت المبالغة في ثنايا القصة من خلال جمل مثل «كانت الشمس ترسل أشعتها اللافحة المحرقة على الوديان والسهول…» للإيحاء للسامع بأنه من البعيد أن يقف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مثل ذلك الحرّ الشديد ويجمع الناس تحت لهيب الشمس الحارقة ليوصيهم بمحبة عليٍّ (ع) فقط. بعبارة أخرى تمت المبالغة جداً في وصف شدة حرارة الجوّ لإظهار أن الموضوع كان أمراً أكثر أهمية من مجرد الوصية بمحبَّة عليٍّ (ع) وموالاته، ولكن مثل هذا الاختلاق والتحريفات لا تفيد إلا في إضعاف قيمة الاستدلال وزوال الثقة به.
2. قبل أن يحين موعد حج النبيِّ الأخير أرسل صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى رؤساء قبائل العرب وسادتهم في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية وطلب منهم الحضور إلى مكة في موسم الحج. إلى هنا يتبادر إلى الذهن أنه كانت للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حتماً غاية من هذا الأمر وأنه كان ينوي أن يبين للناس أموراً حساسةً ومهمةً خلال ذلك الحجّ ليتمّ الحُجَّة على الناس بذلك للمرَّة الأخيرة. ابتدأت مناسك حجة الوداع بعد اجتماع ما يزيد على مئة ألف حاج قدموا إلى مكة من سائر أنحاء الجزيرة العربية (من المدن والقرى المختلفة) لكي يدركوا مشاهدة النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والسماع منه – خاصة أثناء مناسك الحج- للمرة الأخيرة. وقد ألقى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خلال شعائر الحج المعظَّمة خطبتين مهمتين وطويلتين. الأولى في عرفات والثانية في منى. في تينك الخطبتين (التي أصغى إليها بكل اهتمام أكثر من مئة ألف حاج من أهالي الجزيرة العربية) أبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الناس مرَّةً أخرى خلاصةً عن أهم تعاليم الإسلام وأكثرها حساسيةً – والتي كان أكثرها ذا جانب اجتماعي وسياسي- كما بيّن بعض الأمور الهامة المتعلقة بمنهج الحكم في الإسلام إلا أنه لم يشر أي إشارة إلى أن مقام خلافته مقام إلهي (أي يتم اختيار صاحبه وتعيينه مِنْ قِبَل الله) كما لم يأت على عليٍّ (ع) بأي ذكر بوصفه إماماً وخليفة له. بعبارة أخرى رغم أن النبيّ أشار إلى أمور تتعلق بماهية الحكومة الإسلامية وطريقة تعامل الحكام مع الناس وحقوق وواجبات كل من الحاكم والرعية تجاه الآخر، إلا أنه لم يقل إن صاحب الحكم ومالك زمام الأمور من بعده شخصٌ ينبغي أن يكون منصوصاً عليه مِنْ قِبَل الله معرّفاً مِنْ قِبَل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبالتالي لم يأتِ على اسم عليٍّ (ع) بذكر بوصفه إماماً أو خليفةً له في هذا المجال. فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد يوم غدير خم أن يعيِّن علياً (ع) وينصَّ عليه بوصفه إماماً وخليفةً من بعده لفعل ذلك في أثناء مناسك الحج (ولقال ذلك خلال تينك الخطبتين) كي يصل الأمر إلى مسامع جميع المسلمين (خاصة سادة القوم ورؤساء قبائل العرب) حتى تتم الحجة بذلك على الجميع. وثمَّة نقطة هامة يتم إغفالها دائماً في تحليل واقعة غدير خم وهي أنه في مناسك حجة الوداع الجليلة والعظيمة كان أكثر من مئة ألف شخص حاضراً من جميع أنحاء جزيرة العرب. ولكن عندما انتهت تلك المناسك وعاد الناس إلى بلدانهم وقراهم وقبائلهم المختلفة واتخذ كلٌّ منهم طريقاً في عودته إلى موطنه، تفرَّقت القوافل في طرق مختلفة وبقي أهل مكة فيها، ولم يبقَ إلا عددٌ محدودٌ من القوافل التي كان خط سيرها طريق المدينة برفقة قافلة النبيّ العائدة إلى المدينة. فلم يكن الأمر أن ذلك الجمع الغفير الذي حضر حجة الوداع-الذي ذُكر أن عدده كان يربو على المئة ألف – كان لا يزال باقياً مع النبيّ بعد انتهاء مناسك الحج ومرافقاً له حتى وصوله إلى غدير خم. فإذا كان النبيّ يريد فعلاً أن يعرّف عليَّاً (ع) للناس إماماً وخليفةً عليهم من بعده، ألم يكن من الأفضل والأكثر منطقياً أن يفعل ذلك خلال مناسك الحج وأثناء حضور مئة ألف مسلم بينهم كثير من سادة العرب ورؤساء قبائلهم الذين حضروا بناء على دعوة النبيّ نفسه؟ إلا أن نقول إن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يريد أن يتخذ القرار بهذا الشأن من عند نفسه بل كان ينتظر الأمر من الله وقد أمره ربه بذلك يوم غدير خم عندما أنزل عليه آية التبليغ. لكن هذا التفسير أو التبرير لا يفيد شيئاً، أولاً: لأنه (كما مرّ فيما سبق) لا يوجد أي مستمسك ومستند موثوق ومقبول لدى الفريقين يثبت مثل هذا الادعاء. وثانياً: كل ما يفعله هذا التفسير أو التبرير هو أن ينقل الاستشكال من عمل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستشكال من عمل الله تعالى (أي يلقي بالذنب على الله!). لأنه من الممكن طرح السؤال ذاته على هذا النحو: لو كان الله يريد فعلاً أن يأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان عليٍّ (ع) إماماً على الناس وخليفته من بعده فلماذا لم يأمره بذلك أثناء مناسك الحج حتى تتم الحجة على جميع الناس ويكون احتمال اختلاف الأمة (حول مسألة الإمامة والخلافة) أقل؟ دعْكَ من ذلك، لماذا لا نجد في آخر خطبةٍ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (التي ألقاها في أواخر أيام عمره المبارك) أيَّ خبر عن نَصْب عليٍّ (ع) إماماً وخليفةً له على الناس من بعده. هل يجوز أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمراً عَلَى هذه الدرجة من الأهمية – يمثل حسب ادعاء الشيعة كمال الدين وبه يرتبط مصير الإسلام والمسلمين- لأصحابه مرَّةً واحدةً يومَ غدير خم وفي حضور عدد محدود من الناس؟ ألم يكن من اللازم أن يؤكِّد هذا الأمر في مواضع أخرى (وأهمها خلال خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأخيرة)؟
3. إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد في ذلك اليوم أن يقدّم عليّاً (ع) بوصفه إماماً وخليفةً من بعده فلماذا لم يبيِّن هذا الأمر بصراحة تامة كي لا يتركَ مجالاً للاختلاف؟ لماذا لم يقل بصراحة إن الله أمرني أن أعلن لكم عليّاً إماماً وخليفة عليكم من بعدي، وهاأنذا أعلنه رسمياً وأَمَامَكم جميعاً إماماً وخليفةً عليكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، ومن لم يعترف به إماماً عليه وخالفه فإن دينه وإيمانه ناقصان وسيكون محروماً من الهداية والسعادة؟ ألم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قادراً على أن يقول بصراحة: أيها الناس إنّ مقام الإمامة مقامٌ إلهيٌّ لا يتحقق إلا بالنص والتعيين مِنْ قِبَل الله وأنا الآن قد نصبتُ بأمر الله تعالى علياً (ع) إماماً على هذه الأمة وعليكم أن تسمعوا له وتطيعوه- من بعدي – طاعة تامة؟
4. لم يفهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره – الذين كانوا عرباً وكانوا مؤمنين بالنبيِّ وحاضرين يوم غدير خم وسمعوا كلام النبيِّ مباشرةً – من كلامه (يوم غدير خم) أن علياً (ع) هو الأولى بالتصـرُّف في شؤونهم كما لم يستنبطوا إمامة عليٍّ (ع) وخلافته بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل فهموا من تلك الكلمة معنى وجوب المحبة والموالاة والنصرة لعلي، وهذا أكبر شاهد على أن الشيعة لم يفهموا كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بشكل صحيح. لأنه كيف يمكن لمئة ألف من صحابة النبيّ الأجلاء – الذين كان كثير منهم علماء ومفسرين للقرآن وحضروا مجالس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مئات المرات – أن لا يستنبطوا مثل ذلك الأمر من كلامه ثم بعد عشرات السنوات يأتي أناس لم يجالسوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا حضروا واقعة غدير خم بأنفسهم فيستنبطوا من كلامه مثل ذلك الأمر؟! لم يوجد حتى شخصٌ واحدٌ، من بين مئات وآلاف الأشخاص من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأجلاء وأنصاره، استنبط من كلمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم معنى نَصْب عليِّ إماماً وحاكماً وخليفةً على الناس بعد النبيّ. (ائتونا لو استطعتم بمستند محكم وموثوق على أن هناك شخصاً واحداً فقط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استنبط مثل ذلك الأمر من كلمته يوم الغدير).
