السفتجة الحنفية في ضوء الوقائع والمستجدات بين تلبية الحاجات (في الصرف والحوالة) ودرء المخاطر (في القروض والديون)
مقدمة
قد يحتاج الإنسان في كثير من معاملاته التجارية وغير التجارية إلى نقل ماله من بلد إلى آخر، وقد يكون نقل هذا المال غير متيسر؛ إما لبعد المسافة، أو لكون الطريق غير مأمون، أو لأن في حمله ونقله مشقة، فكانت إباحة السفتجة توفيراً لهذا الجهد والعناء، ورفعاً للضيق.فلولاها لاضُطر المدين إلى نقل مال الوفاء إلى بلـد الدائن، واضُطر الدائن إلى نقل المال إلى بلد المدين، وهذه تكاليف إضافية، الأصل توفيرها، ومن هنا جاءت أهمية البحث في السفتجة.
ولقد تعامل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بأنواع من التعاملات وارتضوها لأنفسهم ولم يكن يخطر ببالهم أبدا انه سيأتي على الناس زمان تستجد فيه وتستحدث ألوان من المعاملات يحتاج الحكم عليها وتكيفها إلى الاطلاع على ما كان الصحابة يتعاملون به من معاملات ويقيسون الأشباه والنظائر في سبيل توصيفها. فمثلا كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يأخذ من قوم بمكة دراهم ثم يكتب بها إلى أخيه مصعب بن الزبير في العراق ويأخذونها منه؛ فسئل ابن عباس عن ذلك فلم ير به بأسا؛ فقيل له: إن أخذوا أفضل من دراهمهم؟ قال: لا بأس إذا أخذوا بوزن دراهمهم.
فلقد اتخذ الفقهاء من صنيع ابن الزبير متكئا في تصحيح ضروب (صور) شبيهة بما صنعه ابن الزبير أطلقوا عليه اسم السفتجة.وبما أننا ناقش هذا الموضوع في ضوء الفقه الحنفي واجتهاداته فسيكون كلامنا منضبطا ضمن إطار اجتهادات أئمته غالبا إلا فيما يحتاجه البحث من خروج عن اطر المذهب إلى اجتهادات المذاهب الأخرى قدر ما تقتضيه الضرورة.
وقد تجتمع الحوالة مع السفتجة كما في ضروب التعامل العصري اليوم ولأجل ذلك كانتا بالغتي الأهمية عند الفقهاء كباب من أبواب الوفاء بالديون في عصور قد خلت، وأزمان سلفت، وأنهما الآن تُعدَّان في العصر الحاضر ذواتي كفاءة عالية في الاقتصاد الإسلامي، وفي نشاطات المصارف؛ وذلك لترامي أطراف البلاد، وسرعة التنقل، وإقبال الناس على تنمية أموالهم، وتطوير اقتصادهم، ولم تعد التجارة محلية، بل أصبحت دولية، فظهرت كلٌ من الحوالة والسفتجة بصور معاصرة، وبمسميات جديدة؛ من مثل التحويلات المصرفية و البريدية، والكمبيالة، وأصبحت تُستخدم فيها وسائل الاتصال المبتكرة الحديثة.
ولكن مع تطورات التعاملات التجارية، وتطور وسائل المواصلات، وظـهور البنوك التجارية التي تسعى إلى الربح بأي شكل من الأشكال، دون مراعاة لشرائع السماء، ووازع الدين، ومنطق الخُلُق والمثل العليا، لكل ذلك، فإن هذه المعاملات قد تأثرت بأطماع الطامعين، وتلونت بألوان أهوائهم وشهواتهم وأمزجتهم، فشابها ما شابها مما أخرجها عن كونها عقود إرفاق وتبرع، إلى أن صارت أدوات يُستباح بها الربا، ويُستغل بها المحتاجون ولمّا كان للحوالة والسفتجة تلك الفوائد العظيمة، كان لابد من دراستهما قديماً، ودراسة تطبيقاتهما حديثاً، ومحاولة الحكم على صورهما المستجدة، وإزالة ما خالطهما من شوائب الربا والظلم.
