السنة على منهاج الحنفيةكشف شبهات عقائدية

كشف شبهات مثارة حول الإمام أبي حنيفة النعمان

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 7,247 مشاهدة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

فلقد كانت سنة السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم عدم التعرض للعلماء المشهود لهم بالخير والبر بظنون وأوهام وجهالات، فإن لحوم العلماء مسمومة، ويخشى على صاحبها من سوء الخاتمة، ولعمر الله إن الإمام أبي حنيفة وأئمة السلف الصالح الذي اختار الله تعالى بقاء ذكرهم الجميل، وأن يجعل مذهبهم مذاهب الأمة في التقرب إليه سبحانه بالعبادات وسائر الطاعات.

وسوف نقوم إن شاء الله بالرد على الشبهات المثارة حول الإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه) وكما سترون أن كل هذه الشبهات لا تصمد أمام مِحك النقد العلمي، وسوف نعتمد في هذا البحث على كتاب ” أبو حنيفة النعمان إمام الأئمة الفقهاء ” للامام وهبي غاوجي رحمه الله، وعلى كتاب “تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي (رحمه الله).

والنقاط التي سوف نتحدث عنها هي كالتالي:

(١) تمهــيد
(٢) عدم تخريج البخاري ومسلم وباقي الستة له
(٣) قول البخاري عنه: ضعيف تركوا حديثه
(٤) ما جاء في تاريخ بغداد من كلام رجال في القدح فيه
(٥) كلام بعض رجال الحديث فيه
(٦) اتهامه بتقديم القياس على النصوص
(٧) قوله بالرأي مع ما ورد في ذم الرأي
(٨) ما عدَّ له ابن عدي من الأحاديث الضعيفة
(٩) ما عدَّ الذهبي له في ميزانه
(١٠) ما قيل أنه كان يقول بالحيلة
(١١) قول بعضهم أنه استتيب من الكفر مرتين
(١٢) أسباب عامة في تحامل بعضهم على الإمام
(١٣) اتهامه بأنه قال بخلق القرآن
(١٤) اتهامه بأنه قال الجنة والنار تفنيان
(١٥) بعض الروايات الباطلة التي ذكرها الخطيب في تاريخه
(١٦) لولا السنتان لهلك النعمان
(١٧) أقوال الأئمة الأعلام فيه
(١٨) درر من أقوال الإمام

(١) تمـــــــهيد

نرى قبل أن نعرض لما قيل في حق الإمام رحمه الله تعالى من شبهات وأقوال أن نقدم بما يلي: قال الإمام النووي في المجموع ( 1 / 40, 41) |فصل في النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن يؤذي أو ينتقص الفقهاء والمتفقهين|، والحث على إكرامهم وتعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
قال الله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب _ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) (سورة الأحزاب-٥٨)، وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضى الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل قال: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) (رواه البخاري في صحيحه)، وروى الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما انهما قالا: إن لم تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي، وفي كلام الامام الشافعي: الفقهاء العاملون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل، وقال ابن عساكر رحمه الله تعالى: إعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب، (فليحذر الذين يخالون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (التوبة-٦٣) أ هـ

وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن أثم ) ]الحجرات – ١٢ [، قال أهل التفسير: الظن الذي نهينا عنه هو: ظن السوء بأهل الخير والصلاح، ولا ريب أن الإمام أبا حنيفة وباقي أئمة المذاهب المعتبرة في أعلى درجات الخير والصلاح.

(٢) عدم تخريج البخاري ومسلم وباقي الستة له

قال بعضهم إن الإمام أبا حنيفة لم يخّرج له البخاري ومسلم و باقي السنن – عدا الترمذي في العلل والنسائي في حديث واحد – فهذا دليل على عد اعتبارهم له، أو كونه ليس من علماء الحديث.

