بينما تمسَّك الامام الشافعي في رفضه للحديث بالإنقطاع في سنده، فترك العمل بالمراسيل غالباً، تحدَّث الحنفية عن نوع من الإنقطاع المعنوي، أطلقوا عليه إسم الإنقطاع الباطن، وقسموه إلى قسمين:
الأول: انقطاع لنقصان في الناقل
الثاني: انقطاع بدليل معارض
فالكلام بالقسم الثاني وله خمسة أقسام و هذا قسم من أقسامه الخمسة:
حكم العمل بحديث الآحاد إذا زاد على القرآن أو خالف عموم القرآن أو ظاهره
يعتبر الحنفية دلالة العام على أفراده قطعية ما لم يخصَّص، بينما يعتبر الجمهور دلالة العام على أفراده ظنية، ولمَّا كان حديث الآحاد ظنِّياً، وعموم القرآن قطعيّ الدلالة – عند الحنفية – ومعلوم أن الظني دون القطعيّ مرتبة، لذلك فإن حديث الآحاد لا ينهض مخصصاً لعموم القرآن الذي لم يخصَّص عندهم، فضلًا عن أن يقدَّم عليه، بينما يخصص حديثُ الآحاد عموم القرآن عند الجمهور؛ لأن كليهما ظنيان – عندهم -، وإنما منع الحنفية من قبول القول بالتخصيص أنّ التخصيص إبطالٌ للعمل ببعض العامّ عندهم، وهو عند الجمهور بيانٌ لا إبطالٌ للعمل، والعام عند الحنفية مبيَّن لا يحتاج إلى بيان. (أصول السرخسي)
وفي هذا يقول الإمام السرخسي:” إنَّ تخصيص العام بخبر الواحد لا يجوز ابتداءً، وكذلك ترك الظاهر فيه والحمل على نوع من المجاز لا يجوز بخبر الواحد عندنا”.
الأمان لداخل الحرم الشريف في مكة المكرمة ولو كان عاصياً
وتوضيحا لهذا الكلام يقال: قال الله تعالى:( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [سورة آل عمران 97]، وهذا عام في تأمين كل من دخل الحرم لأنَّ لفظة “مَن” مِن ألفاظ العموم، وهي قطعي الدلالة عند الحنفية.
وحديث: “الحرم لا يعيذ عاصياً”، (رواه البخاري ومسلم في كتاب الحج) يخصص تأمين من دخل الحرم بغير حالة العصيان، وهو ظنيّ، لأنه حديث آحاد، لذا يعتذر الحنفية عن العمل به؛ لأنه لا يقوى عندهم على تخصيص عموم القرآن الذي يعتبرونه قطعياً، ولهذا من ارتكب حدَّاً في الحِلِّ ثمَّ لجأ إلى الحرم لم يقم عليه فيه، وألجيء إلى الخروج منه، فإذا خرج أقيم الحدَّ عليه عند الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
حديث الوضوء من مس الذكر عند الحنفية
فأما مخالفة ظاهر القرآن فقد مثلوا لها بالقول إنَّ حديث الوضوء من مس الذكر مخالف لقوله تعالى: ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [سورة التوبة 108]، وقد روى هذا الحديث بسرة بنت صفوان من حديث أبي هريرة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَن مسَّ ذكره فليتوضأ، وقد أخرجه أبو داوود في السنن، والترمذي، والنسائي، وصححه أحمد والدارقطني، والذي رواه في سننه، كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القُبُل والدُّبُر والذَكَر والحكم في ذلك.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه فهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أفضى الرجل ببطن كفه إلى ذكره ليس بينه وبينه شيء فليتوضأ”، فقد قال الإمام الشافعي عن الحكم: “ وإذا أفضى الرجل ببطن كفه إلى ذكره ليس بينهما وبينه ستر وجب عليه الوضوء، وإذا مسَّ ذكره بظهر كفه أو ذراعه أو شيء غير بطن كفه لم يجب عليه الوضوء، فإن قال قائل: فما فرقٌ بين ما وصفت؟ قيل: الإفاضة باليد إنما هو ببطنها، كما تقول: أفضى بيده مبايعاً، وأفضى بيده إلى الأرض ساجداً، أو الى ركبتيه راكعاً، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالوضوء منه إذا افضى به إلى ذكره، فمعلوم أنَّ ذكره يماس فخذه وما قارب من ذلك من جسده فلا يوجب ذلك عليه (بدلالة السنة) وضوء”. (كتاب الأم)
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، وقال عنه الإمام النووي:” في إسناده ضعف لكنه يقوى بكثرة طرقه، ونقل ابن حجر عن غير واحد تصحيح الحديث”.
قال الإمام السرخسي في أصوله: “ يعني الإستنجاء بالماء، فقد مدحهم بذلك وسمِّى فعلهم تطهيراً، ومعلوم أن الإستنجاء بالماء لا يكون إلا بمسّ الذكر، فالحديث الذي يجعل مسَّه حدثاً – بمنزلة البول – يكون مخالفاً لما في الكتاب؛ لأن الفعل الذي هو حدث لا يكون تطهُّراً”.أهـ لهذا يعتذر الحنفية عن العمل بهذا الحديث لأنه ظني ولأن ظاهر القرآن لا يترك بخبر الواحد عندهم. والواقع أن الحنفية لم يعتذروا عن هذا الحديث بسبب مخالفته ظاهر الآية فحسب، وإنما لهم أسباب أخرى، وقد اكتُفِيَ بهذا القدر من الكلام لتوضيح قاعدتهم الأصولية فقط، ومن هذه الأسباب ما ذكره الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، فقال: “ والذي لا اختلاف فيه عندنا أن عليا بن أبي طالب، وعبدَ الله بن مسعود، وعمّارا بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وعمرانا بن حصين رضي الله عنهم لم يروا في مسّ الذكر وضوء، فأين هؤلاء من بسرة ابنة صفوان؟! (الحجة على أهل المدينة، باب مس الذكر).
