التاجر الصدوق
من نظر إلى الإمام أبي حنيفة من منظور اقتصادي بحت رأى فيه قامة اقتصادية شامخة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ومن نظر إليه من زاوية الدين المعاملة رأى فيه قمة الأخلاق في التعامل على صعيد البيع والشراء وكان برهاناً صادقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم «التاجرُ الصدوقُ يُحشَرُ يَوْمَ القيامةِ مَعَ النَّبيينَ والصّدّقينَ والشُّهداءِ»، وما ذاكَ إلاّ لأَجْلِ ما يلقاهُ منْ مُجاهَدَةِ نَفْسِهِ وهَواهُ وقهرِها على إجراءِ العقودِ على الطريقِ الشرعيِ وإلاّ فلا يخفى ما توعَّدَ اللهُ به مَنْ تَعَدَّى الحدودَ. وهو بشارةٌ لِمَنْ تَعاطى التّجارةَ واتَّقى اللهَ بِتَجَنُّبِ ما حرَّمَ اللهُ تعالى مِنْ أنواعِ التِّجاراتِ المحرَّمَةِ والخِيانَةِ والغَشّ والتَّدْليسِ، والْتَزَمَ الصّدْقَ في وَصْفِهِ لبِضَاعَتِهِ وسِلْعَتِهِ وفي إخبارِهِ بالثَّمَنِ، بشارةٌ لَهُ بأنَّهُ مِنَ الذينَ لا خوفٌ عليهمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ.
أتته امرأة عجوز فقالت له: إني ضعيفة وإنها أمانة فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك قال خذيه بأربعة دراهم فلما تعجبت المرأة قال لا تستغربي إني اشتريت ثوبين فبعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فبقي هذا الثوب على أربعة دراهم.
وهذا النموذج الاقتصادي النادر الذي تصوره لنا هذه القصة ما هو إلا منتهى الأخلاقية في التعامل التي لا تقبل الفحش في الربح لا بل تنأى بنفسها عن الاحجاف بالمستهلك الفقير وتتنزل معه إلى مستويات دنية (مستواه المادي) من حيث القبول بأدنى ربح يستقيم معه ثمن السلعة وتتسامى عن غبن المستهلك.
وذات يوم أعطى شريكه متاعاً وأعلمه أنَّ في ثوب منه عيب وأوجب عليه أن يبين العيب عند بيعه. لكن شريكه باع المتاع ونسي أن يبين ولم يعلم من الذي اشتراه، فلما علم أبو حنيفة تصدَّق بثمن المتاع كله.
وهذا الأمر يلمس منه حرص الإمام الشديد على أن يكون ريع بيوعه ومتاجرته حلالاً خالصاً لا تشوبه شائبة شبهة فضلاً عن كسب حرام. فكان تحلله من رأس المال وربحه والتصدق به أفضل الحلول الاقتصادية عند مظنة ورود هكذا مخاطر.
المؤلف: حسام عبد الله