نقول أنّ علماء الحديث قد خرجوا لمن خشوا فوات حديثه إذا تركوا روايته، ولم يرووا أو لم يكثروا عمن له تلامذة يروون حديثه ويتناقلونه، ثم إنّ الإمام كان جلُّ انصرافه لفهم الحديث ومعرفة دلالته، ومعرفة ناسخه من منسوخه، ومطلقه، ومقيده، وعامه، ومخصوصه، لا إلى رواية الحديث والتحديث به فقط، وقد قال الإمام الكوثري في تعليقه على كتاب (شروط الأئمة الخمسة / للحافظ محمد بن موسى الحازمي) – ص: 60 وما بعدها-: ومما يلفت إليه النظر أن الشيخين لم يخرجا شيئاً من حديث الإمام أبي حنيفة، مع أنهما أدركا صغار أصحابه وأخذا عنهم، ولم يخرجا أيضاً من حديث الإمام الشافعي مع أنهما لقيا بعض أصحابه، ولا أخرج البخاري من حديث أحمد إلاّ حديثين: أحدهما تعليقاً والأخر بواسطة، مع أنه أدركه ولازمه! ولا خرَّج مسلم في صحيحه عن البخاري شيئاً مع أنه لازمه، ونسج على منواله، ولا عن أحمد إلا قدر ثلاثين حديثاً، ولا أخرج أحمد في مسنده عن مالك عن نافع بطريق الشافعي – وهو من أصح الطرق – إلا أربعة أحاديث، وما رواه عن الشافعي بغير هذا الطريق لا يبلغ عشرين حديثاً، مع أنه جالس الشافعي وسمع موطأ مالك منه، وعُدَّ من رواة القديم.

والظاهر من دينهم وأمانتهم أن ذلك من جهة أنهم كانوا يرون أحاديث هؤلاء في مأمن من الضياع، لكثرة أصحابهم القائمين بروايتها شرقاً وغرباً، وجل عناية أصحاب الدواوين بأناس من الرواة ربما كانت تضيع أحاديثهم لولا عنايتهم بها، لأنه لا يستغني من بعدهم عن دواوينهم في أحاديث هؤلاء دون هؤلاء.

ومن ظن أن ذلك كان لتحاميهم عن أحاديثهم، أو بعض ما في كتب الجرح من الكلام في هؤلاء الأئمة، كقول الثوري في أبي حنيفة، وقول ابن معين في الشافعي، وقول الكرابيسي في أحمد، وقول الذهبي في البخاري ونحوها، فقد حمّلهم شططاً، وهذا البخاري لولا إبراهيم بن معقل النسفي، وحماد بن شاكر الحنفيان لكاد ينفرد الفربري عنه في جميع الصحيح سماعاً، كما كاد أن ينفرد إبراهيم بن محمد بن سفيان الحنفي عن مسلم سماعاً، بالنظر إلى طرق سماع الكتابين من عصور، دون طرق الإجازات، فإنها متواترة إليهما عند من يعتد بالإجازة، كما لا يخفى على من عني بهذا الشأن.

وما قاله ابن خلدون في (مقدمة تاريخه) من أن أبا حنيفة لتشدده في شروط الصحة لم يصح عنده إلاّ سبعة عشر حديثاً فهفوة مكشوفة، لا يجوز لأحد أن يغتّر بها، لأن رواياته على تشدده في الصحة لم تكن سبعة عشر حديثاً فحسب، بل أحاديثه في سبعة عشر سفراً، يسمى كل منها بمسند أبي حنيفة، خرجها جماعة من الحفاظ وأهل العلم بالحديث بأسانيدهم إليه، ما بين مقل منهم ومكثر، حسبما بلغهم من أحاديثه، وقلما يوجد بين تلك الأسفار سفر أصغر من سنن الشافعي رواية الطحاوي، ولا من مسند الشافعي برواية أبي العباس الأصم اللذين عليهما مدار أحاديث الشافعي.