يجيب علماء الشيعة عن هذا الإشكال قائلين: إن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهموا معنى حديث الغدير على النحو الذي نفهمه نحن ولكنهم بسبب عبادة الدنيا وحب الرئاسة وهوى النفس أغمضوا أعينهم عن الحقيقة ورغم معرفتهم بأن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نصَب علياً (ع) خليفة على المسلمين من بعده، عاندوا ذلك الأمر عالمين عامدين رغم أن الحقيقة كانت واضحة لهم وضوح الشمس في رابعة النهار. وبعبارة أخرى إن الناس جميعاً ارتدوا بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة أو أربعة أشخاص!.
لكن هذا الكلام يطرح عدداً من الأسئلة والإشكالات الكبيرة:
أ- أيُّ أصل من أصول العقيدة والدين جحده أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتجاهلوه حتى نحكم بارتدادهم؟ إذا كنتم تقصدون «إمامة عليٍّ (ع)» فإنها لم تثبت بعد واتهام أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الأجلاء بالردة بسبب إنكارهم إمامة عليٍّ (ع) قبل إثباتها هو دَوْرٌ باطل في علم المنطق ومصادرة على المطلوب([3]).
ب- إن معنى ادعاء ارتداد الناس بعد النبيّ هو أن نبوة النبيّ التي دامت ثلاثة وعشرين عاماً، وكلّ التَّعب والعناء الذي تكبده صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة لم ينتج إلا تربية ثلاثة أو أربعة مسلمين حقيقيين فقط! فهل يمكن القبول بمثل هذا الكلام؟ وبمعزل عن ذلك هل هناك مصدر أو مستند موثوق واحد يثبت أن هؤلاء النفر الثلاثة، الذين ثبتوا على الإسلام الصحيح حسب قول الشيعة (مثل سلمان وأبو ذر)، كانوا يقولون بما يؤيد مدعى الشيعة (حول نَصْب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علياً (ع) إماماً وخليفة من بعده)؟
ج- إن معنى الادعاء المذكور هو أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره ظهروا في النهاية حفنة من المنافقين وعبّاد الدنيا وطالبي الرئاسة والسفلة و….، ففي مثل هذه الحالة كيف يمكننا الاطمئنان إلى القرآن الكريم الذي وصل إلى أيدينا عن طريقهم ونقلوه لنا؟ من أين لنا أن نعلم أن مثل هؤلاء الأشخاص عبيد الدنيا وطلاب الرئاسة والمنافقين لم يقوموا بتحريف القرآن وحتى أنهم أدرجوا فيه آية مثل: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ? (الحجر/9)، لطمأنة الآتين من بعدهم وخداعهم؟
د- إذا كان ادعاء الشيعة بشأن معنى حديث غدير خم ومفاده صحيحاً فلماذا لم يستدل عليٌّ (ع) به فيما بعد أبداً لإثبات حقه الإلهي في إمامة المسلمين ورئاستهم؟ صحيح أن علياً استدل بهذا الحديث في بعض الموارد لإثبات فضيلته، ولكنه لم يقل قط إن الله تعالى وبواسطة رسوله نصَبني إماماً معصوماً وخليفةً بلا فصل بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة، بل ذكر حديث غدير خم بوصفه إحدى مناقبه فحسب. لا توجد لدينا أي رواية موثوقة عن عليٍّ (ع) تبيِّنُ أنه قال إني خليفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحق وإن الله تعالى نصبني في هذا المقام وأبلغكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عندما أعلن إمامتي يوم غدير خم. لا شك أن علياً كان يعتبر نفسه أحق من الآخرين بأمر خلافة المسلمين واستلام زمام أمورهم لكنه لم يعتبر في أي وقت من الأوقات أن دليل أحقيته هذا هو النَصْب الإلهي له في هذا المقام، (خاصة في يوم الغدير) بل كان يشير – في معرض إثباته لتقدّمه على سائر الصحابة- إلى خصائصه وما أكرمه الله به من مزايا مثل تربيته في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسبقه في الإسلام وتضحياته في سبيل دين الله وعلمه الوافر وأحياناً كان يطرح كلمات ووصايا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحقه (مثل حديث غدير خم) ليثبت من خلال ذلك فضيلته وتقدمه على الآخرين. ولكنه لم يقل قط: إن الله تعالى نصَبني بأمره وبواسطة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم إماماً على الأمة وإذا لم يسمع لي الناس ويطيعوا أمري فقد خانوا أمر الله ورسوله.