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: في ذلك عندنا آثار كثيرة ثمَّ روى بإسناده إلى قيس بن طلق أن أباه حدثه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل مسَّ ذكره أيتوضأ؟ قال: هل هو إلا بضعة من جسدك؟ … وعن ابن عباس قال: ليس في مس الذكر وضوء … وعن علي بن أبي طالب قال في مس الذكر: ما أبالي مسسته أو طرف أنفي … وعن ابن مسعود سئل عن الوضوء من مس الذكر فقال إن كان نجساً فاقطعه، وعن حذيفة بن اليمان في الرجل يمس ذكره في الصلاة قال: إنما هو كمس رأسه … وعن عمار بن ياسر قال: ما هو إلا بضعة منك، وإن لكفك لموضعاً غيره … وعن سعد بن أبي وقاص قال: إن علمت أن منك بضعة نجسة فاقطعها … وعن أبي الدرداء قال: إنما هو بضعة منك. ثم قال محمد بعد هذه الروايات كلها:” فكيف نترك حديث هؤلاء كلهم واجتماعهم على هذا على حديث بسرة ابنة صفوان، إمرأة ليس معها رجل والنساء إلى الضعف ما هنَّ في الرواية … فلا نجوِّز قولها مع من خالفها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
زياد خبر الآحاد والقياس على القرآن نسخ.
وأما موضوع الزيادة على القرآن فيقول في الحافظ النسفي (كشف الأسرار شرح المصنف على المنار): “ولا يزاد على الكتاب بخبر الواحد عندنا”. وقد بين الامام السرخسي السبب في ذلك في اصوله فقال: “ لأن الدلالة قامت لنا على أن الزيادة على النص نسخ فلا يثبت إلا بما يثبت النسخ به، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد، فكذلك لا نثبت الزيادة، فلا يكون موجباً للعلم بهذا المعنى، ولكن يجب العمل به لأن في العمل تقرير الثابت بالنص لا نسخ له”.
ولكن لماذا اعتبر الحنفية الزيادة نسخاً خلافاً للجمهور الذين اعتبروها تقريراً للحكم الشرعي مع ضم حكم آخر إليه؟
قالوا: “ إن النسخ بيان انتهاء الحكم وهذا المعنى موجود في حال الزيادة على النص … وإن النقصان نسخٌ فوجب أن تكون الزيادة نسخاً … وإن الزيادة إذا ثبتت صارت جزءاً من المزيد عليه وحكمها حكمه فيجب ألاّ تثبت إلا بما ثبت به المزيد عليه”.
عدم فرضية قراءة الفاتحة في الصلاة وهي واجبة
ولتوضيح هذا الكلام نعطي مثالاً له: قال الإمام السرخسي في أصوله: “وبيان هذا أن فرضية القراءة في الصلوات ثابتة بدليل مقطوع به، وهو قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [سورة المزمل 20]، وتعيين الفاتحة ثابت بخبر الواحد، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المروي بلفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب” (رواه البخاري ومسلم في كتاب الصلاة)، فمن جعل ذلك فرضاً كان زائداً على النصّ … وفي القول بفرضية ما ثبت بخبر الواحد رفعٌ للدليل الذي فيه شبهة عن درجته، أو حطَّ للدليل الذي لا شبهة فيه عن درجته، وكل واحدٍ منهما تقصير، لا يجوز المصير إليه بعد الوقوف عليه بالتأمل”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أصوليي الحنفية ميَّزوا بين الفرض والواجب، بخلاف الجمهور الذين اعتبروا الفرض واجباً والواجب فرضاً لا فرق بينهما، وفرَّقَ أصوليو الحنفية بينهما بأن الواجب يثبت بدليل ظني كخبر الآحاد، وأما الفرض فلا يثبت إلا بدليل قطعي كالقرآن، والحديث المتواتر، ويلحق بالمتواتر المشهور.
إلا أنَّ هذا يُشكل على بعض الناس قبل التأمل، على ما حكي عن يوسف بن خالد السمتي رحمه الله قال: قدمت على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه فسألته عن الصلاة المفروضة كم هي؟ فقال: خمس، فسألته عن الوتر، فقال: واجب، فقلت لقلة تأملي: كفرتُ، فتبسم في وجهي، ثم تأملت فعرفت أن بين الواجب والفريضة فرقاً كما بين السماء والأرض، فيرحم الله أبا حنيفة ويجازيه خيراً على ما هداني إليه. (أصول السرخسي)
وبهذا المثال يتضح أن الحنفية لم يتركوا هنا العمل بحديث الآحاد الذي يستنبط منه حكم زائد على ما يستنبط من الكتاب، ولكن كما قال الإمام النسفي: “إنما سواء السبيل فيما ذهبنا إليه، من تنزيل كل دليل منزلته، وهو أنَّا جعلنا كتاب الله أصلاً؛ لثبوته يقيناً وخبر الواحد مرتَّب عليه، فيعمل به على موافقته، أو إذا لم يوجد في الكتاب ما في خبر الواحد”.
الواقع أن هذه الأمثلة لا يقصد منها أكثر من التوضيح لهذه القواعد الأصولية، واردنا أن نبين أن لكل مجتهد مستقل منهجاً ارتضاه، وطريقاً سلكه كمثل الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
المؤلف: د. علي البقاعي