المذهب الحنفي الفقهي

المذهب الحنفي وأثره في علم الأصول

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 2,762 مشاهدة

إذا كان القرن الثاني الهجري قد شهد ظهور المذهب الحنفي وانتشاره على يد أتباع الإمام أبي حنيفة و بالأخص أصحابه الثلاثة: زفر، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، فإن القرن الثالث شهد تميز هذا المذهب واستقلاله بأصوله وقواعده، وقد كان لأعلام القرن الثالث من الحنفية جهود ظاهرة وواضحة في هذا السبيل، وحيث صرفوا جل جهدهم في جمع فروع الإمام أبي حنفية وفتاويه ومسائله محاولين في الوقت نفسه استنتاج أهم أصوله وقواعده التي بني عليه مذهبه.

وإن المتتبع لتاريخ المذهب الحنفي منذ نشأته إلى حين اكتماله واستقلاله بأصوله وقواعده: يدرك مدى الخدمات الجليلة التي قدمها لعلم الأصول، فقد أسهم في ظهور هذا العلم وتميزه عن سائر العلوم الإسلامية الأخرى، وكان أحد الروافد الأساسية التي ساهمت في إثرائه واكتمال مادته العلمية.

والإمام أبو حنيفة – وإن لم يكن له كتاب مدون في هذا العلم – فإنه يعد من أوائل علماء أصول الفقه، بل قيل إنه من أول من أسسه (أصول السرخسي 1/3)، وبغض النظر عن ذلك فإن الناظر فيما أثر عنه من أحكام ومسائل وفتاوى يلمس بوضوح ذلك النهج الأصولي الذي بنى عليه مذهبه، فقد حدد لنفسه جملة من القواعد والأصول التي يسير عليها في سعيه لاستنباط الأحكام من الأدلة، ويلخص – رحمه الله – منهجه هذا بقوله:

– آخذ بكتاب الله فما لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر – أو جاء- إلى إبراهيم، والشعبي وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب، – وعدد رجالا – فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا (تاريخ بغداد 13/368).

وقد ثبت عنه – رحمه الله تعالى – أنه كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه وإن كان عن الصحابة والتابعين فكذلك، وإلا قاس فأحسن القياس (تاريخ بغداد 13/340).

وكان يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعدل عنه إلى غيره وآخذ به، وإذا جاء عن أصحابه تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم (مناقب أبي حنيفة للموفق المكي 1/71).

وروي عنه – أيضا- أنه قال: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ما أجمع عليه الصحابة، وأما ما اختلفوا فيه فنتخير من أقوالهم أقربه إلى كتاب الله – عز وجل والسنة ونجتهد، وما جاوز ذلك فالاجتهاد بالرأي بوسع الفقهاء من عرف الاختلاف وقاس، وعلى هذا كانوا (عقود الجمان ص 175).

وروي عنه أيضا: أنه كان شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ (مناقب أبي حنيفة 1/80).

وروى أبو يوسف أنه كان إذا وردت عليه المسألة قال: ما عندكم فيها من الآثار، فإذا روينا الآثار وذكر ما عنده نظر فإن كانت الآثار في أحد القولين أكثر أخذ بالأكثر، وإذا قاربت اختار، إلا أن يفحش القياس عنده فيتركه إلى الاستحسان (مناقب أبي حنيفة 1/80).

ويلخص أحد أئمة المذهب الحنفي (سهل بن مزاحم)، مذهب أبي حنيفة بالقول: كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة، وفرار من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه وصلح عليه أمورهم يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيه على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغا، ثم يرجع إلى الاستحسان، أيهما كان أوثق رجع إليه، هذا علم أبي حنيفة رحمه الله، علم العامة.

ومن خلال ما مضى من هذه الأقوال والنقول تتضح لنا بشكل جلي – أهم الأصول والقواعد التي أسس عليها الإمام أبو حنيفة مذهبه ، وهي سبعة:

1- الكتاب

2- السنة

3- أقوال الصحابة

4- الإجماع

5- القياس

6- الاستحسان

7- العرف

وإن الناظر المنصف ليدرك أن لتأكيد الإمام أبي حنيفة على هذه الأصول ولفته الأنظار إليها أثر كبير في عناية علماء الأمة بها وحرصهم على ضبطها وتنظيهما، وهو ما فتح الباب للتأليف في علم الأصول، وأسهم بشكل واضح وجلي في ظهوره كعلم مستقل.

