كشف شبهات عقائديةمقالات وأحكام فقهية

الإمام محمد زاهد الكوثري عالماً وناقداً

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 4,593 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم
إذا أردنا ترتيب المجالات التي تبرز فيها مفاهيم الجدل والمناقشة والنقد في تاريخنا العلمي؛ أظن أنه لا يستغرب أن يوضع علمَا الكلام والفقه في طليعة تلك المجالات. وإن كان نشاط النقد قد استمر كذلك في المجالات الأخرى دون انقطاع، وعلى ثقة تامة بالنفس، ووعي تام بشعار إحقاق الحق؛ ولكن لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذين المجالين قد كانا في المركز الأول دائمًا من حيث غليان الموقف وشدته. ولا شك أن هذا الأمر ليس بخال عن الأسباب قطعاً، فللنبوغ في المجالين المذكورين يلزم قبل كل شيء وجود ملكةِ درايةٍ ومحاكمةٍ متطورةٍ، وموهبةِ استدلالٍ قويةٍ، ونظرٍ ثاقبٍ، وذاكرةٍ نافذةٍ، فضلاً عن الرسوخ في ذلك المجال.
مع أن المناظرات التي جرت بين علماء الكلام والفقه -سواء كانت وجهاً لوجه، أو من خلال المكاتبة- معلومةٌ عند من يشتغل بهذه المجالات، إلا أنني لا أرى أن أحيد عن ضرب عدة أمثلة ملفتة للنظر؛
فالإمام زفر بن الهذيل الذي توفي بعد الإمام أبي حنيفة رحمه الله بثمان سنوات، والذي كان رائد المذهب في الفترات الأولى([تروي المصادر أن جل تلامذة أبي حنيفة قد اجتمعوا في الفترات الأولى بعد وفاته في حلقة الإمام زفر إلا شرذمة قليلون بقوا في حلقة الإمام أبي يوسف. انظر: «لمحات النظر في سيرة الإمام زفر رضي الله عنه»، للإمام محمد زاهد الكوثري، ص: 10]) كان قبل ذلك من طائفة يسمون بـ«أهل الحديث» ولا يكترثون بالقياس والنظر كثيراً. وفي مرة؛ استغلقت عليه وعلى أصحابه مسألة، فلم يتمكنوا من حلها، ففي النهاية قرر الإمام زفر أن يسألها الإمام أبا حنيفة، فانتهى إليه، وعندما سأله عن الدليل بعد أن أخذ الجواب قال الإمام أبو حنيفة: «لحديث كذا، وللقياس من جهة كذا»، ثم سأله الإمام أبو حنيفة: «فلو كانت المسألة كذا ما كان الجواب فيها؟» فلم يجد الإمام زفر جواباً تجاه هذه المسألة التي هي أصعب من سابقتها، فأجاب الإمام نفسه عن هذا السؤال أيضاً، وقال: «الجواب فيها كذا من جهة كذا» ثم زاده مسألة أخرى بحيث حوّلها إلى شكل آخر، فأجابه فيها وبيّن وجهها، فزاد من دهشة زفر، وانتهت هذه الحادثة باتباع الإمام زفر للإمام أبي حنيفة رحمهما الله([«لمحات النظر»، ص: 6]).
الإمام زفر هذا، بعد أن حظي بالدراسة الفقهية عند الإمام الأعظم أصبح فارس مضامير المناظرات المهيبَ، وكان يقول: «إني لست أناظر أحداً حتى يقول: قد أخطأت، ولكن أناظره حتى يجن!»، قيل: «وكيف يجن؟» قال: «يقول بما لم يقله أحد!»([المرجع السابق، ص:7]). فمن أجل ذلك قال تلميذه وأحد أئمة المذهب الحسن بن زياد اللؤلؤي: «ما رأيت أحداً يناظر زفر إلا رحمته»([المرجع السابق، ص: 7).
إنه لا يخفى على الجميع أن لنشاط النقد المنصف دوراً بالغاً في تطور العلم، وانتشاره إلى حد أقصى، ولربما يمكن أن يقال: إن السهم الوافر في كون محمد زاهد الكوثري رحمه الله عالماً معروفاً على مستوى العالم يعود إلى شخصيته الناقدة، وكذلك أن تترك مؤلفاته في عالم العلم آثاراً عميقة باقية يعود إليها.
من المعلوم أن أوسع مؤلف في ترجمته بحوزتنا هو الرسالة المسماة بـ«الإمام الكوثري» التي كتبها تلميذه أحمد خيري رحمه الله، ففي هذه الرسالة قد وصل الأستاذ مؤلفات الكوثري ثلاثة وخمسين مؤلفاً، فليس الدليل الوحيد على ناقدية الكوثري أن يحبر حوالي ثمانية عشر مؤلفاً في نمط الرد من هذه المؤلفات المذكورة في هذه الرسالة فحسب، وكذلك أعماله الواسعة الأخرى التي هو مدين لها في شهرته المستحقة، والتي تكاد تصبح رمزًا له؛ يمكن ذكرها في عداد تلك الردود العلمية. وسوف أخصها بالذكر كما سيأتي.
ولا شك أن هذه المؤلفات الثمانية عشر -كما قلنا آنفاً- ليست هي السبب الفريد في ذكر زاهد الكوثري ناقداً، وإنما هو يواجهنا كثيراً ما بأسلوبه النقدي في سائر كتبه ورسائله ومقالاته والمقدمات والتعليقات التي كتبها على مؤلفات كثيرة لعلماء آخرين. وكذلك كتاب «مقالات الكوثري» -وهو أوسع مؤلف له لدينا- الذي يتألف من مقالات سطرها للمجلات العلمية بمصر، وجمعت بعد وفاته؛ من أهم مؤلفاته التي تبدو فيها شخصيته الناقدة.
وكذلك أن لغيرته الدينية تأثيراً بالغاً في أن يخطر بالبال ناقديته لأول وهلة عندما يذكر اسم «الكوثري». ولكن أظن أنه يجب أن نضيف مفهومَ الاستعداد الفطري للنقد إلى ما ذكرته في البداية من ملزمات النبوغ في المجالين.