أولاً: تعريف السفتجة
السفتجة في اللغة: السَفْتَجَة: بفتح السين والتاء، أو بضمهما، أو بضم السين، و فتح التاء وهو الأشهر، هي كلمة مُعرَّبة عن الفارسية، أصلها سَفْتَه، بمعنى الشيء المحكم أو المجوف.
السفتجة اصطلاحاً: هي “إقراض لسقوط خطر الطريق”[الدر المختار : الحصكفي وحاشية ابن عابدين 8/17. وهذا التعريف يقضي بأن السفتجة تمثل قرضاً؛ إما صراحة، وإما تمثيلاً. وسيأتي مزيد بحث فيما يلي عن طبعة القرض وعلاقته بالسفتجة.
ثانياً: سبب التسمية
سميت السفتجة بهذا الاسم لأن فيها تشبيهاً للدراهم التي تُخبأ في الأشياء المجوّفة ، فقد كانوا يجوِّفون العصا ، ويضعون دراهمهم بداخلها ، وإنما شبه بذلك ؛ لأن كلاً منهما احتال لسقوط خطر الطريق . ذلك أن أصلها أن الإنسان إذا أراد السفر ، وله نقد ، وأراد إرساله إلى صديقه ، فوضعه في سفتجة ( وعاء مجوَّف ) ، ثم مع ذلك خاف خطر الطريق ، فإنه يقرض ما في السفتجة إنساناً آخر ، فأطلق اسم السفتجة على إقراض ما فيها باعتبار المحلية[لسان الحكام في معرفة الأحكام : ابن الشحنة الحنفي ، ص61]
ثالثاً: السفتجة كما هي عند الحنفية
البحر الرائق شرح كنز الدقائق (6/ 276)
[(قَوْلُهُ وَكُرِهَ السَّفَاتِجُ) جَمْعُ سَفْتَجَةٍ قِيلَ بِضَمِّ السِّينِ وَقِيلَ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا التَّاءُ مَفْتُوحَةٌ فِيهِمَا فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ هِيَ كِتَابُ صَاحِبِ الْمَالِ لِوَكِيلِهِ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا قَرْضًا يَأْمَنُ بِهِ خَطَرَ الطَّرِيقِ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفِي الْقَامُوسِ السَّفْتَجَةُ كَقُرْطَقَةٍ أَنْ يُعْطِيَ مَالًا لِآخَرَ وَلِلْآخِذِ مَالٌ فِي بَلَدِ الْمُعْطِي فَيُوَفِّيَهُ إيَّاهَا، ثَمَّ فَيَسْتَفِيدُ أَمْنَ الطَّرِيقِ وَفِعْلُهُ السَّفْتَجَةُ بِالْفَتْحِ اهـ.
وَحَاصِلُهُ عِنْدَنَا قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَقِيلَ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ كِتَابِ الصَّرْفِ مَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الثَّانِي].
يفهم من تكييف ابن نجيم للسفتجة بأنها:
قرض استفاد به المقرض أمن خطر الطريق.
تكره السفتجة عند الحنفية بهذا الاعتبار- لأن القصد منها تحميل المخاطر للمقترض-.
يقول الدكتور ماجد عتر في كتابه المفصل في الفقه الحنفي- الأموال – موضحا وجه الكراهة حال تحميل المخاطر للمقترض بقوله:[صورة السفتجة أن إنسانا في بلد ما يريد أن يرسل مبلغا لشخص في بلد آخر فيدفع هذا المبلغ لأحد المسافرين قُرضَةً, لكي يسدده في البلد الآخر, وهو إنما يقرض المبلغ للمسافر إقراضا بقصد تضمينه إياه فإذا سرق منه أو ضاع كان ملزما به. بينما لو كان ذلك المبلغ أمانه معه فإنه لا يضمنه إذا تعرض قطاع الطريق للقافلة, فسرق أو ضاع. فيكون القصد من الإقراض في عملية السفتجة تغريم التاجر أو المسافر المبلغ إذا فقد أو سرق فهذا العقد يكره تحريما.وإذا كان إقراض المبلغ لكي يستطيع المسافر أن يستعين به على شؤونه وليس لمجرد تغريمه به فهو مباح].