وقد خدم أهل العلم تلك المسانيد جمعاً وتلخيصاً وتخريجاً وقراءة وسماعاً ورواية، فهذا الشيخ محدَّث الديار المصرية الحافظ محمد بن يوسف الصالحي صاحب كتاب الممتعة في السيرة وغيرها يروي تلك المسانيد السبعة عشر عن شيوخ له، ما بين قراءة وسماع ومشافهة وكتابة بأسانيدهم إلى مخرجيها في كتبهم، في كتابه (عقود الجمان). وكذا يرويها بطرقٍ محدَّث البلاد الشامية الحافظ شمس الدين بن طولون في (الفهرست الأوسط) عن شيوخ له، سماعاً وقراءة مشافهة وكتابة بأسانيدهم كذلك إلى مخرجيها، وهما كانا زيني القطرين في القرن العشرين، وكذلك حملة الرواية إلى قرننا هذا ممن لهم عناية بالسنة.

ولإشباع ذلك كله مقام آخر، إنما ذكرنا هذا عرضاً إزالة لما عسى أن يعلق بأذهان بعضهم من كلام ابن خلدون، وما تلك الأسانيد والكتب عن متناول أهل العلم ببعيد، وإن كنا في عصر تقاصرت فيه الهمم عن التوسع في علم الرواية، وكتاب (عقود الجواهر المنفية) للحافظ المرتضى الزبيدي شذرة من أحاديث الإمام، وللحافظ محمد بن عابد السندي كتاب (المواهب اللطيفة على مسند أبي حنيفة) في أربع مجلدات أكثر فيه جداً من ذكر المتابعات والشواهد، ورفع المرسل ووصل المنقطع، وبيان مخّرجي الأحاديث، والكلام في مسائل الخلاف، ومن ظن أن ثقات الرواة هم رواة السنة فقد ظن باطلاً! وقد جمع الحافظ العلامة قاسم بن قُطلوبغا الثقات من غير رجال الستة في مؤلف حافل يبلغ أربع مجلدات، وهو ممن أقرّ له الحافظ ابن حجر وغيره بالحفظ والإتقان، والله أعلم.

ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس كل مشتغل بالحديث أهلاً للكلام في الرجال، فإن فيهم حملة لألفاظ الحديث الشريف دون تحقيق معانيه ومعرفة دلالاته ومراميه، وأمثال هؤلاء لا يبالي بمدحهم ولا بقدحهم.

وقال الحافظ الذهبي في رسالته (بيان زغل العلم): وأما المحدثون فغالبهم لا يفهمون، ولا همة لهم في معرفة الحديث ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة، وإنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواية، فأيّ شيء ينفع السماع على جهلة المشيخة، الذين ينامون والصبيان يلعبون، والشيبة يتحدثون ويمزحون، وكثير منهم ينعسون ويكابرون، والقارئ يصحَّف وإتقانه في تكثير (أوكما قال)، والرضع يتصاعقون، بالله خلونا ضحكة لأولي العقول. أ هـ

وقال ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس ص: 111- 113): وأعلم أن عموم المحدثين حملوا ما يتعلق بصفات الباري سبحانه على مقتضى الحس، فشبهوا لأنهم لم يخالطوا الفقهاء، فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى المحكم، وقد رأينا في زماننا من يجمع الكتب منهم، ويكثر السماع ولا يفهم ما حصّل، ومنهم من لا يحفظ القرآن ولا يعرف أركان الصلاة، فتشاغل هؤلاء على زعمهم بفروض الكافية عن فروض الأعيان، وإيثار ما ليس بمهم على المهم.

وقال الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه ج:2 ص:81- 84) وأكثر من كتبة الحديث في هذا الزمان بعيد عن حفظه، خال عن معرفة فقهه، لا يفرقون بين معلَّل وصحيح، ولا يميزون بين معدل من الرواة ومجروح، ولا يسألون عن لفظ أشكل عليهم رسمه، ولا يبحثون عن معنى خفي عنهم علمه، مع أنهم قد أذهبوا في كتبه أعمارهم، وبعدت في الرحلة لسماعه أسفارهم، كل ذلك لقلّة بصيرة أهل زماننا بما جمعوه، وعدم فقههم بما كتبوه وسمعوه، ومنعم نفوسهم عن محاضرة الفقهاء، وذمهم مستعملي القياس من العلماء، لسماعهم الأحاديث التي تعلَّق بها أهل الظاهر في ذم الرأي والنهي عنه والتحذير منه، وأنهم لم يميزوا بين محمود الرأي ومذمومه، بـل سبق إلى نفوسهم محظور على عمومه، ثمّ قلدوا مستعملي الرأي في نوازلهم، وعولوا فيها على أقوالهم ومذاهبهم، فنقضوا بذلك ما أصَّلوه، واستحلوا ما كانوا حرموه، وحق لمن كانت هذه حاله أن يطلق فيه لقول، ويشنَّع عليه بضروب التشنيع.

