الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛
فإن العرب كانت شرذمة من قبائل متفرقة متناحرة، لا يسمع لها صدى في المعمورة إلى أن منَّ الله عليها بنعمة الإسلام، وشرفها باختيار أشرف المخلوقات من بين ظهورها وأرسل لها دستوراً ومنهاجاً ونوراً تمشي به، يرفع هامتها بين أبناء الأمم، وحمل على عاتقها إبلاغ النداء الإلهي الأخير إلى البشرية كلها، فما كان منها إلا أن لبَّت نداء ربها، فوحدت صفوفها تحت راية نبيها وبدأت في نشر كلمة الإله الأخيرة، وبذلت نفوسها وما تملك لذلك.
فما كان إلا أن جثت أمامها أعظم إمبراطوريتين عرفهما التاريخ – الفرس والروم – وانتشر الإسلام فيهما كانتشار النار في الهشيم، وما كان ذلك إلا لصفاء عقيدته وعدل شريعته.
ولكن هؤلاء المسلمين الجدد كانوا أصحاب ديانات ومذاهب قديمة متنوعة أهمها: اليهودية والمسيحية والثنوية بأنواعها … وغيرها من الأديان والمذاهب التي كانت عقول كثير من أبنائها لا تزال مليئة بأفكار ومشكلات دياناتهم القديمة، فمنهم من نظر إلى عقائد الإسلام في ضوء ما ورثه، ومنهم من كان يكن الحقد والعداء للإسلام وأهله فحاول التشكيك في عقائده.
ومن هنا كان الواقع يحتِّم ويفرض على أبناء الإسلام المخلصين أن يهبُّوا للدفاع عن عقائدهم ضد تلك الأديان والمذاهب، وحمل لواء تلك الحرب – وما أشدَّها وما أخطرها – علماء الكلام الذين قال عنهم العامري:“ إنا لم نجد أهل دين من الأديان عنوا بتقديم المقدمات العقلية، لإستخراج النتائج النظرية في إستخلاص توحيد الله تعالى من شبهات المعاندين ومغالطات المغالطين، ما عُني به متكلمو الإسلام فإنهم بلغوا فيه مبلغاً شهد المعنيون بالفلسفة والمحققون من ذوي الحكمة على تقدم شأوهم في تحصيل الحق منه، وسلامتهم عن التشبيه الذي إعتقده اليهود، والشرك الذي إعتقده عبدة الأوثان“.
ولم تندثر تلك الأديان بل ما زالت موجودة وبقوة، ومن ثم فنحن بحاجة ماسة إلى أن نتعلم مما تركه لنا علماء الكلام لأهل السنة والجماعة كالماتريدية والأشعرية، ولا يتأتى ذلك إلا بنشر ما كتبوه وتحقيقه تحقيقاُ علمياً، فلقد تركوا لنا تراثاً كبيراً ومجهوداً ضخماً يبين إلى أي مدى كانوا فعلاً مدافعين عن هذا الدين.
المذهب الماتريدي
الماتريدية هي إحدى المذاهب الكلامية الكبرى، وهي تمثل الجناح الثاني لمدرسة أهل السنة والجماعة مع الأشعرية.
ترجع النشأة الحقيقية للمذهب الماتريدي إلى مؤسسها الأول الإمام الجليل أبي حنيفة النعمان رحمه الله الذي نشأ في العراق – موطن الأديان والمذاهب المختلفة – فوقف للدفاع عن العقائد الإسلامية ضد كافة الأديان والمذاهب الأخرى معتمداً على الأدلة العقلية والنقلية.
وهناك روايات كثيرة تثبت أن أبا حنيفة بدأ حياته العلمية باشتغاله بعلم الكلام قبل الفقه، ومنها: ما روي أنه دخل البصرة أكثر من عشرين مرة يجادل كافة الفرق الكلامية حتى وصل إلى درجة عظيمة، وروي عن وكيع بن الجراح أنه قال: فُتح لأبي حنيفة في الفقه والكلام ما لم يفتح لغيره، فنهج للمسلمين منهجاً كريماً وصار مذهبه في ظلمات الشُّبه فرجاً ومخرجاً عظيماً.