والآن حان الوقت لدراسة وتحليل جملة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المشهورة بشأن عليٍّ (ع).
في خطبة يوم غدير خم ابتدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بسؤاله الناس: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» فلما أجابه الناس بالإيجاب قال عندئذ: «مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه» ثم دعا بذلك الدعاء المعروف بحق عليٍّ وأنصاره وأحبابه: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه….».
هنا يدَّعي علماء الشيعة أن مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلمة «مولى» في جملة «مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه» هو «الأولى بالتصرُّف» والذي يمكن أن نسـتنبط منه مفهوم الإمامة. ودليل الشيعة الوحيد هو أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل بيانه لتلك الجملة طرح موضوع أولويته بالمؤمنين من أنفسهم وأخذ اعتراف الناس بذلك ثم قال: «مَنْ كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه»، وبالتالي فمقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من «مولى» هو «الأولى». ولكن هذا الدليل ليس دليلاً قويّاً لأنه يمكننا أن نقول إن السؤال الذي طرحه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الناس في صدر الحديث كان الهدف منه أن يأخذ منهم اعترافهم بأنه أولى بهم من أنفسهم وذلك للتأكيد على ضرورة طاعتهم لما يريد قوله بعد ذلك. بعبارة أخرى كان هدف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك السؤال أن يقول للناس: إذا كنتم تقبلون بي نبياً وكنتم تعتبرونني أولى بكم من أنفسكم فعلاً، فيجب عليكم أن تحبوا عليّاً وتوالوه كما تحبوني وتوالوني. وذلك مثل الأب الذي يقول لابنه أحياناً عندما يريد نصحه ألستُ أباك؟ ثم عندما يجيبه ابنه بالإيجاب يقول له الأب: إذا كنت فعلاً تعتبرني أباك وتقبل بأنني أدرى بمصلحتك منك وأنني أحبك أكثر مما تحب نفسك فقم مثلاً بمصادقة فلان ومحبته وكن معه لطيفاً كريماً ولا تعاديه. ولكي تتضح النقطة بشكل أفضل نسأل: إذا ذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد تلك المقدمة، نصيحةً مختلفةً هل كان ذلك يخلق تناقضاً ومحظوراً عقلياً؟ هل كان بإمكاننا أن ندَّعي أن صدر كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذيله لا يتفقان مع بعضهما؟ إطلاقاً بالطبع! لأن معنى إطلاق وعموم جملة «ألست أولى بكم من أنفسكم» يشمل تماماً أيُّ شيء يريده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمته ولا يمكن جعله قرينة على المعنى المقصود من«مولى». بعبارة أوضح، كل وصية وأمر كان سيقوله النبيّ بعد تلك المقدمة كان سيشملها هذا الحكم ذاته.
