تفسير آية: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وبيان أنها لا تمنع السؤال للتفقه
قال الإمام أبو بكر الجصاص الرازي في كتابه “أحكام القرآن”[2: 483]، عند تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم…}، ما يلي: “روى قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احمرّ وجهه، فجلس على المنبر فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم، فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ فقال: في النار، فقام إليه آخر فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة. فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبمحمد نبياً، يا رسول الله، كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك، والله تعالى يعلم من آباؤنا، فسكن غضبه ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم}. وروى إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة أنها نزلت حين سُئل عن الحج: أفي كل عام؟ وعن أبي أمامة نحو ذلك، وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال: من أبي؟ وقال مقسم – نزلت – فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات – أي: المعجزات – .
<
p style=”text-align: justify;”>قال أبو بكر: ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم، سأله عبد الله بن حذافة عن أبيه من هو؟ لأنه قد كان يتكلم في نسبه، وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم في هذه المسائل على اختلافها، فأنزل الله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء}، يعني عن مثلها، لأنه لم يكن بهم حاجةٌ إليها[قلت: وكان عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أحد العقلاء النبلاء والمجاهدين الصناديد الشجعان من الصحابة الكرام، فأراد من سؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على رؤوس الأشهاد في الجمع الحافل عن أبيه، قطع دابر القالة التي يوسوس بها الشيطان على لسان بعض الأفراد، فلما أجابه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: أبوك حذافة، ماتت القالة وانقطع دابرها. وإليك كلمةً في ترجمة عبد الله بن حذافة، لتعرف من هو رضي الله عنه. هو أن حذافة أو أبو حذيفة عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السهمي. وأمه بنت حرثان من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين. أسلم عبد الله قديماً، وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إلى ارض الحبشة الهجرة الثانية مع أخيه قيس بن حذافة، ويقال: إنه شهد بدراً، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على بعض البعوث، كان فيه فطانة وحصافة ودعابة، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه رسولاً وسفيراً إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، فمزّق كسرى الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مزّق ملكه، وقال: إذا مات كسرى فلا كسرى بعده، فسلّط الله على كسرى ابنه شيرويه، فقتله ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى سنة سبع. وحديث سؤاله: (من أبي؟) رواه أنس رضي الله عنه. قال أنس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس، فصلّى الظهر، فلما سلّم قام على المنبر فقال: من أحبّ أن يسأل عن شيء فليسألني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمتُ في مقامي هذا، فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقالت له أمه – بعد أن رجع من مجلس الرسول إلى البيت – : ما سمعت بابن قط أعقّ منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟! فقال لها عبد الله: والله لو ألحقني رسول الله بعبدٍ أسود للحقت به. رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. وفهمت من قوله: (لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقت به) أنه كان أبيض اللون، لأن المراد من كلمته هذه أنه لو نسبني إلى نقيض ما أنا عليه، وما لا أنسب إليه، لانتسبت. ووجّه عمر جيشاً إلى الروم سنة 19، وفيهم عبد الله بن حذافة، فأسرته الروم في بعض المعارك، فأرادوه على الكفر فأبى، فقال له ملك الروم: تنصّر أشركك في ملكي، فأبى، فأمر به فصلب وأمر برميه بالسهام فلم يجزع، فأنزل وأمر بقدر فصب فيها الماء وأُغلي عليه، وأمر بإلقاء أسير فيها، فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى. قال الملك: ردوه، فقال: لم بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مئة نفس تلقى هكذا في الله، فعجب فقال: قبل رأسي وأطلقك، قال: لا، قال: قبل رأسي وأطلقك ومن معك من المسلمين، فقبل رأسه، ففعل وأطلق معه ثمانين أسيراً، فقدم بهم على عمر، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله، وأنا أبدأ ففعلوا. وشهد عبد الله بن حذافة فتح مصر، ودفن في مقبرتها في خلافة عثمان رضي الله عنهما. ومن دُعابته ما حكاه عبد الله بن وهب، عن الليث بن سعد، قال: بلغني أن عبد الله بن حذافة حلّ حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع، قال ابن وهب فقلت لليث: ليضحكه؟ قال: نعم، كانت فيه دعابة]. فأما عبد الله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتاً بالفراش، فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه، ولأنه كان لا يأمن أن يكون من ماء غيره، فيكشف عن أمرٍ قد ستره الله تعالى، ويهتك أمه، ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه، لأن نسبه حينئذٍ مع كونه من ماء غيره ثابت من حذافة، لأنه صاحب الفراش، فلذلك قالت له: لقد عققتني بسؤالك! فقال: لم تسكن نفسي إلا بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيراً لو صادف غير الظاهر، فكان منهياً عنه، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإنّ من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله. وقال لهزّال – وكان أشار على ماعزٍ بالإقرار بالزنى – : لو سترته بثوبك كان خيراً لك!. وكذلك الرجل الذي قال: يا رسول الله، أين أنا؟ قد كان غنياً عن هذه المسألة، وأن يستر على نفسه في الدنيا، فهتك ستره، وقد كان الستر أولى به. وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهيّ عنها، غير سائغ لأحد، لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعاً لأهواء الكفار وشهواتهم. فهذا النحو في المسائل مستقبحة مكروهة. وأما سؤال الحج في كل عام، فقد كان على سامع آية الحجّ الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها حجة واحدة، ولو قلت: نعم لوجبت، فأخبر أنه لو قال: نعم لوجبت بقوله دون الآية، فلم يكن به حاجة إلى المسألة، مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية.