فهنا يشير الدكتور العتر الى امرين:
– الأول: كراهة السفتجة لما تنطوي عليه من تحميل للمخاطر على المقترض بقصد تغريمه حال السرقة أو الضياع.
– الثاني: الأصل في الإقراض الإعانة وليس التغريم فلو اقرض شخص آخر بقصد إعانته على قضاء حوائجه وهو الأصل فهو مباح لا بل يثاب على ذلك.
ومن هنا جاء كلام الكمال بن الهمام في/ شرح فتح القدير (7/ 251)/ وغيره من أئمة المذهب الحنفي عندما قال مفرقا بين قصد الإقراض المطلق وقصد السفتجة المشروطة في القرض التي تنطوي على قصد تحميل المخاطر للمقترض والتغريم حال الضياع والسرقة: [وفي الفتاوي الصغرى وغيرها إن كان السفتج مشروطا في القرض فهو حرام والقرض بهذا الشرط فاسد, ولو لم يكن مشروطا جاز . وصورة الشرط ما في الواقعات رجل أقرض رجلا مالا على أن يكتب له به إلى بلد كذا فإنه لا يجوز وإن أقرضه بغير شرط وكتب جاز. وكذا لو قال اكتب لي سفتجة إلى موضع كذا على أن أعطيك هنا فلا خير فيه وفي كفاية البيهقي سفاتج التجار مكروهة ثم قال إلا أن يقرض مطلقا ثم يكتب السفتجة فلا بأس به كذا روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ألا ترى أنه لو قضاه بأحسن مما له عليه لا يكره إذا لم يكن مشروطا قالوا إنما يحل ذلك عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه عرف ظاهر فإن كان يعرف أن ذلك يفعل لذلك فلا].
أشار ابن نجيم إلى مسألة احتمال ورود الربا وشوائبه وذلك من خلال استفادة المقرض أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ومن هنا وردة مسألة الربا فيه لِلنَّهْيِ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.
أجاز الحنفية السفتجة حال لم تشترط المنفعة في العقد. وهو القول المرجح عندهم.
قال في الدر المختار (5/ 488): [(وكرهت السفتجة) بضم السين وتفتح وفتح التاء، وهي إقراض لسقوط خطر الطريق، فكأنه أحال الخطر المتوقع على المستقرض فكان في معنى الحوالة، وقالوا: إذا لم تكن المنفعة مشروطة ولا متعارفة فلا بأس].
زاد هنا إضافة إلى كون المنفعة غير مشروطة أن تكون غير متعارفة فإذا كانت غير مشروط ولا متعارفة فلا بأس. بدائع الصنائع (7/ 395)
[وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَرْضِ فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فيه جَرُّ مَنْفَعَةٍ فَإِنْ كان لم يَجُزْ نَحْوُ ما إذَا أَقْرَضَهُ دَرَاهِمَ غَلَّةٍ على أَنْ يَرُدَّ عليه صِحَاحًا أو أَقْرَضَهُ وَشَرَطَ شَرْطًا له فيه مَنْفَعَةٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمَشْرُوطَةَ تُشْبِهُ الرِّبَا لِأَنَّهَا فَضْلٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَالتَّحَرُّزُ عن حَقِيقَةِ الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَاجِبٌ
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ مَشْرُوطَةً في الْقَرْضِ فَأَمَّا إذَا كانت غير مَشْرُوطَةٍ فيه وَلَكِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ أَعْطَاهُ أَجْوَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِزِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الْعَقْدِ ولم تُوجَدْ بَلْ هذا من بَابِ حُسْنِ الْقَضَاءِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال النبي عليه السَّلَامُ خِيَارُ الناس أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَضَاءِ دَيْنٍ لَزِمَهُ لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ وَعَلَى هذا تخريج ( ( ( تخرج ) ) ) مَسْأَلَةُ السَّفَاتِجِ التي يَتَعَامَلُ بها التُّجَّارُ أنها مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَنْتَفِعُ بها بِإِسْقَاطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فَتُشْبِهُ قَرْضًا جَرَّ نَفْعًا
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كان يَسْتَقْرِضُ بِالْمَدِينَةِ على أَنْ يَرُدَّ بِالْكُوفَةِ وَهَذَا انْتِفَاعٌ بِالْقَرْضِ بِإِسْقَاطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذلك مَحْمُولٌ على أَنَّ السَّفْتَجَةَ لم تَكُنْ مَشْرُوطَةً في الْقَرْضِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ].