ومع هذه المكانة العظيمة التي وصل إليها الإمام أبو حنيفة نجد أن علماء العراق لم يهتموا بدراسة آراء أبي حنيفة في العقيدة – وهي مجموعة الرسائل التي أثرت عنه – وغيرها من الآراء المبثوثة في كتب علماء الكلام والطبقات .. وغيرها، واكتفوا بما نشر بينهم من آراء الفقهاء والمحدثين أولاً ثم بآراء الأشاعرة ونالت تلك الآراء إهتماماً كبيراً وعناية من قبل علماء ما وراء النهر، فقاموا بشرحها ولإيضاحها ونشرها، وبهذا تكونت مدرسة الحنفية في علم الكلام إلى جانب المدرسة الحنفية في الفقه.
وكان الإمام محمد الماتريدي (أبو منصور) من أهم وأكبر العلماء الذين اهتموا بشرح ودراسة آراء الإمام أبي حنيفة في العقيدة، فقد عكف على رواية الكتب المنسوبة إليه، وأخذت شكلاً آخراً على يديه، فتحولت من متون في العقيدة إلى علم كلام، لأنه حقق تلك الأصول في كتبه بقواطع الأدلة، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية، فكان بذلك متكلم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنة والجماعة في بلاد ما وراء النهر، ولذلك سميت بإسمه وأصبح المتكلمون في بلاد ما وراء النهر يسَمَّوْنَ ”بالماتريدية“.
ومن هنا يمكن أن نطلق على تلك المدرسة ” مدرسة الحنفية الماتريدية“ نسبة إلى المؤسس الحقيقي وإلى أكبر وأهم شراحه.
أهم علماء المذهب الماتريدي
١- أبو منصور محمد الماتريدي
هو شيخ الماتريدية، إمام الأئمة أبو منصور محمد بن محمد بم محمود الماتريدي نسبة إلى ماتريد محلة في مدينة سمرقند وقيل ”ماتريت“ وكان عالماً كبيراً فقيهاً أصولياً متكلماً مفسراً، توفي سنة (٣٣٣ هـ) صنف الكثير من الكتب على مذهب أهل السنة منها: كتاب التوحيد، وأوهام المعتزلة، وتأويلات أهل السنة، وغيرها.
٢- الحكيم السمرقندي
وهو أبو القاسم إسحاق بن محمد الحكيم السمرقندي، كان من كبار العلماء الصالحين، وكان يُضرب به المثل في الحلم والحكمة، ولذلك لقب بالحكيم لكثرة حكمته، أخذ الفقه والكلام عن الإمام أبي منصور الماتريدي، وتولى قضاء سمرقند مدة طويلة، توفي سنة (٣٤٢ هـ)، ومن كتبه: الصحائف الإلهية، والسواد الأعظم.
٣- أبو الحسن الرستغفني
هو أبو الحسن علي بن سعيد الرستغفني السمرقندي، وهو من أهم وأجل أصحاب أبي منصور الماتريدي، ومن كبار شيوخ سمرقند، توفي حوالي سنة (٣٤٥ هـ)، ومن كتبه: إرشاد المهتدي، والزوائد والفوائد في أنواع العلوم.
٤- أبو اليسر البزدوي
هو أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي، من كبار فقهاء بُخارى، وولي قضاء سمرقند، وانتهت إليه رئاسة الحنيفة في ما وراء النهر، توفي سنة (٤٩٣ هـ)، وله من التصانيف كتاب ”أصول الدين“ وهو يضم كثيراً من مسائل علم الكلام.