وبعد أن وضع الإمام أبو حنيفة هذه الأصول وأكد عليها وأصبحت سمة مميزة لمذهبه الفقهي: جاء أتباعه من بعده فاعتنوا بمذهبه وجمعوا مسائله وفتاويه، ورتبوا أصوله وقواعده وهذبوها، بل وزادوا عليها تخريجا على مذهبه وبناء على فروعه (أبو حنيفة لمحمد أبو زهرة ص 238). ومن أشهر من اعتنى بأصول مذهبه صاحباه: أبو يوسف، ومحمد ابن الحسن.

فأما أبو يوسف فقد أخذ على كاهله نشر المذهب الحنفي، ولأجل هذه الغاية جمع مسائل الإمام أبي حنيفة وأحكامه، وحرص على تدوينها، فكانت مؤلفاته من أوائل ما صنف في علم الفقه.

وإن الناظر في كتابه الجليل “الخراج” يدرك مدى خدمته للفقه الحنفي، فالكتاب في غالبه روايات للمؤلف عن إمامه، ونقل دقيق لأحكام أبي حنيفة ومسائله وفتاواه الفقهية (مقدمة الخراج).

وأبو يوسف وإن كانت أغلب مؤلفاته في الفقه إلا أنه يعد من أعلام علم الأصول، بل زعم بعض الحنفية أنه أول من أسس هذا العلم (أصول السرخسي 1/3).

وبغض النظر عن هذه القضية فإن آثاره الأصولية لم تزل واضحة كل الوضوح لكل من تتبع أقواله وأحكامه الفقهية، فقد كان من منهجه في مؤلفاته وخصوصا كتابه السابق الخراج التنصيص على الأصول والقواعد التي بنى عليها أبو حنيفة مذهبه، وهو كثيرا ما كان يشير إلى عدة مباحث وقضايا أصولية في ثنايا بحثه في أحكام الفروع، وهذا المنهج يدل على أنه كان ذا فكر أصولي دقيق، وأنه كان يسير في أحكامه و فتاويه على وفق أصول وقواعد ورثها عن إمامه نصا أو خرجها على أقواله (نماذج من آثاره الأصولية المستوحاة في كتاب الخراج).

وأما محمد بن الحسن فقد سلك المنهج نفسه، فأخذ على عاتقه نشر المذهب الحنفي متبعا كافة السبل الكفيلة بذلك، من التعليم، والتدريس والإفتاء والتأليف، ولم يكن اهتمامه بمذهب إمامه منصبا على الأحكام الفرعية فقط، وإنما تجاوز ذلك إلى الاهتمام بالأصول والقواعد التي تنظم استنباط الأحكام من الأدلة، وقد برع في هذا المجال حتى عد من أعلام علم الأصول الذين يشار إليهم بالبنان، ولعل هذا هو ما دفع بعض الحنفية إلى القول بأنه أول من أسس علم الأصول (أصول السرخسي 1/3).

وبغض النظر عن هذه الدعوى فإن جهود محمد بن الحسن في علم الأصول واضحة لكل من تتبع مؤلفاته وكتبه المختلفة، فقد كان منهجه في الفقة يقوم على جملة من القواعد والأصول، وكان كثيرا ما يشير إلى مباحث أصولية وقواعد كلية في ثنايا أحكامه الفقهية.

وهذه الآثار تؤكد علو كعبه في هذا العلم، وأنه كان أحد أئمته وأرباب صناعته.

وقد ذكر أصحاب كتب التراجم أن لمحمد بن الحسن مؤلفات مستقلة في علم أصول الفقه، إلا أنه لم يصل إلينا شيء منها، ومن أهم المؤلفات التي ذكروها:

1- كتاب اجتهاد الرأي

2- كتاب الاستحسان

3- كتاب أصول الفقه

كما أثر عنه جملة من الأقوال التي تنم عن فكر أصولي دقيق، وتعبر عن طريقة الحنفية في استنباط الأحكام من الأدلة، ومن أشهر هذه الأقوال:

1- ما روى عنه – رحمه الله تعالى – أنه قال: العلم على أربعة أوجه، ما كان في كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه، فإن وقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ما أشبهه، وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين وما أشبهه وكان نظيرا له، قال: ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة (جامع بيان العلم وفضله 2/32-33).