وجه المنفعة التي يستفيدها المقرض وسبب شبهة الربا: بين الكاساني هنا مستدلا بقصة ابن عباس أمرين:
– الأول: تحقق فيه شبهة الربوية وهو المنفعة للمقرض: فقد كان ابن عباس يستقرض بالمدينة على أن يردها بالكوفة. وهذا انتفاع للمقرض بأن يأمن مخاطر الطريق على ماله.
– الثاني: اشتراط المنفعة من عدمة: وهو الأساس الذي يبيح الحنفية على أساسه جواز السفتجه أو منعها. ويستدل الكاساني بقصة ابن عباس على جواز السفتجه في هذا الحال انطلاقا من كونها قرضا لم تشترط فيه أي منفعة. فإذا كانت كذلك فلا بأس. الدر المختار (5/ 488)
[(وكرهت السفتجة) بضم السين وتفتح وفتح التاء، وهي إقراض لسقوط خطر الطريق، فكأنه أحال الخطر المتوقع على المستقرض فكان في معنى الحوالة، وقالوا: إذا لم تكن المنفعة مشروطة ولا متعارفة فلا بأس].
وجه دخول الحواله في السفتجه: يذكر صاحب الدر المختار هنا وجه ورود الحواله على السفتجه انطلاقا من أنها حالة اقراض لسقوط خطر الطريق. فأن المقرض أحال الخطر المتوقع على المستقرض فكان فيها معنى الحواله وهذا وجه تكيفي دقيق يكشف الجزئية التي ترد فيها الحواله على السفتجة عند الحنفية.
يقول ابن عابدين[الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (5/ 350)] تعليقا على هذه الجزئية: [وَصُورَتُهَا……… أَنْ يُقْرِضَ إنْسَانًا لِيَقْضِيَهُ الْمُسْتَقْرِضُ فِي بَلَدٍ يُرِيدُهُ الْمُقْرِضُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ سُقُوطَ خَطَرِ الطَّرِيقِ كِفَايَةٌ (قَوْلُهُ فَكَأَنَّهُ أَحَالَ. . . إلَخْ) بَيَانٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَسْأَلَةِ بِكِتَابِ الْحَوَالَةِ اهـ ح. َفِي نَظْمِ الْكَنْزِ لِابْنِ الْفَصِيحِ: وَكَرِهْت سَفَاتِجَ الطَّرِيقِ وَهِيَ إحَالَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ.
فقد جزم ابن عابدين من خلال هذه الصورة أنها حوالة على التحقيق , ومن هناء جاء مناسبة السفتجة لكتاب الحواله فذكرت فيه.
رابعاً: فوائد السفتجة الاقتصادية
ضمان خطر الطريق
توثيق الدين من الضياع
تيسير حركة دوران الأموال بين الناس لزيادة الثقة بينهم واطمئنان الدائن على ماله.
وسيلة لحفظ المال
خامساً: التكيف الفقهي للسفتجة وعلاقتها بكل من الحوالة والوكالة والقرض
بالنظر الى ما جاء في النقولات السابقة من كتب السادة الحنفية يظهر للباحث أن السفتجة تحتمل من حيث التكيف أحد الأوصاف التالية:
الأول : قرض ووكالة؛ أي هو اقراض من قبل المقرض واستيفاء من المقترض أو نائبه. والنيابة هنا أن ينيب(يوكل) المقترض عنه من يوفي دينه.
الثاني:الإقراض وبالتالي مادام هناك مقرض ومقترض فهذا يعني أننا أمام دائن ومدين ومن هنا كانت علاقتها بالديون فالسفتجة تمثل دينا وهي عبارة عن استيفاء هذا الدين لكن في بلد آخر.
وأصحاب هذا الرأي يرون: يرى أن السفتجة قرض، فأوردوا أحكامها في باب القرض، فقد ذكروها عند الكلام في القرض الذي يجر منفعة، هل هو جائز أو غير جائز؟ وهو قول بعض الحنفية.