٥- أبو معين النسفي
هو أبو معين النسفي ميمون بن محمد بن محمد النسفي العالم الكبير بالفقه والأصول والكلام، وهو من أهم وأكبر علماء الكلام الماتريدي، فهو بالنسبة للماتريدية كما البقلاني والغزالي بالنسبة للمذهب الأشعري، له من المؤلفات الكثير منها: تبصرة الأدلة، بحر الكلام، والتمهيد لقواعد التوحيد، وهو اختصار للتبصرة، وغيرها من الكتب، توفي (٥٠٨ هـ).
٦- نجم الدين النسفي
هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد بن أحمد النسفي، وهو أحد الأئمة الكبار، فكان إماماً أصولياً فقيهاً متكلماً محدثاً أديباً، قيل أن له مائة مصنف منها: عقائد النسفي، والقند في علماء سمرقند، وغيرها، توفي سنة (٥٣٧ هـ).
٧- ركن الدين الزاهد الصفار
هو أبي اسحاق ابراهيم بن إسماعيل بن أحمد الصفَّار البخاري، أحد الأئمة العظماء ومن كبار رجال الحنفية والمحدثين المشهورين، وأحد أعلام علماء الأصول في بُخارى، توفي (٥٣٤ هـ)، له من التصانيف: تخليص الزاهد، تلخيص الأدلة لقواعد التوحيد، كتاب السنة والجماعة، صك الجنة وغيرها.
٨- نور الدين الصابوني
هو نور الدين أحمد بن محمود بن بكر الصابوني البخاري، أحد المتكلمين العظام، فقيه أصولي صاحب العلم الوفير صاحب المناظرة المشهورة بينه وبين الامام فخر الدين الرازي الأشعري، توفي (٥٨٠ هـ)، وله مؤلفات منها: الكفاية في الهداية، البداية في اصول الدين.
٩- جمال الدين الغزنوي
هو جمال الدين أحمد بن محمد بن محمود بن سعيد الغزنوي، كان عالماً فقيهاً متكلماً أصولي، له مصنفات عديدة منها: روضة إختلاف العلماء، المنتقى من روضة المتكلمين، الحاوي القدسي، النتف في الفتاوي، عقائد الغزنوي، توفي (٥٩٣ هـ).
علاقة الماتريدية بالأشعرية
إن الباحث في عقيدة الأشاعرة والماتريدية يجد بينهما تقارباً كبيراً أدى إلى أ، يوصف كل منهما بأهل السنة والجماعة.
والغريب في الأمر أن هذا التقارب الشديد حدث مع أن الماتريدي قضى حياته كلها في بلاد ما وراء النهر، ولم يُذكر عنه أنه خرج أو ارتحل إلى غيرها، وكذلك فعل الأشعري فلم يخرج من العراق ولم يذهب إلى بلاد ما وراء النهر، بل إنه لم يسمع بالماتريدي مع أنه معاصر له، ولم يذكره في كتابه مقالات الإسلاميين.
إذن فكيف حدث هذا التقارب؟!
هناك من يرى أن ذلك حدث بسبب إتحادهم في الخصم، ولذلك تقاربت النتائج، فإن الماتريدي سلك – كما سلك الأشعري – منهجاً وسطاً بين الحرفيين والعقليين، وبين الحرفيين من الحشوية والمشبهة والمجسمة، وبين العقليين من المعتزلة، وكما إتفقا في المنهج التقيا في المذهب، فليس المذهب إلا تطبيقاً للمنهج، فنراهما يلتقيان في إثبات صفات الله تعالى، وفي كلامه الأزلي، وفي جواز رؤيته، وفي بيان عرشه، واستوائه، وفي أفعال عباده، وفي أمر مرتكب الكبيرة، وفي شفاعة رسوله، وغيرها من المسائل الكثيرة التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الإسلامية.