2- وقوله: من كان عالما بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد رأيه فيما ابتلى به، ويقضي به، ويمضيه في صلاته وصيامه وحجه وجميع ما أمر به ونهى عنه، فإذا اجتهد ونظر وقاس على ما أشبه ولم يأل وسعه العمل بذلك وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به.

وفي القرن الثالث الهجري شهد علم أصول الفقه نهضة علمية كبيرة كان من أهم ثمارها: اكتمال مادته العلمية، وظهور المصنفات المختلفة فيه، وكان لعلماء المذهب الحنفي دور بارز في هذه النهضة، حيث أسهموا في إثراء هذا العلم، واعتنوا به عناية فائقة، فحرروا مسائله، ورتبوا أبوابه، ونظموا قواعده، ووضعوا المصنفات المتخصصة فيه.

– ومن أشهر هؤلاء العلماء ما يلي:

1- الجوزجاني: موسى بن سليمان، فقد كان أحد أعلام الأصول من الحنفية في القرن الثالث (الفتح المبين 1/126) قال عنه بعض علماء التراجم: كتب أبو سليمان مسائل الأصول والأمالي (الجواهر المضيئة 3/518).

2- عيسى بن أبان: توفي 220 هـ وهو أشهر علماء الأصول من الحنفية في هذا القرن، وقد كانت له عناية خاصة بهذا العلم، وحيث وضع فيه جملة من المؤلفات والمصنفات، وله آراء خاصة في كثير من القضايا الأصولية أثبتها علماء الأصول في كتبهم (رسالة ماجستير لعيسى البلهيد جمع فيها آراء عيسي بن أبان الأصولية). ومن أشهر ما نسب إليه من الكتب في الأصول ما يلي:

1- كتاب إثبات القياس

2- كتاب خبر الواحد

3- كتاب اجتهاد الرأي

إضافة إلى كتاب رابع سماه: الحجج ، ويقال إن سبب تأليفه له: أن بعض العلماء المخالفين للحنفية في عهد المأمون جمعوا له أحاديث كثيرة، ووضعوها بين يديه، وقالوا له: إن أصحاب أبي حنيفة – وهم أصحاب الخطوة لديك، والمقدمون عندك – لا يعملون بها، فصنف ابن أبان هذا الكتاب، وبين فيه وجوه الأخبار، وما يجب قبوله، وما يجب تأويله، وبين فيه حجج أبي حنيفة، فلما قرآه المأمون ترحم على أبي حنيفة (تاج التراجم ص 227).

3- ابن سماعة: أبو عبد الله محمد بن سماعة التميمي توفي 233هـ، أحد تلاميذ محمد بن الحسن، فقد كان من المهتمين بعلم الأصول، حيث ذكر صاحب الفهرست في ترجمته أنه كان فقهيا، وله كتب مصنفة وأصول في الفقه، وله من الكتب: كتاب أدب القاضي، وكتاب المحاضر والسجلات.

وخلاصة القول: أن المذهب الحنفي قدم خدمة جليلة لعلم أصول الفقه، وأسهم بشكل واضح في اكتمال مادته وبروزه كعلم مستقل، وقد كانت أصول وقواعد المذهب الحنفي ولم تزل تشكل جزء كبيرا وهاما من علم الأصول، ويكفي الحنفية فخرا أنهم أول من برع في أصلين هامين من أصول الفقه، هما القياس والاستحسان (ترتيب المدارك 1/95).

ويؤكد هذا ما روي عن الإمام الشافعي أنه قال: الناس عيال على أبي حنيفة في القياس (عقود الجمان ص 175).

الكاتب: عبد الأحد أحمدي

وسوم: أصول فقه, أعلام حنفية ماتريدية, الحنفية, المذهب الحنفي, سيرة الإمام أبي حنيفة, كشف شبهات, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
محنة الإمام أبي حنيفة والفرق بين العلماء الربانيين والعلماء الدنيويين
أهل السنة الماتريدية مذهب حنفي اصيل بامتياز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

المذهب الحنفي وأثره في علم الأصول

إذا كان القرن الثاني الهجري قد شهد ظهور المذهب الحنفي وانتشاره على يد أتباع الإمام أبي حنيفة و بالأخص أصحابه الثلاثة: زفر، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، فإن القرن…