الثالث: الحوالة؛ وهو إحالة الخطر المتوقع على المستقرض فكانت في معنى الحوالة.
وأصحاب هذا الرأي أوردوا أحكامها في باب الحوالة، وهو قول بعض الحنفية [شرح فتح القدير: ابن الهمام 7/250، حاشية رد المحتار: ابن عابدين 8/18].
وهذا القول جدير بالبحث، حيث إن هناك أوجه شبه بين السفتجة و الحوالة، كالتالي
أوجه الشبه:
1 _ إن السفتجة في معنى الحوالة، من حيث إن الدائن أو المقرض أحال الخطر المتوقع على المدين أو المقترض، فكانت في معنى الحوالة [شرح منلاسكين على كنز الدقائق ص201، تبيين الحقائق: الزيلعي 4/175].
2 _ باعتبار أن المدين أو المقترض يحيل الدائن أو المقرض إلى شخص ثالث، فكأنه نقل الدين من ذمته إلى ذمة المحال عليه، والحوالة لا تخرج عن كونها انتقال الدين من ذمة إلى ذمة [الموسوعة الفقهية الكويتية 25/24].
وعلى الرغم من شدة الصلة والتشابه الشديد والتداخل بين كل من السفتجة والحوالة إلا أنه لا يمكن إطلاق القول بأن السفتجة حوالة؛ نظراً لوجود مفارقات بين قواعد كل منهما. لذا ، فإنني أميل إلى أنها معاملة مستقلة يتم فيها الاتفاق على وفاء مقدار من المال في بلد أخر .
سادساً: تطبيقات السفتجة اليوم في تعاملات الناس
إن عملية التحويل المصرفي هي إحدى الخدمات المعتادة والمتكررة التي لا يخلو منها بلد من بلاد المسلمين اليوم. وهي عملية تقدم خدمة للناس في الداخل والخارج، وهي بهذا الإطار وهذا المسمى لم تكن معروفة في عصور أئمة الفقه رحمهم الله تعالى، وهي ناتجة عن تغير أوضاع الحياة وتشابك مصالح الناس.
وبالتالي يمكن القول أن: «الحوالات الموجودة الآن هي قرض، وهي آخذة حكم السفتجات؛ لأن العميل يأتي إلى المصرف ويعطيه عشرة آلاف، وحين يأخذ المبلغ فإن المصرف لا يحيلك بنفس المبلغ، وإنما حقيقته أنه أخذ هذا القرض في ذمته وأحال إلى وكيله أن يعطيك إياه، وأنت لا تحيل إلا لمصلحة، فكأنك أقرضته لمصلحتك، وهذا وجه دخولها في السفتجات؛ لأنه يريد توصيلها وفي توصيلها مئونة، فإن جاء يسافر هو بنفسه فمئونة السفر مكلفة، وإذا استأجر الغير فإنه يدفع قيمة استئجار الغير، فهي داخلة في حكم السفتجة.
وقد جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي مأخذاً من أكثر من مذهب يخرج الحوالة في أحد صورها على أنها سفتجة جرياً على اجتهاد المذهب الحنفي. وهذا نص القرار.
مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع “بأبو ظبي” بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1- 6 نيسان (أبريل) 1995م، قرر ما يلي:
«الحوالات التي تقدم مبالغها بعملة ما، ويرغب طالبها تحويلها بنفس العملة جائزةشرعا، سواء أكان بدون مقابل أم بمقابل في حدود الأجر الفعلي، فإذا كانت بدون مقابل فهي من قبيل الحوالة المطلقة عند من لم يشترط مديونية المحال إليه وهم الحنفية، وهي عند غيرهم سفتجة: وهي إعطاء شخص مالاً لآخر لتوفيته للمعطي أو لوكيله في بلد آخر، وإذا كانت بمقابل فهي وكالة بأجر، وإذا كان القائمون بتنفيذ الحوالات يعملون لعموم الناس فإنهم ضامنون للمبالغ؛ جرياً على تضمين الأجير المشترك».
المؤلف: حسام علي عبد الله
المصدر: مركز أبحاث فقه المعاملات الإسلامية