(٣) ذكر بعضهم أن البخاري قال في (تاريخه) أبو حنيفة ضعيف تركوا حديثه

نقول لقد أثنى بعض شيوخ البخاري الكبار على الإمام أبي حنيفة، وهم معاصرون له ومقاربون، والبخاري عالم محدث مجتهد فقيه، له آراء واجتهادات، بثها في أبواب كتابه الصحيح، وقد تلمذ لأبي حفص الكبير الحنفي فقيه البخاري، ثم خرج في طلب الحديث مع ابنه أبي حفص الصغير، وقد رجع أبو حفص هذا إلى بلده واستمر البخاري في رحلته، حتى رفعه الله تعالى إلى ما رفعه من درجات وأعطاه من فضل ما أعطاه.

أ – لقد صحب الإمام البخاري رحمه الله تعالى بعض المتحاملين على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، كالحميدي، وإسماعيل بن عرعرة وغيرهما، وتأثر بأقوالهم فيه، ودَّون في تاريخه ما سمعه من هؤلاء المجازفين – وقد قال المحدث الفقيه الشيخ عبد الرشيد النعماني: حكي عن الحافظ زين الدين العراقي أن ابن أبي حاتم جمع في كتاب (أوهام البخاري في التاريخ)، وقال السخاوي: ولابن أبي حاتم جزء كبير انتقد فيه على الإمام البخاري، انظر (ما تمس إليه الحاجة)، وأيضاً مقدمة (لامع الدراري على البخاري) للشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي، (وأبو حنيفة وأصحابه المحدثون) في الإجابة على الحميدي ص: 275؛ وقد كذب محمد بن عبد الله بن الحكم الحميدي في كلامه في الناس. انظر (طبقات السبكي ج:1 ص:224 ) – وقد لا يصح أن أبا حفص الكبير حين منع البخاري من الإفتاء في بلده قد أغضب البخاري ذلك، فأخذ يتحامل على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ذلك لأن البخاري أرفع من ذلك وإن كان بشراً غير معصوم.

ب – كان الإمام البخاري يرى أن الإيمان يزيد وينقص، مع العلم أنه لم يصحح حديثاً في ذلك، لأنه ليس فيه حديث صحيح، وكان الإمام أبي حنيفة يرى: أن الإيمان عقيدة يمتلئ بها القلب فلا يتصور فيه زيادة، لأنه لا زيادة فوق اليقين ولا نقصان، لأنه إذا نقص فلا يبقي يقيناً (وقد اختصرنا الزيادات في موضوع عقيدة الإمام أبي حنيفة).

وكان البخاري يقول: إنه لم يخرج في صحيحه لمن لا يقول بزيادة الإيمان ونقصه، مع أنه كان يروي عن بعض غلاة الخوارج مثل عمران بن حطان الذي مدح قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، وقد روى الإمام البخاري عن واحد وثمانين راوٍ من أهل الفرق المنحرفة، كما ذكرهم بأسمائهم الحافظ ابن جحر في (هدي الساري شرح صحيح البخاري)، والسيوطي في (تدريب الراوي).

جـ – كان الإمام البخاري يرى أن الأعمال جزء من الإيمان، ويرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن الإيمان هو عقد القلب على التصديق بالله تعالى والنطق بالشهادتين، أما الأعمال فليست جزءاً من الإيمان.

