حينما يتابع المرء ظروف طفولة المصطفى صلى الله عليه وسلم يشعر بكثير من التأثر والخشوع. يتأثر لصعوبة الحياة التي عاشها. ويقف خاشعا أمام العناية التي أحاطه الله بها. حينما وصل عليه الصلاة والسلام إلى سن الثامنة كان قد جرب كل أنواع البؤس والحرمان التي يعيشها الأطفال المحرومون. عاش يتيم الأب والأم معا، لم ير أباه قط، وماتت أمه ولم يرتو من حنوها وعطفها، ثم مات جده فحُرم من رعاية حانية بدأت ولم تدم.
ذاق الفقر والغربة والحزن والوحدة والخوف والحيرة ضمن بيئة ضالة لا يطمئن لها ويضيق صدره منها. غير أن الله الذي ابتلاه بهذا كله لم يتخل عنه أبدا إذ رعاه معنويا وماديا بأناس سخرهم له، وظروف مناسبة هيّأها لأجله. حينما كفله جده عبد المطلب أشعَر الناس جميعا بأهمية حفيده وضرورة إجلاله والاعتناء به، وحينما عهد به لابنه أبي طالب وهو على فراش الموت أوصاه به خيرا فحفظ أبو طالب الوصية وكان نعم السند لابن أخيه إلى أن توفاه الله بعد البعثة كافرا لم يؤمن به! حفظ الله نبيه ورباه على عينه ليُعدِّه للرسالة الخاتمة الخالدة، وليجعله أفضل خلقٍ وُجد وأفضل نبي أُرسل.
لقد كتب له ربه أن يعيش حياة أضعف الناس حتى يربيه على الرحمة والإحساس والتواضع لكي يكون الإنسان هو محور رسالته، فلا يغفل عن ضامر وضعيف أو فقير ومسكين بل ويصنع منهم القادة والعلماء وصناع الحضارة. وجعله يذوق الحرمان المادي والمعنوي لكي يكون حجة على من يدعو بدعوته فلا يشترط على الله شيئا وهو يكافح في سبيلها. وجعل يتمه ومنعه من أولياء يضبطون فكره وسلوكه سبيلا لتحرير شخصيته من أدران الجاهلية وجاه الآباء والأجداد، حتى يؤمن الجميع بأن محمدا بن عبد الله هو لله وحده لا شريك له ولا أثر لعشيرته في المجد الذي تجلبه دعوته.
لم تمِل نفسه أبدا لخمر أو مجون أو عبادة وثن أو صنم، وحتى حينما تسوقه لا مبالاة الطفولة وعبثها البريء لاقتراف شيء من الابتذال أو حضور ليالي السمر ومجامع الغناء يُحال بينه وبينها فلا يصيبه من ذلك شيء، إذ الطفولة هي مرحلة الحسم في التربية وبناية الشخصية وما بعدها إلا ترقيع. قال ابن إسحاق: “وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه في صغره وأمر جاهليته أنه قال: “لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لأُقْبِلُ مَعَهُمْ وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لاكِمٌ لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: شِدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي”. وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ ممَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهِمُّونَ بِهِ مِنَ الْغِنَاءِ إِلاَّ لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا؛ لَيْلَةٌ لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ وَنَحْنُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِ أَهْلِنَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ: بَلَى. فَدَخَلْتُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا وَغَرَابِيلَ وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: تَزْوِيجُ فُلانٍ فُلانَةَ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَاللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَسْمُرَ بِمَكَّةَ. فَفَعَلَ، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَ اللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: لا شَيْءَ. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَوَ اللهِ مَا هَمَمْتُ وَلا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ)).
لقد كانت هذه المحطات ذات أهمية قصوى في بناء شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد جعلته يرى عناية الله له تتجسد أمام عينيه، فلم يصبح في قلبه طمع ليس في الله، أو خوف ليس منه. بل أصبحت ذكرى الأيام الصعبة وما رافقها من لطف إلهي ورعاية ربانية هي زاده حينما تشتد عليه الخطوب وتلسعه الكربات. يُذكِّره الله بها للسلوى والتثبيت والتأديب فيقول له في سورة الشرح: (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ))، ويقول له في سورة الضحى: ((..أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)). يذكره كيف شرح صدره، سواء بالمعنى الحسي الذي يفيد التشريح الذي أجراه له في حادثة شق الصدر، أم بالمعنى المعنوي إذ جعله ينشرح وتتسع رحابه ويمتلئ حكمة وعلما. ويذكره بمختلف المحن التي مرت عليه، وكيف جعل اليسر يسارع إليه فيمزق العسر الذي يدهمه. وهي رحمة عامة من الله لعباده رَسَمها رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة ماضية في حديثه الشريف: (( لن يغلب عسرٌ يسرين)) حتى يركن الناس لله ويحسنوا الظن به، مهما أصابهم من بلاء. وهي للذين ساروا على درب المصطفى وجاهدوا بجهاده، حتى يعلموا بأن الابتلاء الذي يصيب خيار الناس هو عناية إلهية لحكم يعلمها ثم يعقبها التيسير، يرتفع بها الصابرون في مقامات العبودية ثم تنجلي وتزول، وفي الآخرة نعيم مقيم.