ثم إن لكلمة «مولى» في العربية معان متنوعة ولا يمكن معرفة المعنى المقصود الذي يريده قائلها منها إلا بقرينة دالَّة. ولكن أحد أكثر معاني الكلمة رواجاً واستخداماً هو معنى «الصديق المحبّ» و«النصير». ونحن نقول إن القرائن التالية تبين أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أراد فعلاً هذا المعنى بالذات من جملة «مَن كنتُ مولاهُ فهذا عليٌّ مولاه»:
أ- إن خلفيّة وقوع حادثة غدير خم والسبب المباشر والأساسي لورود الحديث الذي صدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيها هو قضية المشادة والمشاجرة التي وقعت بين عدد من رجال قافلة اليمن (مثل خالد بن الوليد وبريدة الأسلميّ) وبين عليٍّ (ع)، ومعاداة أولئك الأشخاص لعليٍّ وإساءتهم الكلام بحقِّه على نحو كان من الممكن لذلك الطعن والإساءة أن تشوِّه شخصية عليٍّ (ع) بين الناس. وقد أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إزالة تلك العداوة والبغضاء من الصدور وأن يعرّف في الوقت ذاته بشخصية عليٍّ (ع) البارزة مرَّةً ثانيةً ويزيل سوء الظن الذي ربما تسـرّب إلى بعض القلوب تجاهه ويذكِّرهم بوجوب محبته وموالاته، كي يمنع بهذا فتناً قد تقع في المستقبل.
ب- إذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يطرح أمر «أولوية» عليٍّ (ع) لما استخدم كلمة «مولى» بدلاً من كلمة «أولى»، لأن «أولى» على وزن أفعل و«مولى» على وزن «مفعل» والعرب لا تستخدم «مفعل» في مكان «أفعل». إذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يطرح أولوية عليٍّ (ع) لكان باستطاعته أن يقول: «من كنت أولى به من نفسه فهذا عليٌّ أولى به من نفسه»؟ ألم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلم – إذا افترضنا أنه قصد بيان «أولوية» و«إمامة» عليٍّ أنه باستخدامه لكلمة «مولى» (التي معناها العُرفي في اللغة العربية هو المحب والنصير) بدلاً من كلمة «أولى» قد يوقع كثيراً من الناس في الخطأ والاشتباه؟.
ج- إن دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد جملة «من كنت مولاه….» أقوى قرينة لإثبات هذه الحقيقة وهي أن كلمة «مولى» في الجملة المذكورة استُخدمت في المعنى العرفي الرائج (أي المحب والنصير). كان دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلك الجملة: «اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه». يظهر هذا الدعاء بوضوح أن مقصود النبيّ من «مولى» هو «المحب والنصير» وأن ليس للجملة مورد البحث (التي قيلت قبله) من مفهوم سوى الوصية بمحبة عليٍّ ونصرته وموالاته. إذا كان مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من «مولى» هو «أولى» لوجب أن يدعو النبيُّ بعد تلك الجملة بالدعاء التالي: «اللهم وال من آمن بأولويته وعاد من لم يؤمن بأولويته». بعبارة أخرى إذا كان مقصود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جملة «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» نَصْب عليٍّ إماماً وخليفة بعده لقال في دعائه: «اللهم وال من سمع له وأطاعه وعاد من لم يسمع له ولم يطعه».
د- كما ذكرنا من قبل، لقد استنبط صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الكبار من جملة «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه» وجوب محبة عليٍّ وموالاته وهذا بحد ذاته قرينة محكمة وقاطعة على أن قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من استخدام كلمة «مولى» هو معنى «المحب والنصير».
هـ- مرَّةً ثانيةً نؤكِّد أنه إذا كان قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من كلمة «مولى» معنى «الأولى بالتصرُّف» وأنه أراد بتلك الكلمة إعلان إمامة عليٍّ (ع)، فإنه كان يعلم أكثر من أي شخص آخر أنه لا يوجد هنا في (غدير خم) سوى عدد محدود من صحابته وأنصاره وأن مكان إعلان مثل هذا الأمر المهم والمصيري يجب أن يكون قبل عدة أيام خلال مناسك الحج أمام ما يزيد على مئة ألف مسلم قدموا من جميع أنحاء الجزيرة العربية، وليس الآن (في غدير خم) بعد أن تفرق أكثر المسلمين وزعماء عشائر العرب ورؤساء بلاد المسلمين وانطلق كل منهم نحو دياره وبلاده.
و- إذا كان قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حديث غدير خم نَصْب عليٍّ (ع) إماماً وخليفةً بعده لقام بعد حادثة غدير خم، بالإشارة مجدَّداً إلى ذلك الأمر في المدينة المنورة، إن لم يكن عدة مرات فعلى الأقل مرَّةً واحدةً، ليؤكِّد عليه. هذا في حين أننا نرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم حتى في آخر كلماته التي قالها قبل أسبوع من رحيله لم يُشِـر أدنى إشارة إلى هذا الموضوع، مما يبيّن أن قصد النبيّ من جملة «من كنتُ مولاه…» لم يكن طرح قضية «أولوية» عليٍّ (ع) ونَصْبه إماماً وخليفة بعده.