وعلى ما يتبدّى لنا من رسالة أحمد خيري السالفة الذكر: أن أحد مؤلفات الكوثري الأولى كان رداً على واعظ أُوفِيٍّ([نسبة إلى «أوف»، وهي منطقة تابعة لمدينة طربزون بشمال تركيا]) قد انتقد التصوف أثناء موعظته للناس، فكتبه الكوثري رحمه الله في برهة أقل من أربع وعشرين ساعة، وقد كفى بهذه الرسالة التي تتكون من عشرين صفحة، والتي تسمى بـ«الجواب الوفي في الرد على الواعظ الأوفي»؛ في رجوع ذلك الواعظ الأوفي من موقفه ضد التصوف.
ونعلم أيضاً ذهابه إلى سوريا عدة مرات بعد هجرته إلى مصر، فكذلك لا ينكَر دور شخصيته الناقدة في قراره بالإقامة في القاهرة وفي جوابه لأحبائه الذين اقترحوا بأن يقيم في الشام من أجل مناخها المعتدل؛ حيث أجابهم بأنه يفضل البيئات التي تخيم فيها الحيوية العلمية!
يجب هنا أن نلفت الانتباه إلى وصف آخر له يميزه وينمي شخصيته الناقدة: وهو إحاطته بالمخطوطات غاية الإحاطة فضلاً عن المطبوعات.
على ما ذكره تلميذه عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله أن الكوثري في غضون إقامته بالشام سكن هو وصاحبه من تركيا ردحاً من الزمن في غرفة فندق قد استأجراها، ولما نفدت نفقتهما ذهب صاحبه سعياً لطلب الرزق، وأصبح الكوثري هناك وحده، وعلى جوع شديد، وليس معه أي درهم يأكل به. لقد بات تلك الليلة وهو جائع بعدم وجود طعام له، ففي صبيحة اليوم الأول استيقظ وجوعه قد اشتد، فذهب كعادته إلى «المكتبة الظاهرية» المشهورة بمخطوطاته؛ لينسى ما هو فيه من جوع، واشتغل هناك بالمخطوطات إلى أن أسدل الليل ستاره، فخفف هكذا جوعه بعض الشيء، وآب إلى غرفته، وبات دون أن يأكل أي شيء، وفي صباح الغد؛ استيقظ مثلما اسيقظ بالأمس، وسلك طريق الظاهرية، ولقد استمرت تلك الحالة هكذا ثلاثة أيام، وكان يبيت الليالي جائعاً، ويصبح وهو بحال أسوأ، وفي النهاية لقد جاءت النقود التي أرسلها صديق له من إستانبول، فتخلص من تلك الحالة الحرجة. وكذلك قد طرأ عليه نفس الحادثة في الشام مرة أخرى، وبقي هناك جائعاً عدة أيام([انظر لكلتا الحادثتين: «صفحات من صبر العلماء» لعبد الفتاح أبو غدة، ص: 252-253]). فاللافت للنظر هنا: إيثاره الاشتغالَ بالكتب والمخطوطات والعلم بدرجة أنه كان يفضل الاشتغال بها حتى لينسى جوعه به.
في الحقيقة أن علاقته بالمخطوطات كانت قد بدأت وهو في إستانبول. فهذا من أهم الأمور التي يُفتقر إليها في الأوساط العلمية حتى في يومنا الراهن؛ فإن هناك كنوزًا من المخطوطات قد تركت في رفوف المكتبات المغبرة تنتظر أن تنور عالمنا بجهود الأيادي المجتهدة التي ستمتد إليها.
وما ذكرناه حول شخصية الكوثري رحمه الله آنفاً لا يزال ناقصاً إلا إذا نوهنا بأمر: وهو أن الكوثري رحمه الله وإن كان قد لفت الأنظار إلى نفسه بأسلوبه الشديد في أعماله العلمية أثناء دفاعه عن النزعة التي يمثلها إلا أن الأعمال المتوفرة التي أعدت في سيرته لا تهمل ذكر كونه أسوة حسنة في التواضع في علاقاته الإنسانية. وإذا أضيف إلى ميزته هذه زهده في الدنيا، واستغناؤه عن الناس، وطبعه المتحمل على نوائب الدهر؛ انجلى بسهولة أننا نتحدث عن قدوة مثالية من كل جهة، وعاشق حي للسنة السنية، يعيش دينه، ويعمل بعلمه.
من الذين استهدفهم الكوثري في نقوده؟
أخصر جواب لهذا السؤال هو أن نذكّر بأنه رحمه الله كان عالماً سنيًا ينتحل المذهبين الحنفي والماتريدي([وإن كان الكوثري رحمه الله قد نُسِبَ إلى المذهب الأشعري في الترجمة التي ألفها أبو الحسين محبوب علي شاه وعبد الرحمن شاه ولي (ص:79) إلا أن هذه النسبة ليست صحيحة!]). فلأجل ذلك؛ إن الأشخاص الذين نقدهم هم الذين خرجوا بشكل من الأشكال عن الخط العام لعلماء الكلام السنيين، والذين لهم رأي سلبي في أئمة المذهب الحنفي.
ولكن من الواجب علينا أن نبين أن الكوثري رحمه الله لا يتخذ موقفاً واحداً تجاه جميع العلماء الذين انتقد آراءهم والذين ينتمون إلى طوائف مختلفة، وإنما هو يضبط شدة نقده على حسب خطورة آراء مستهدفيهم ودرجة شدتها.
وينبغي لنا قبل ذكر العلماء الذين انتقدهم أن نشير إلى أمر: وهو أن الكوثري رحمه الله لم يضع الأشخاص -الذين سنذكر أسماءهم فيما يلي- في مرمى دون سبب؛ فعندما بدأت كتب هؤلاء التي تحتوي على آرائهم الخاطئة والخطرة؛ تُنشر، وتذاع في مصر، وفي أماكن أخرى؛ تمسك بقلمه عندئذ حفاظاً على عقيدة الناس، دفاعًا ومنعاً من أن ينحرفوا إلى طرق ضالة بسبب جهالتهم، وأما عندما كانت هذه المؤلفات مخطوطة فيما هي فيه؛ لم يكن لها أن تسبب أي خطر بكون الناس بعيدين عما تحتوي تلك الكتب من الآراء.
