كان الإمام أبو حنيفة أبصر قومه في علم أصول الدين وفروعه، حتى روي عن وكيع بن الجراح أنه قال: فُتح لأبي حنيفة في الفقه والكلام ما لم يُفتح لغيره، وأراد بالكلام: علم أصول التوحيد، فنهج للمسلمين منهجاً كريماً وصار مذهبه في ظلمات الشبه فرجاً عظيماً، حتى روي عن عبد العزيز بن أبي روَّاد – من أئمة البصرة وزهادها – أنه قال: بيننا وبين الناس أبو حنيفة فمن أحبه وتولاه علمنا أنه من أهل السنة والجماعة ومن أبغضه علمنا أنه من أهل البدعة.
وكان الإمام أبو حنيفة يسمى سيد الفقهاء وأب الفقهاء ”كدخدا“ أي: العلم، وله في هذا الباب مناظرات مع كل فريق من أهل الضلال، وكان يعلم هذا العلم ويحث عليه، حتى روى نصير بن يحيى عن شداد بن حكيم عن أبي حنيفة أنه قال: إذا كلمت القدري فإنما هو حرفان؛ فإما أن يكفر أو يرجع تقول له: هل علم الله في سابق علمه بهذه الأشياء أن تكون كما هي؟ فإن قال: لا، فقد كفر، وإن قال: نعم، قيل له: هل شاء أن يصدق علمه وينفذ حكمه؟ فإن قال: لا، فقد كفر، وإن قال: نعم، فقد أخبرك أن قد شاء للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان.
وهذا الذي قاله الإمام أبو حنيفة تفسيراً لما روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيكون في آخر الناس ناس من أمتي يكذبون بالقدر سيكفيكم من الرد عليهم أن تقولوا: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض ) (الحج ٧٠) رواه أحمد وأبو داوود عن عبد الله بن عمر، وشرحه ما قال الإمام أبو حنيفة.
وذكر الشيخ الإمام عبد الله الأستاذ صاحب كتاب ” الكشف في مناقب أبي حنيفة رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي خليفة الحسن البصري في بيان مذهب أهل السنة والجماعة وقال في آخره: علِّمه جُلساك (أي علم الكلام) وادعهم إليه، وحضهم عليه فإنه أفضل ما تعلموا وعلمتهم وأنك في ذلك أعظم أجراً من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، ولو أُشكل عليك شيء مما كتبته إليك أو أدخل عليك أهل البدع فأعلمني أجبك عن ذلك.
وذكر عبد الله الأستاذ صاحب كتاب ” الكشف في مناقب أبي حنيفة“ مناظرة أبي حنيفة مع جهم بن صفوان في الإيمان في كلام طويل، أن جهم بن صفوان كان يقول: إن الإيمان المعرفة بالقلب، فقال أبو حنيفة: الإيمان: الإقرار باللسان والتصديق بالقلب وكان الإمام أبو حنيفة يحتج عليه بقوله تعالى: ( قولوا آمنا…) إلى قوله: ( فإن آمنوا بمثل ما اوتيتم به فقد اهتدوا…) البقرة ١٣٦-١٣٧، وبقوله: (وهدوا إلى الطيب من القول) الحج ٢٤، وقوله عليه الصلاة والسلام: (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا).
ولو كانت المعرفة كافية لكان الكافرون مؤمنين باستيقانهم بقلوبهم بالحق وجحودهم بلسانهم كما قال عز وجل: (وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا) النمل ١٤، فلم يجعلهم مؤمنين مع استيقانهم بأن الله واحد وقال عز وجل: (قل من يرزقكم من السماء والأرض…) إلى قوله: (فذلكم الله ربكم الحق) يونس ٣١-٣٢، فلم ينفعهم معرفتهم مع إنكارهم بلسانهم.
وقال: ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) البقرة ١٤٦، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينفعهم مجرد المعرفة مع كتمانهم أمره وجحودهم به، فقال جهم: لقد أوقعت في خلدي شيئاً فسأرجع إليك وقام من عنده ولم يعد إليه.