د – كان الإمام البخاري يرى أن تارك العبادات يعُذب بالنار في الآخرة، على حين يرى الإمام أبو حنيفة أن من سلم له الإيمان وفعل المعاصي المختلفة ومات دون توبة، فإن أمره مؤخر إلى الله تعالى، إن شاء عذبه بها بعدله، وإن شاء عفا عنه فيها بفضله، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (سورة النساء -٤٨). لذا نرى البخاري يقول في الإمام: رُمي بالإرجاء، فإن كان قصد الإمام البخاري به الإرجاء الذي هو إرجاء أمر المؤمنين إلى الله تعالى يقتضي فيه بما يشاء، فذلك صحيح لأنه عقيدة أهل السنة والجماعة، وإن كان يقصد به الإرجاء الذي يُعنى به لا تضر معصية مع الإيمان بحال – كما هو رأي الجهمية ومن وافقهم – فهذا مردود على قائله أياً كان، فإن حياة الإمام رحمه الله من عبادة الله تعالى وخوف منه وزهد وورع وحرص على مرضاة الله تعالى، ورسائله المدونة فيها عقيدة الإمام من الفقه الأكبر، والفقه الأبسط، تردّ هذه الدعوة على الإمام وترفض قبولها عنه.

قال الإمام الكوثري رحمه الله تعالى: كان في زمن أبي حنيفة وبعده أناس صالحون، يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويرمون بالإرجاء من يرى الإيمان:العقد، والكلمة، مع أنه الحق الصراح بالنظر إلي حجج الشرع، قال الله تعالى: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (سورة الحجرات – ١٤). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب، وعليه جمهور أهل السنة ((راجع تأنيب الخطيب) ص: 44، و(الرفع والتكميل) للشيخ عبد الحي اللكنوي بتحقيق المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص: 230) وقال الآمدي: إن المعتزلة كانوا في الصدر الأول يلقبون من خالفهم في القدر مرجئة.

وروى عن عثمان البتي أنه كتب إلى الإمام رحمه الله تعال وقال: أنتم مرجئة فأجابه: بأن المرجئة على ضربين: مرجئة ملعونة وأنا منهم برئ، ومرجئة مرحومة وأنا منهم، وكتب فيها (الرسالة) بأن الأنبياء كانوا كذلك، ألا ترى إلى قول عيسى عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، وقال عبد الشكور السالمي في (التمهيد): ثم المرجئة على نوعين: مرجئة مرحومة وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومرجئة ملعونة وهم الذين يقولون بأن المعصية لا تضر والعاصي لا يُعاقب. قال الذهبي في (ميزان الاعتدال ج: 3 ص:163) في ترجمة مسعر بن كدام – بعد ذكر وثاقته -: ولا عبرة بقول السلماني: كان من المرجئة: مسعر وحماد بن أبي سليمان، والنعمان، وعمرو بن مرة، وعبد العزيز بن أبي رَوّاد، وأبو معاوية، وعمرو بن ذر، وسرد جماعة قلت – والقول للذهبي -: الإرجاء مذهب لعدة من أجلة العلماء ولا ينبغي التحامل على قائله، وهذا الإرجاء معناه تأخير أمر المؤمن المذنب إلى الله تعالى في الآخرة إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فكلام البخاري في هذا الجانب إنما هو من قبل المذهب الذي مال إليه كل منهما، ولا مجال للرد بمخالفة المذهب فلكل وجهة هو موليها والله أعلم.

هـ – قال البخاري رحمه الله في حق الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: تركوا حديثه، وأضاف: روى عن عباد بن العوام، وابن المبارك، وهشيم، ووكيع، ومسلم بن خالد، ومعاوية، والمقرئ أ.هـ إنّ رجلاً روى عنه هؤلاء وأمثالهم، لا يقال فيه تركوا حديثه، ولا ينبغي ذلك!! وقد سبق لنا أن ذكرنا رواية سفيان الثوري، وحماد بن زيد، وكثيرين عنه.

وهذا ما اجتمع لنا من أسباب في كلام البخاري في الإمام رحمهما الله تعالى، وقد يكون معها اتهام بعض الجهّال الإمام بالقول بالرأي في مقابل النصوص معاذ الله. ( وسوف نبين هذه الشبهة في هذا البحث إن شاء الله).