ويقول الكوثري رحمه الله في كتابه الذي خصصه بترجمة الإمامين من أئمة المذهب الحنفي الحسن بن زياد ومحمد بن شجاع الثلجي في صدد بيان موقفه في هذا الموضوع: «بعد أن طبع تاريخ الخطيب، ولسان ابن حجر اللذان حويا كل إساءة في الحسن بن زياد؛ لا يجوز إغفال ما ذكره»([«الإمتاع بسيرة الإمامين الحسن بن زياد وصاحبه محمد بن شجاع»، ص: 43]).
وكذا يقول في مقدمة ردِّه الذي سطره على «مغيث الخلق» لإمام الحرمين الجويني -وسنتحدث عنه فيما يلي-: «ولولا أن الكتاب طبعت منه آلاف، ووزعت في المدن والأرياف مع إعادة طبع كتاب الرازي([أي «مناقب الشافعي» له]) لجاز إهماله».
وليس من الإنصاف في شيء أن يستنتج مما قلنا ها هنا: أن الكوثري رحمه الله كان راضياً بأن يُهجر تراث الإسلام العلمي والثقافي ليرثّ بين دفتي المخطوطات، وإنما الحقيقة التي كان يعبر عنها الكوثري هي: لو أن كتاباً ما إذا طبع؛ فلا بد من تبليغ آراء العلماء، وتوصيل نقودهم فيه –إن كانت لهم نقود- إلى قراء ذلك الكتاب. وبتعبير آخر؛ أن الأمر الذي كان يعارضه الكوثري إنما هو أن يوجَّه الشعب بشكل أحادي الجانب([انظر لآراء في هذا الموضوع: «صفعات البرهان على صفحات العدوان»، 22، وغيرها]). ولربما أن هذا الأمر كان من أهم البواعث التي ساقته إلى الخوض في عالم المخطوطات. ومن أجل ذلك، وهو بتلك الردود القيمة التي سطرها والتي هي أعز من الكبريت الأحمر، لم يكن قد اعترض على آراء العالِم المخاطب بين يديه فحسب، فكذلك كان قد وقف أمام توجيه الجماهير بالمعلومات الأحادية الجانب في الوقت ذاته.
[وبعد هذه التوطئة اللطيفة في هذا الموضوع] يمكننا الآن أن نقسم العلماء الذين انتقدهم زاهد الكوثري إلى مجموعتين:
أ- الذين كَتَبَ فيهم مؤلفات مستقلة: وإن كان قد وضع آراء علماء هذه المجموعة تحت المجهر في كتب خاصة إلا أنه يذكرهم في بعض الأحيان في أعماله الأخرى.
ب- الذين لم يكتب في آرائهم مؤلفات مستقلة؛ وإنما ذكر آراءهم في بعض أعماله العديدة بالمناسبة، فانتقدها.
أ- الذين انتقدهم في مؤلفات مستقلة
1- الخطيب البغدادي: يأتي في مقدمة المجموعة الأولى: الخطيب البغدادي.
إن الخطيب البغدادي –الذي له مصنفات كثيرة في شتى الفنون كما يعرف ذلك أهل العلم جيداً- قد تناول في كتابه الضخم «تاريخ بغداد» أثناء ترجمة الإمام أبي حنيفة كمّاً هائلاً من المزورات التي سوّقها أناس كأنهم احترفوا المعارضة على فقهاء العراق المسمون بـ«أهل الرأي» عامة، وعلى أبي حنيفة خاصة.
فموقف الخطيب البغدادي هذا قد تعرّض قبل ذلك لنقد عيسى بن أبي بكر الأيوبي من علماء القرن السابع الهجري. فهذا العالم الجليل قد انتقد الخطيب البغدادي في كتابه المسمى بـ«السهم المصيب»، وقد طبع ذلك الكتاب فيما بعد باسم «كتاب الرد على أبي بكر الخطيب البغدادي».
على ما ذكره زاهد الكوثري رحمه الله في مدخل «تأنيب الخطيب» أن «تاريخ بغداد» عندما كان يطبع لأول مرة بمصر جاء إليه محمد أمين الخانجي من الذين تولوا طبع الكتاب،وذلك حينما قارب طبعه المجلدَ الثالث عشر الذي فيه ترجمة أبي حنيفة، وقال له:«لو كنت أعلم أن الخطيب يبلغ به التقول والتحامل على الإمام الأعظم إلى الدرجة التي رأيتها الآن ما كنت لأجترئ على مشاركة الطابعين في طبع تاريخ الخطيب، ولكني خطوت خطوة لا سبيل لي معها إلى التراجع» فيطلب منه أن يرشده إلى سبيل الرشاد في هذا الأمر.
ولكن المجلد الثاني عشر كان قد طبع، فلم يكن لهم الرجوع عن طباعة الكتاب بعد ذلك الآن. فيذكر له الكوثري رحمه الله المكتبات التي توجد فيها النسخ المخطوطة للرد المذكور آنفاً، ويوصي بأن تذيَّل ترجمة أبي حنيفة في تاريخ الخطيب بما في هذا الرد، ويصرح بأن فيه الكفاية. ولكن شركاء هذا الرجل –ومن بينهم محمد حامد الفقي الذي سنذكره بعد قليل- لا يرضون بذلك بحجة أن هذا الأمر يحط من قدر «تاريخ بغداد»، وبالتالي يؤثر في بيعه سلبياً. ويأتي الخانجي مرة أخرى، ويخبر زاهداً الكوثري بالأمر، فيكتب الكوثري على المجلد الثالث عشر تعليقات مختصرة، ويفيد بأن المناسب هو أن يطبع المجلد المذكور بهذا الشكل على الأقل.