الآن يمكننا أن نفهم على نحو أفضل أن الذي أخطأ في واقعة غدير خم لم يكن الله تعالى ولا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الكبار، بل الذي أخطأ هنا هو علماء الشيعة ليس غير، لأنهم بتفسيرهم الخاطئ للجملة التي صدرت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (في تلك الحادثة) حكموا – دون أن يقصدوا ذلك أو يقولوه – على الله تعالى وعلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آلاف من أصحابه الكبار والمؤمنين والمخلصـين بالخطأ في التصرُّف!. أما الخطأ الذي نسبوه دون أن يشعروا – إلى الله فلأن الله تعالى لم ينزِّل آية التبليغ في أثناء مناسك الحج (حيث كان أكثر من مئة ألف مسلم حاضراً)، بل بعد أن رجع أغلب هؤلاء المسلمين إلى ديارهم وأوطانهم وودَّعوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتفرّقوا عنه، عند ذلك تذكّر أنه يجب أن يأمر نبيه بنَصْب عليٍّ إماماً على المسلمين من بعده!. وأما الخطأ الذي نسبوه دون أن يشعروا – إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأولاً لأنه لم يبيّن الأمر بشكل صريح وواضح، وثانياً لأنه استخدم كلمة «مولى» بدلاً من «أولى» مخالفاً بذلك قواعد اللغة العربية (وإن لم يكن كذلك فالكلام يكون استثناءً تماماً) وأدى بذلك إلى إيقاع عدد كبير من الناس الأبرياء في الخطأ والاشتباه. وثالثاً لأنه – كما يبدو نسي بعد حادثة الغدير أنَّه لم يكن معه في ذلك اليوم إلا عدد محدود من الأصحاب، وأن كثيراً من أهالي الجزيرة العربية (حتى أهل المدينة) لم يكن لديهم بعد أي خبر عن هذه الحادثة وما أُعْلِنَ فيها، ولم ينتبه إلى أنه قد يقع بعده اختلاف بين الأمة حول موضوع الإمامة وقيادة المجتمع المسلم وأن ذلك قد يؤدي إلى نزاع واقتتال يضعف الإسلام، وهذا النسيان وعدم الانتباه جعلاه لا يرى ضرورةً لإطلاع بقية المسلمين ورؤساء العرب وزعماء القبائل على هذا الأمر المهم من خلال رسائل يوجهها إليهم أو شفهيّاً، ولا يشير أي إشارة إلى هذا الموضوع المهم في آخر كلماته التي أدلى بها قبل وفاته. وأما الخطأ والاشتباه الذي نسبوه إلى الآلاف من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فهو أنه لم يوجد منهم حتى شخص واحد فهم قصد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على النحو الذي يفهمه الشيعة!
والسؤال هو: هل كان الخطأ حقيقةً من الله أم من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أم من أصحاب الرسول؟ أم أن علماء الشيعة هم المخطئون؟ نترك الحكم النهائي في ذلك الأمر للقارئ اللبيب.
([1]) الخلاصة المذكورة منقولة من كتاب «شاهراه اتحاد» أي طريق الاتحاد بتلخيص وتصرف يسيرين.
([2]) تفسير نمونه، ج5/ص 8 12. هذا وترجمة الاقتباس أخذت من ترجمة تفسير نمونه ذاته إلى العربية المسمى «الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل» (ج4، ص 88 – 93)، مع تعديل يسير لتتطابق الترجمة مع النص الفارسي المذكور في المتن بشكل تام. (المترجم).
([3]) المصادرة على المطلوب في علم الجدل أن يعمد من يريد إثبات حقيقة أمر ما إلى استخدام الأمر ذاته -وكأن حقيقته مسلَّمة مع أنها لم تثبت بعد – في برهانه على ثبوت صحة هذا الأمر! والدَّور كذلك هو أن يرجع من يريد إثبات أمرٍ ما إلى الأمر ذاته في عملية استدلاله عليه. وكلا الأمران يجعلان البرهان باطلاً لا تثبت به حجة.