وقد احتجّ بهذه الآية قومٌ في حظر المسألة عن أحكام الحوادث، واحتجوا أيضاً بما رواه الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يكن حراماً، فحرّم من أجل مسألته. قال أبو بكر: ليس في الآية دلالةٌ على حظر المسألة عن أحكام الحوادث، لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها، وهم غير محتاجين إليها، بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم كحقائق الأنساب، لأنه قال: الولدُ للفراش، فلما سأله عبد الله بن حذافة عن حقيقة خلْقه، من ماء من هو؟ دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش، نهاه اللهعن ذلك. وكذلك الرجل الذي قال: أين أنا؟ لم يكن به حاجة إلى كشف غيبه في كونه من أهل النار، وكسؤال آيات الأنبياء. وفي فحوى الآية دلالةٌ على أن الحظر تعلّق بما وصفنا.
وقوله تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، يعني الآيات التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها، وهذا تصديق تأويل مقسم. فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية، والدليل عليه: أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معه البدن لينحرها بمكة، قال: كيف أصنع بما عطب منها؟ فقال: انحرها واصبغ نعلها بدمها، واضرب بها صفحتها، وخلّ بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا أحدٌ من أهل رفقتك شيئاً، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله. وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أنّا لاقو العدو غداً، وليس معنا مدىً، فلم ينكره عليه. وفي حديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته، فلم ينكره عليه. وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد[هكذا وقع في المطبوعة من “أحكام القرآن”]. وروى شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل، قال: قلت يا رسول الله، إني أريد أن أسألك عن أمرٍ ويمنعني مكان هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء}، فقال: ما هو؟ قلت: العمل الذي يدخلني الجنة، قال: قد سألت عظيماً، وإنه ليسير: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. فلم يمنعه السؤال ولم ينكره.
وذكر محمد بن سيرين، عن الأحنف، عن عمر، قال: تفقهوا قبل أن تسوَّدوا. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام. وعلى هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا. وقوله تعالى: {إن تبد لكم تسؤكم} معناه: إن تظهر لكم، وهذا يدلّ على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبد الله بن حذافة، والرجل الذي قال: أين أنا؟ لأنّ إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين، لأنهم إنما يسألون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها. ثم قال الله تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم}، يعني في حال نزل الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الله يظهرها لكم، وذلك مما يسوءكم ويضركم. وقوله تعالى: {عفا الله عنها قد سألها قومٌ من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}، قال ابن عباس: قوم عيسى عليه السلام، سألوا المائدة، ثم كفروا بها. وقال غيره: قوم صالح، سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها. وقال السدي: هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهباً. وقيل: إنّ قوماً سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سألها عبد الله بن حذافة، ومن قال: أين أنا؟ فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا”. انتهى [وقد تعرّض الحافظ ابن حجر لتسمية أصحاب هذه الأسئلة في “فتح الباري” 13: 269 – 270، في كتاب الاعتصام في (باب ما يكره من كثرة السؤال)].
المؤلف: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
المصدر: مركز البحوث والدراسات الإسلامية (صحن ثمان)