ولكن عندما تم طبع الكتاب ونزوله في السوق رأى الكوثري أن التعليقات قد تلوعب فيها. فتكبر القضية هكذا، وتتدخل الحكومة المصرية في الأمر، وتأمر بسحب نسخ الكتاب من السوق؛ ولكن كان قد سبق السيف العذل؛ فإن الكتاب قد نزل في السوق، فانتشر. وعندما بلغ الأمر إلى هذا الحد؛ قررت الحكومة أن يطبع المجلد الثالث عشر من جديد مع التعليقات التي يكتبها علماء الأزهر ومع كتاب «السهم المصيب». فيطبع المجلد الثالث عشر من جديد. وفي هذا المرة يرى الكوثري أن التعليقات التي كتبها علماء الأزهر لا تشفي الغليل، على أن هذه التعليقات المزيدة التي كتبوها قد وقع فيها أيضاً بعض التصرفات.
وقبل أن شهد «تاريخ بغداد» هذه الحادثة بسنين، قد أُرسل المجلدُ الثالث عشر الحاوي على ترجمة الإمام أبي حنيفة من قِبل محمد حامد الفقي -الذي ساهم في طبعه فيما بعد-، إلى ديار الهند، منسوخاً من النسخة الخطية، وتُرجم هناك إلى اللغة الهندية.
وعندما وصل الأمر إلى هذه الدرجة قرّر الكوثري رحمه الله أن يكتب «تأنيب الخطيب» بحجة أن لا بد من كتابة رد مستقل في هذا الموضوع دفاعاً عن حقوق الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان. فلما تمت كتابته، وطبع الكتاب؛ كتب عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني أحد المسؤولين في دائرة المعارف العثمانية بالهند رداً عليه باسم «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل». بيد أن هذا الرد لم ينشر في حياة الكوثري رحمه الله، وإنما نشر آنذاك «طليعة التنكيل» الذي هو مختصر صغير له بدلاً منه. وعلى الرغم من أن الكوثري رحمه الله كان يعالج من مرض السكر فقد أجاب على «طليعة التنكيل» بـ«الترحيب بنقض التأنيب».
وكما أشرنا آنفاً كان يُحسب أن جذوة النزاع بينهما قد همدت وانطفأت في حياة الكوثري رحمه الله. وأما الرد الأصلي «التنكيل» فقد نشر بعد وفاته بثمان سنوات. فالكوثري رحمه الله بجوابه هذا على «طليعة التنكيل» يكون قد أجاب عن معظم ما يوجد في التنكيل من النقود، دون أن يرى «التنكيل» قط.
على ما نعرف -سواء كان من الملاحاظات الزائدة التي كتبها المؤلف على نسخته الشخصية المطبوعة «للتأنيب»، أو من المقدمة التي كتبها تلميذه الآخر الذي قام بطباعته من جديد مع تعليقات أحمد خيري- أن اليماني قد أظهر قبيل وفاته أسفه وندامته على ما يوجد من بعض الموضوعات في رده هذا، واعترف بمكانة الكوثري العلمية.
فيمكننا القول باختصار: إن سفره الخالد «تأنيب الخطيب»([14]) الذي يبدي للعيان جلياً قدرة زاهد الكوثري العلمية، ودرايته، وحذاقته؛ قد أُلِّفَ بسبب هذه المزورات التالية التي ذكرها الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»:
كون الإمام أبي حنيفة قد قال في كثير من المسائل ما يوجب تكفيره، واستتابته مرتين من الكفر، وما يقال من أنه كان يهوديّاً، وقوله: «لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أدركته لأخذ بكثير من قولي»، وادعاء كثير من شيوخه وتلامذته بأنه قد رضي بآراء مذاهب أهل الأهواء والبدع، واتهامه بوقوعه في الكفر من قبل كثير من العلماء الكبار سواء كان من أقرانه أو من غيرهم، واتخاذه كثيرًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لعباً ولهواً، وعدم كفاءة معرفته باللغة العربية، وأنه أحل زواج المرء من المحرمات اللاتي حرم القرآن والسنة الزواج بهن، وأباح الزنا وأحل الربا، وقد لعن عليه الأئمة في الخطب، ورآه بعض الناس في منامهم أنه في هيئة رثة، وحوله القسيسون، وما إلى ذلك من التهم السخيفة (!).
فيتناول الكوثري رحمه الله كل هذه المسائل على قواعد علم الرواية أولاً، ثم يثبت أن في أسانيد هذه الأخبار رجالاً غير ثقات. ثم بعد ذلك يثبت بالأدلة العقلية والنقلية بشكل مقنع أن هذه الادعاءات مختلقة، وفي نهاية الكتاب يعالج مختصرًا مثل هذه المفتريات التي توجد في «تاريخ بغداد» في حق الإمام أبي يوسف، والإمام محمد الشيباني، والإمام الحسن بن زياد.
إن الإمام الكوثري رحمه الله وإن كان قد اتُّهم من قِبَل معارضيه بأنه مجنون أبي حنيفة بسبب دفاعه عن هؤلاء الأئمة الكبار المفتخر بهم بمهارته الفائقة وغيرته الدينية؛ ولكنه لم يتصرف من أجل أي غرض سوى غاية «إحقاق الحق وإبطال الباطل».
وكما يعرف الباحثون في مؤلقاته جيداً أن الكوثري رحمه الله مليء بكل عواطف الاحترام العميق على كل الأئمة المجتهدين. وهو لا يستهين أحداً من هؤلاء الأئمة أو عدة منهم، فيميل إلى الآخرين؛ كما فعل ذلك معارضوه. وهو يقول: إن الأئمة الأربعة الكبار وغيرهم كأسرة واحدة في خدمة الدين.
وأحسن جواب على الادعاءات التي تقول بأنه تابع للمذهب الحنفي وخاصة للإمام أبي حنيفة بدرجة التعصب؛ هو الموقف الذي أبداه نفسه في مؤلفاته، إذ هو في كثير من مؤلفاته لم يمتنع من أن يقول: إن الإمام أبا حنيفة قد صدرت منه آراء مرجوحة في بعض المسائل بسبب اعتناقه آراء العلماء الكبار من أمثال إبراهيم النخعي والقاضي شريح؛ دون أن يسبرها حق السبر.