ولكن مع وجود هذا التشابه الكبير بين المذهبين إلا أن هناك فروقاً واختلافات، حاول كثير من العلماء جمعها وحصرها في كتبهم محاولين بذلك زيادة التقريب لا التفريق، ومن هذه الكتب:
١- إشارات المرام من عبارات الإمام، للإمام البياضي، ذكر فيه بشيء من التفصيل كثيراً من المسائل الكلامية التي حدث فيها خلاف بين الأشاعرة والماتريدية مبيناً أنها تقع في خمسين مسألة، وأنها تقع في التفاريع الكلامية التي لا يجري في خلافها التبديع.
٢- نظم الفرائد وجمع الفوائد في المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية في العقائد، تأليف: عبد الرحيم بن علي الشهير بشيخ زاده، ذكر المؤلف فيها أن هناك أربعين مسألة خلافية بين الأشاعرة والماتريدية.
٣- الروضة البهية في ما بين الأشاعرة والماتريدية، تأليف: الحسن بن عبد المحسن الشهير بأبي عزبة، وذكر فيها أن الخلاف وقع بين الأشاعرة والماتريدية في ثلاث عشر مسألة.
٤- المسالك في الخلافيات لمستجى زاده، وذكر فيها المؤلف: أولاً الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة، ثم الخلاف والإتفاق بين المعتزلة والأشاعرة، ثم بعد ذلك الخلاف والإتفاق بين الأشاعرة والماتريدية.
٥- العقد الجوهري في الفرق بين الماتريدي والأشعري، تأليف: خالد بن أحمد النقشبندي، ولكنه اقتصر في رسالته على بيان الخلاف في مسألة الكسب بين الأشعرية والماتريدية ولم يذكر الخلافات الأخرى.
وهناك غيرها من الكتب التي حاول أصحابها عرض أهم القضايا الخلافية بين الأشاعرة والماتريدية.
أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار ورواج للمذهب الأشعري على عكس المذهب الماتريدي
لقد لاقت المدرسة الأشعرية رواجاً كبيراً في شتى بقاع الخلافة الإسلامية على عكس المذهب الماتريدي الذي انحصر وجوده في بلاد ما وراء النهر والأسباب في ذلك كالتالي:
١- نشأة الأشعرية وازدهارها في بغداد منارة العلم والفكر والحضارة وقتذاك، ولم تكن سمرقند التي نشأ فيها المذهب الماتريدي بنفس تلك القوة.
٢- قبول كبار العلماء للمذهب الأشعري ومن هؤلاء الإمام الباقلاني والجويني، والغزالي، والشهرستاني، والرازي، والآمدي .. وغيرهم، وكان لهؤلاء العلماء دور كبير في نشر المذهب الأشعري والدفاع عنه.
٣- عدم حصول الماتريدية على الدعم السياسي في بداية نشأتها كما حدث ذلك للأشعرية والمعتزلة، فنجد المعتزلة ناصرها ثلاثة من كبار الخلفاء العباسيين – المأمون، والواثق، والمعتصم – ثم أفل نجمها وبدأت محنتها الكبرى مع عهد المتوكل الذي ناصر أهل السنة مما هيأ بعد ذلك الظروف لسطوع نجم الأشعرية.
٤- استمرار الدعم السياسي للمذهب الأشعري على مستوى كبار الدول فأنشأ السلاجقة المدارس النظامية التي قام على أمرها بعض كبار علماء الأشاعرة كإمام الحرمين في نظامية نيسابور، والغزالي في نظامية بغداد، وأيضاً الأيوبيون في الشام ومصر أسسوا عدداً من المدارس التي تحارب الفاطميين، وتبعهم في ذلك المماليك، وانتهاءً بالدولة العثمانية التي مع اعتناقها المذهب الحنفي – لم تغلب الماتريدية على الأشعرية -.
وبعيداً عن دول المشرق نجد انتشار المذهب الأشعري في بلاد المغرب وحصوله على دعم سياسي قوي من دولة الموحدين بفضل محمد بن تومرت المتوفى ( ٥٢٥ هـ)، الذي أخذ المذهب عن أبي حامد الغزالي.
الكاتب: هشام إبراهم محمود