ومناظرة أبي حنيفة مع صاحب غيلان القادري مشهورة حتى أفحمه ابو حنيفة فقال صاحب غيلان: هل من توبة، قال: بلى، قال: فما توبتي قال: ترجع إلى بلادك فتردهم عمَّا أغويتهم.
ذكر هذه الحكاية أبو عبد الله بن أبي حفص الكبير في كتابه ”الرد على أهل الأهواء“ وذكر أنه بلغنا أنه رجع إلى بلاده وأجاد القول والله أعلم، ولأبي حنيفة مناظرات مع أهل الأهواء حتى بلغ ببعضهم الإفحام وببعضهم الرجوع عمَّا كان عليه، وكان أبو حنيفة في أول أمره حريصاً على تعليم هذا العلم. وكان يروي عن السلف ما سمع منهم حتى روي عنه أنه قال: ”قال رجل لزيد بن علي: قضى الله المعاصي، فقال زيد: فعصي قسراً“، فقال أبو حنيفة: ما رأيت جواباً أفحم منه، وكان يحث أبنه حماداً على تعلم هذا العلم فتعلَّم حماد حتى تبين فيه ثم نهاه عن المناظرة في هذا العلم، وقال: كنا نتكلم وكأن على رؤوسنا الطير ثم صار هم أحدهم أن يزلَّ صاحبه فإذا همَّ بزلة صاحبه كفر قبل أن يكفر صاحبه. (مناقب أب حنيفة للموفق المكي)
وكان الإمام أبو حنيفة يكره الجدال على سبيل التعنت لا على سبيل إظهار الحق، حتى روي عن أبي يوسف أنه قال: كنا جلوساً عند أبي حنيفة إذ دخل عليه جماعة في أيديهم رجلان، فقالوا: إن أحد هذين يقول: القرآن مخلوق وهذا ينازعه ويقول: إنه غير مخلوق، فقال الإمام أبو حنيفة: لا تصلوا خلفهما، فقلت: أما الأول فنعم فإنه يقول بقدم القرآن، وأما الآخر فما باله لا يصلي خلفه؟! فقال الإمام: إنهما تنازعا في الدين والمنازعة في الدين بدعة. (مشكلة خلق القرآن من أعظم المشكلات التي أثارها المعتزلة وآمنوا بها، وعارضهم أهل السنة والجماعة معرضة شديدة).
أشار أبو حنيفة إلى أن كل واحد منهما من العامة ومنازعة العامي تكون على سبيل التعنت لا لإظهار الحق، فيصير بذلك فاسقاً والأفضل أن لا يصلى خلف الفاسق.
وقد ذكر أبو جعفر الهندواني في غريب الروايات عن أبي علي الدقاق عن محمد بن الحسن أنه قال هكذا في مثل هذا، قال أبو علي القاق: وبه نقول اذا كان من أهل الجدال يعني اذا كان كلامه على سبيل التعنت لا لإظهار الحق والله أعلم.
وقال الإمام أبو يوسف: من طلب المال بالكيمياء أفلس ومن طلب الدين بالخصومة تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذِّب، وفي بعض الروايات عن أبي يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق، يعني به كلام الفلاسفة وكلام الخصومة والسفه،
فأما المناظرة على وجه إظهار الحق على ما قال عز وجل: (وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل ٢٥، فلا كراهية فيه بل هو المأمور به وبالله القوة.
وقد رأيت عن الإمام أبي نصر الصفَّار جدي – رحمه الله – قال: كيف يكون النبي مأموراً بترك المجادلة والسكوت عن المناظرة وقد احتوشوه (أي أحاطوا به) من كل جانب، هذا يقول: ما الدليل على النبوة؟ وهذا يقول: ما الحجة على أنك رسول رب العزة؟ أكان يجوز في الشريعة والمعقول أن يأمره الله بادعاء المعجزة دليلاً على النبوة ثم ينهاه عن إظهارها فيكون ذلك سبباً داعياً إلى تفريق الجماعة وسقوط الكلمة؟! كلا إنه أحكم الحاكمين، وأعلم بأحوال العباد أجمعين.
الكاتب: ابراهيم الصفار البخاري