2- ابن تيمية: وقد انتقد الكوثري رحمه الله في كتابَيه الذَيْن سماهما بـ«التعقب الحثيث لما ينفيه ابن تيمية من الحديث» و«البحوث السنية في مفردات ابن تيمية» موقفَ ابن تيمية من بعض الأحاديث، وآراءَه الشاذة فيها، كما أنه قد انتقد موقفه في المسائل الاعتقادية في جل أعماله، وفي كتابه الأول –على الخصوص-ينتقد قول ابن تيمية في كثير من الموضوعات التي تناولها في كتابه «منهاج السنة» بأنْ ليس هناك أحاديث في تلك الأبواب، وإن كان ثمة أحاديث فيها؛ فهي غير موثوق بها، على أن في معظم تلك الأبواب توجد أحاديث صحيحة. وهذان الكتابان أيضاً ينتظران أن يطبعا، فيجدا مكانهما في العالم العلمي كما هو شأنهما شأن أمثالهما.
ويتطرق الكوثري كثيراً ما لآراء ابن تيمية -سواء في مقالاته أو في مؤلفاته الأخرى من كتبه وتعليقاته ومقدماته-فيوجه إليه في بعض الأحيان انتقادات شديدة. وفي مقدمة تلك الآراء يأتي وصف ابن تيمية اللهَ سبحانه وتعالى بأوصاف خاصة للمخلوقات.
وإن كان ابن تيمية قد أفاد بأنه لا يستصوب القول بالتشبيه والتجسيم؛ ولكن من البدهي أن السَّنن الذي يسلكه يصير إلى التشبيه والتجسيم في نهاية المطاف.
وكما هو معروف أن ابن تيمية –سواء في حياته أو بعد وفاته- من أكثر العلماء الذين تعرضوا لنقود وردود عديدة. وكذلك هو أيضاً باطلاعه الواسع، وذاكرته القوية، ولسانه الحاد قد وجّه نقوداً ثقيلة إلى كثير من العلماء الكبار. وإن حركتي الوهابية والسلفية التين تتمركزان في السعودية هما أكبر وألمس دليل على تأثير متأصل لابن تيمية.
3- ابن القيم: إن موقف زاهد الكوثري من ابن القيم -الذي قال عنه العلماء من أنه لم يحد عن مسلك أستاذه ابن تيمية قط- كموقفه من ابن تيمية. فيوجه الكوثري نقوداً كثيرة على ابن القيم الذي قال عنه: «لا يسمع إلا بسمعه، ولا يبصر إلا ببصره» (أي بصر ابن تيمية).
إن منظومة «القصيدة النونية» التي نظمها ابن القيم، والتي تتكون مما يقرب من ستة آلاف بيت، قد تعرضت لنقد تقي الدين السبكي من قبل؛ بسبب احتوائها على عبارات التشبيه والتجسيم. وقد طبع هذا الرد المسمى بـ«السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل» مع تعليقات الكوثري القيمة؛ لأجل قطع تأثير التيار الذي بدأ ينتشر تحت عنوان «العقيدة السلفية» في منتصف القرن المنصرم في مصر.
وإن السبكي صاحب الرد الأصلي لم ينتقد القصيدة بأسرها؛ وإنما هو يذكر الأبيات التي تحتوي على آراء خطرة فحسب، ثم ينتقدها. على الرغم من أنه يلفت الأنظار بأسلوبه المعتدل؛ ولكن يلاحَظ أن أسلوبه يشتد في بعض الأحيان أثناء كتابته هذا الرد. وذلك أن القصيدة قد غولي في بعض أبياتها في قدر الاتهامات التي وجهت إلى الذين يرفضون عقيدة التشبيه والتجسيم.
وقد سمى الكوثري التعليقات التي كتبها على هذا الرد بـ«تكملة الرد على نونية ابن القيم»، وذكر ما تناوله السبكي مختصراً أو ما لم يتطرق إليه قط، فمن أجل ذلك أن «التكملة» أصبحت أوسع من أصل الكتاب.
4- إمام الحرمين الجويني: إن الجويني -الذي هو أستاذ الإمام الغزالي والذي اشتهر بمؤلفاته في مجال علم الكلام خاصة- قد سلك طريقاً خاطئاً في كتابه المسمى بـ«مغيث الخلق في ترجيح القول الحق»؛ لترويج مذهبه الشافعي الذي ينتمي إليه. فحاول أن يفعل ذلك بتضعيف وتوهين الإمام أبي حنيفة أولاً، ثم يلحق به أئمة المذهب الحنفي الآخرين.
فزاهد الكوثري قد كتب على هذه الرسالة رده المسمى بـ«إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق»؛ من الأسباب التي ذكرتها في البداية.
ويثبت الكوثري بالأدلة أن الجويني عديم الكفاءة في الحديث وعلومه، كما أنه ينوه في بدء نقوده بأن الجويني هو من كبار الأئمة في مجال أصول الدين([20]).
وقد عالج الجويني في كتابه هذا موضوع كون الإمام الشافعي أفضل من سائر الأئمة، وأن مذهبه أوفق مذهب للحديث، وفي مقابل ذلك أن أئمة المذهب الحنفي غير كافين في هذا المجال، وأنهم مخطئون، فلذا قد تركز نقدُ الكوثري في هذه الموضوعات.
5- ابن أبي شيبة: من المعلوم أن ابن شيبة –الذي هو أستاذ الكثير من أئمة المحدثين وفي طليعتهم البخاري ومسلم- هو صاحب الكتاب الحديثي المشهور المسمى بـ«المصنف». وقد رُتّب هذا الكتاب على الأبواب الفقهية، وذُكرت فيه في كل باب الأحاديثُ المرفوعة، وأقوال الصحابة والتابعين، وآراء العلماء الآخرين. فالكتاب بميزته هذه مرجعٌ مهمٌّ في أحاديث الأحكام، واتفاق العلماء واختلافهم.
وقد عقد ابن أبي شيبة في كتابه هذا باباً مستقلاًّ بغرض أن يثبت مخالفة أبي حنيفة الأحاديثَ، وأورد فيه مائة وخمسة وعشرين مسألة؛ فزعم أن أبا حنيفة قد خالف تلك الأحاديث.
وقد رد على موقف ابن أبي شيبة هذا صاحبُ السيرة المشهورة «السيرة الشامية الكبرى» محمد بن يوسف الصالحي الشافعي في كتابه «عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان» بقدر محدد أولاً، وإن كان قد شرع بعده في كتابة مؤلَّفٍ مستقلٍّ يتعلق بهذا الموضوع؛ بيد أنه قد أجاب فيه عن عشرة أحاديث قد ذكرها ابن أبي شيبة، ثم ترك الكتابة بكون الموضوع يقتضي التفصيل فيه كثيراً، فواصل كتابة السيرة السالفة الذكر.
وكذلك كُتب ردٌّ آخر على ابن أبي شيبة من قبل القرشي صاحب كتاب «الجواهر المضية» الذي يذكر فيه تراجم علماء المذهب الحنفي.
وأفاد الكوثري رحمه الله بأنه لم يعثر عليهما رغم جهد كبير قد بذله للبحث عن هذين المؤلفين.
ولما أُخذ القسم المذكور من «مصنف ابن أبي شيبة»، وطبع في ديار الهند قبل أن يطبع الكتاب كاملاً –كما حدث ذلك في «تاريخ بغداد»- سخّر الكوثري رحمه الله قلمه آنذاك لكتابة سفره الذي سماه بـ«النكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة» بمنطلق أن الجواب عنه مهمة دينية، وأمانة علمية.
وأما النتيجة التي توصل إليها في كتابه فهي:
1- أن ابن أبي شيبة لم يذكر في كتابه هذا الكثيرَ من المسائل التي اتُّهم بها الإمام أبو حنيفة من قبل معارضيه. ومن هذه المسائل:
عدم جهر الإمام بالبسملة أثناء القراءة في الصلاة، وأن تنقض القهقهة الوضوء في الصلاة، وألا يقرأ المقتدون الفاتحة اكتفاءً بقراءة الإمام، وعدم رفع اليدين في الركوع، وجواز الوضوء بنبيذ التمر. وحسب رأي الكوثري أن ابن أبي شيبة لم يتطرق إلى تلك المسائل لعلمه بقوة أدلة الأحناف في هذه الموضوعات.
2- أن الإمام أبا حنيفة بمنزلة أنه يخالف الأدلة التي ذكرها ابن أبي شيبة في نصف هذه المسائل المائة والخمسة والعشرين، وإنما كان ذلك لكون الإمام أبي حنيفة مستنداً إلى الأحاديث الأخرى؛ فذلك قضية ترجيح، فكل إمام مجتهد يرجح بين الأحاديث المتعارضة على حسب مبادئه هو، فمن أجل ذلك لا يمكن هنا التحدث عن مخالفة الحديث مطلقاً.
3- وأما النصف الآخر من هذه المسائل المذكورة في «المصنف» فيقسمها الكوثري إلى خمسة أقسام:
أ- وقد اعتمد الإمام أبو حنيفة في خُمُس تلك المسائل على آيات القرآن الكريم.
ب- وفي الخُمُس الثاني أن الإمام أبا حنيفة في موضع مخالفة لأحاديث الآحاد التي ذكرها ابن أبي شيبة؛ وذلك لاتخاذ أبي حنيفة الأحاديثَ المشهورةَ أساساً.
ت- وفي الخمس الثالث لم يخالف الإمام أبو حنيفة الأحاديثَ، وإنما هو فهمها على غير فهم ابن أبي شيبة وغيره من الذين حذوا حذوه.
ث- وفي الخمس الرابع قد أسند ابن أبي شيبة إلى الإمام أبي حنيفة آراءً لم يأخذ بها أبو حنيفة، وما عُزي إلى الإمام أبي حنيفة من الآراء في هذه المسائل في كتب المذهب الحنفي مختلف عما ذكره ابن أبي شيبة.
ج-وأما الخمس الأخير فلا يمكن التحدث عن مخالفة الإمام أبي حنيفة الأحاديث إلا في هذا القسم، ونسبة هذه المسائل بالنسبة إلى ما ذكره ابن أبي شيبة هي العُشُر تقريباً.
وذكر الكوثري أن أقل عدد فيما حله الإمام أبو حنيفة من المسائل التقديرية هو 83 ألف مسألة. فإذا أُخذ هذا الرقم بعين الاعتبار؛ فلو فرض أن ابن أبي شيبة هو مصيب في كل المسائل التي ذكرها تكون نسبة خطأ الإمام أبي حنيفة 664/1، وكذلك رقم 83 ألفاً ليس بالرقم الوحيد الذي قيل في عدد المسائل التقديرية التي حلها الإمام أبو حنيفة، فهناك علماء يصلون عددها إلى 500 ألف بل إلى مليون ومائتين وسبعين ألفاً، وإذا قيست النسبة المذكورة بهذه الأرقام -حتى لو أخطأ الإمام أبو حنيفة في كل هذه المسائل المائة والخمسة والعشرين التي ذكرها ابن أبي شيبة ولكننا قد ذكرنا الواقع- كانت نسبة الخطأ على الرقم الأول 400/1، وعلى الثاني 10160/1. فإن هذه النتيجة التي وصل إليها المجتهد لنتيجة عظيمة في حقه.
6، 7-ابن عدي، والعقيلي: إن ابن عدي والعقيلي قد جرحا علماء المذهب الحنفي -على وجه الخصوص- بكلمات قوية، فقد انتقدهما الكوثري عندما اقتضى المقام في كتاباته العديدة. وأما كتابا الكوثري «إبداء وجوه التعدي في كامل ابن عدي» الذي ألفه في ابن عدي، و«نقض كتاب الضعفاء للعقيلي» الذي ألفه في العقيلي فما زالا مخطوطين للأسف الشديد.
8- ابن قتيبة: إن ابن قتيبة –الذي ترجم من كتبه إلى لغتنا التركية كتابه «تأويل مختلف الحديث» باسم «Hadîs Müdâfaası» فقط-يلفت الأنظار باتخاذه موقف الطائفة التي تسمى بـ«أهل الحديث» ضد فقهاء العراق الذين يسمون بـ«أهل الرأي»، وضد الإمام أبي حنيفة بخاصة.
ويبدو أيضاً في كتابه «تأويل مختلف الحديث» ادعاؤهم بأن الإمام أبا حنيفة لم يكترث بالأحاديث وأنه قد خالفها.
وهنا موقف آخر لابن قتيبة يلفت النظر وهو ركونه إلى آراء المشبهة والمجسمة في كتابه «الاختلاف في اللفظ» خاصة.
وعلى ما نعرف من أحمد خيري أن الكوثري رحمه الله قد ألف كتابه «رفع الريبة عن تخبطات ابن قتيبة» لنقد آرائه تلك، ولكن للأسف الشديد لم يطبع هذا الكتاب أيضاً.
9- أحمد محمد شاكر: أحمد محمد شاكر –العالم المعاصر الذي اشتهر بتخاريجه لأحاديث كثير من المصادر الأصلية-قد زعم في رسالته «نظام الطلاق في الإسلام» أن كلمات الطلاق الثلاث إذا قالها الرجل في مجلس واحد ودفعة واحدة فهي لا تعد طلاقاً بائناً وإنما هي تكون طلاقاً يمكن الرجوع عنه، وبتعبير فقهي: فهي طلاق رجعي.
وقد انتقد الكوثري رحمه الله رأي أحمد شاكر هذا برده المسمى «الإشفاق على أحكام الطلاق» فحل المشكلة فيه بكل وضوح.
وأما النتيجة التي توصل إليها في ضوء الأدلة فهي: أن كلمات الطلاق الثلاث التي قالها الرجل في مجلس واحد ودفعة واحدة إنما تعد طلاقاً رجعياً في حق زوجته التي لم يدخل بها، أما إذا قال كلمة الطلاق بنية الثلاث كانت زوجته طالقاً نهائياً، وبتعبير فقهي تكون طالقاً بطلاق بائن.
وقد أحدث هذا الكتاب الذي هو حوالي مائة صفحة دوياً كبيراً في الأوساط العلمية بحذاقة الكوثري ودرايته الفقهية التي أبداها للعيان في هذه المسألة التي شغلت المهتمين بالفقه منذ زمان.
10- محب الدين الخطيب: لقد نشر الكوثري رحمه الله الذيول الثلاثة التي كتبت على «تذكرة الحفاظ» للذهبي مضيفاً إليها تعليقات قيمة. وكثيراً ما يتطرق الكوثري إلى أحوال الرواة أثناء هذه التعليقات. ومن أهم الأمور التي نوه بها في تلك التعليقات: أن هناك من بدأوا بكتابة الحديث وروايته قبل أن يتعلموا المبادئ من العلوم، فهؤلاء قد وقعوا في الأخطاء العديدة في رواية الأحاديث التي تتعلق بالموضوعات الاعتقادية خاصة؛ بعدم فهمهم معاني الأحاديث كاملاً، ويأتي في مقدمة تلك الأخطاء: أن رووا الأحاديث بالمعنى وكما فهموها، وكذلك ثمة من لا يعرف القراءة والكتابة من بين هؤلاء الرواة، وهؤلاء قد تصرفوا في نقل الحديث واثقين بذاكرتهم، فهذا الأمر قد نتج الثقة بكثير من المرويات التي وصلت عن طريق هؤلاء الرواة مع أنها قد نُقلت مخطوءة بسبب نقص رواتها هذا.
ولقد تلقى محب الدين الخطيب أقوال الكوثري هذه عداء منه على العلماء، فانتقدها في مجلة علمية بمقالته المسماة «عدوان على علماء الإسلام»، فردّ الكوثري عليه برسالته «صفعات البرهان على صفحات العدوان»([26]). ولا تبرز في هذه الرسالة التحقيقاتُ العلمية العميقة التي تعوّدنا على رؤيتها في نقود الكوثري الأخرى؛ فإن الرسالة هي أقرب إلى كونها نقاشاً كلامياً من كونها بحثاً علمياً.
11- مصطفى صبري أفندي: من المعلوم أن مصطفى صبري أفندي الذي هو من شيوخ الإسلام المتأخرين في الدولة العثمانية قد نصّب زاهداً الكوثري وكيل الدرس أثناء شغله هذا المقام، وأفاد افتخاره بذلك. وفيما بعد، قد جمعت الأقدار هذين العالمين الجليلين فيما عاشا في حياة المهجر في مصر، وفي تلك الفترة أيضاً قد استمرت علاقتهما في إطار صداقة أكيدة، وتوقير ومودة. ولكن حياة المنفى التي عاشها مصطفى صبري في أواخر سنوات الدولة العثمانية والسنوات الأولى من عهد جمهورية تركيا، والشدائد التي كابدها ربما دفعته إلى الركون إلى المذهب الجبري في هذه الفترة الأخيرة من عمره والتي هي مليئة بالمحن الشديدة.
وإن كان الكوثري رحمه الله قد بذل جهده لإرجاعه عن رأيه هذا ولكن لم يتسن له النجاح. وعندما أبدى مصطفى صبري رحمه الله موقفه الاعتقادي بكتابه «موقف البشر» حاول الكوثري إرجاع شيخ الإسلام الكبير هذا عن رأيه؛ بأن نشر «إشارات المرام» لكمال الدين البياضي، و«اللمع» لراغب باشا، و«العقيدة النظامية» للجويني مع إضافة تعليقات ثمينة إليها. ولكن مصطفى صبري رد على الكوثري، وتحامل على الماتريدية في سفره الخالد «موقف العقل»، فدع عنك رجوعه عن رأيه جانباً.
وبناء على ذلك قد كتب الكوثري رسالته «الاستبصار»([27])، وعالج في هذه الرسالة الصغيرة حجماً والمهمة مغزىً مسائلَ اعتقادية صعبة كالقدر، والجبر، والاختيار، وقدرة العبد واستطاعته، ودافع عن آراء المذهب الماتريدي.
ب- الذين انتقدهم في كتاباته المختلفة ولم يؤلف فيهم مؤلفات مستقلة
وقد انتقد الكوثري رحمه الله الأشخاص الذين سنذكرهم في هذه المجموعة في مؤلفاته، ورسائله، ومقالاته، وتعليقاته العديدة؛ وإن لم يؤلف فيهم كتباً مستقلة.
ويكاد يذكر الكوثري رحمه الله في كل الموضوعات التي يعالجها الأعمالَ السابقة فيها ويبين الأخطاء التي يلاحظها في تلك الموضوعات، وذلك لظهور شخصيته الناقدة، وكونه متصفاً بالتحقيق والتدقيق، فلذا عدَدُ العلماء الذين حظوا بنصيبهم من انتقاداته كثيرٌ جداً.
ونحن في هذا المقام سنكتفي مختصراً بذكر الأسماء التي يذكرها الكوثري بكثرة، فلا نذكر كل الأسماء التي انتقدها هنا وهناك؛ مراعين إطار هذه المقالة والغرض منها.
وفي مقدمة هؤلاء يأتي محرر «سبل السلام» محمد بن إسماعيل الصنعاني، وصاحب «نيل الأوطار» محمد بن علي الشوكاني، وصديق حسن خان القنوجي.
لقد اتهم الشوكاني الذين قلدوا الأئمة المجتهدين بوقوعهم في الشرك، أثناء تفسيره الآية الواحدة والثلاثين من سورة التوبة في تفسيره المسمى «فتح القدير». وكذلك زعم في رسالة له تتعلق بالطلاق أن الإجماع ليس بممكن، وأنه لم يقع، فلا يمكن أن يقبل الإجماع دليلاً شرعياً.
وأما الصنعاني فيدافع في الموضوعات الاعتقادية عن آراء المشبهة أو المجسمة.
وأما القنوجي فله رأي يدافع عن زواج الرجل أكثر من أربع نساء كما زعمه الشوكاني في كتابه «وبل الغمام»، وكذا للقنوجي موقف لا يقبل الإجماع. فهذه الأسماء الثلاثة تأتي في طليعة الأشخاص الذين يلفت الكوثري الانتباه بكثرة إلى آرائهم الشاذة. وكذلك أمثالُ رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي الذين يتجرؤون على آراء كبار العلماء القدامى؛ من الذين تعرضوا لنقد الكوثري في بعض المواضع.
وثمة آخرون أيضاً غير هؤلاء، من الذين انتقدهم الكوثري في كتاباته الاعتقادية كثيراً: وهم الذين ألفوا في مجال العقيدة مؤلفات تحمل في طياتها النزعة المجسمة والمشبهة من أمثال ابن خزيمة، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعثمان بن سعيد الدارمي.
وهناك مجموعة أخرى من المستشرقين مثل كايتاني، ودوزي، وجولدتسيهر، وشاخت ينتقد الكوثري آراءهم في كتاباته العديدة وخاصة في رسالته «من عبر التاريخ» دون أن يفصل فيها.
إن عدد الأسماء التي انتقدها الكوثري رحمه الله -كما قلنا آنفاً- يتجاوز إطار هذه المقالة، فإن هذه الأسماء، وخاصة التي ذكرها في مؤلفاته المستقلة لها في أهمية بدرجة أنها يمكن تناولها في رسائل علمية مهمة.
ولا شك أن الأعمالَ الجادة التي يقارن فيها بين انتقادات الكوثري رحمه الله وكتابات مخاطبي تلك الانتقادات والأعمالَ التي تحلل فيها آرؤهم تلك؛ تفيد لعالم العلم فوائد عظيمة، فمثل هذه الأعمال واجبة على أعناقنا معشر الذين يعيشون في هذه الديار التي ولد وترعرع فيها محمد زاهد الكوثري رحمه الله.
ونبين للأسف أن الأعمال التي أُعدت حول الكوثري حتى الآن لا يتجاوز عددها أصابع اليد. وكما ذكرت في ندوة عقدت فيه في «دوزجه» قبل سنين؛ أن يكون الكثير من مؤلفاته مخطوطاً هو أولاً تقصيرنا نحن الذين أحفاد محمد زاهد الكوثري. وخاصة كتابه المسمى «المدخل العام» ينتظر أهل الجد والهمة ليخرجوه إلى ضوء النهار.
وكذلك أن تُرجم إلى لغتنا كتابان اثنان فقط من مؤلفاته واقعٌ يثبت تقصيرنا أيضاً، فالذين يتساءلون دائماً بتساؤلات نحو «ماذا سيكون حال المسلمين؟» فلينظروا إلى العمر الذي قد نذره للعلم، والآثار الخالدة التي خلفها من بعده؛ وإلى إهمالنا نحن تجاه ذلك العَلَم الفذ، فسيجدون الجواب آنذك…

بقلم: أبو بكر سيفيل
تعريب: سركان أونال
المصدر: مركز البحوث والدراسات الاسلامية (صحن ثمان)

وسوم: أعلام علمائية, المذهب الحنفي, ماتريدية, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
تفسير آية وبيان أنها لا تمنع السؤال للتفقه
منهج الإمام اللكنوي في الاستنباط من السنة النبوية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الإمام محمد زاهد الكوثري عالماً وناقداً

بسم الله الرحمن الرحيم إذا أردنا ترتيب المجالات التي تبرز فيها مفاهيم الجدل والمناقشة والنقد في تاريخنا العلمي؛ أظن أنه لا يستغرب أن يوضع علمَا الكلام والفقه في طليعة…