ومن هذا يظهر أن كلام البخاري في الإمام رحمهما الله تعالى إنما وقع بسبب الخلاف المذهبي لا غير، وذلك لا يعدّ قدحاً، ولا يجعل الإمام موضع اتهام بحال، قال المحدث الفقيه تاج الدين السبكي في (قاعدة في الجرح والتعديل ص: 12 وقد أخرجها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في رسالة مستقلة بتحقيقه وعنايته): ومما ينبغي أن يتُفقد عند الجرح حالُ العقائد واختلاف بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجراح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك، وقد أشار شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) إلى هذا، وقال: أراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس، المحدثون والحكام. قلت: ومن أمثلة ما قدّمنا قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة، وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ.أ هـ

قال الشيخ عبد الرشيد النعماني في رسالته النافعة (ما تمس إليه الحاجة من سنن ابن ماجه): إن صنيع الإمام البخاري مع الإمام الأعظم يشبه صنيعه مع الإمام جعفر الصادق. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة الإمام جعفر: لم يحتج به البخاري واحتج به سائر الأئمة.

(٤) ما جاء في تاريخ بغداد من كلام رجال في القدح فيه

فقد قيل إن الخطيب البغدادي ذكر أقوال كثيرين قدحوا في الإمام رحمه الله تعالى بأسانيد إلى قائليها.

ولكشف هذه الشبهة انظر كتاب (تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب) فسترى تلك الأسانيد ظالمة كاذبة، أو مخطئة، أو جاهلة وحاسدة، وحاشى أن يتكلم سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وأمثالهما من الشيوخ؛ فضلاً عن أبي يوسف ومحمد وأمثالهما من تلاميذ الإمام فيه رحمه الله تعالى، فإن لهم جميعاً أقوالاً معروفة محفوظة صحيحة النسبة إليهم في الثناء على الإمام وذكر فضله رحمه الله تعالى.

ونقول: شأن أكثر المتقدمين من المؤلفين أن يوردوا الخبر بسنده صحيحاً كان أو غير صحيح، ويرون أنهم يخرجون من العهدة ولا يقعون في الإثم إذا ذكروا سنده، لذا نجد في تفسير الطبري آثاراً لا تصح، بل أحاديث لا تصح، ونجد في تاريخه كذلك أخباراً غير صحيحة، ويرون أنهم إذا ذكروا الأسانيد فقد استغنَوا عن الحكم على الخبر، لأن رجال الأسانيد معرفون عند المشتغلين بعلم الرجال، وذكر السند – أي سند – لا يدل على صحة الخبر، فهناك أحاديث موضوعة مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لفقت لها أسانيد، وربما جمعوا فيها رجالاً ثقات كذباً وافتراء.

قال الإمام أحمد بن حجر المكي في كتابه (الخيرات الحسان ص: ٧٦): الفصل التاسع والثلاثون في ردَّ ما نقله الخطيب البغدادي في تاريخه عن القادحين في الإمام أبي حنيفة: اعلم إنه لم يقصد بذلك إلاّ جمع ما قيل في الرجل على عادة المؤرخين، ولم يقصد بذلك انتقاصه ولا حط مرتبته، بدليل أنه قدم ذكر الكلام المادحين وأكثر منه، ومن نقل مآثره، ثم عّقبه بذكر كلام القادحين فيه – قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على كتاب (الرفع والتكميل) (ص: 275): إن الخطيب البغدادي قد أفصح عن طريقته في كتابه، فقال: كلما ذكرت في التاريخ رجلاً اختلفت فيه أقاويل الناس في الجرح والتعديل فالتعويل على ما أخرت منه وختنت به الترجمة. أ هـ فالاعتذار عنه بأنه قدم كلام المادحين لا يتفق مع تصريحه بما ألتزمه. ومما يدل على ذلك أيضاً أن الأسانيد التي ذكرها للقدح لا يخلوا غالبها من متكلم فيه أو مجهول، ولا يجوز إجماعاً ثلم عرض المسلم بمثل ذلك، فكيف بإمام من أئمة المسلمين؟! وبفرض صحة ما ذكره الخطيب من القدح عن قائله لا يعتّد به، فإنه أن كان من غير أقران الإمام فهو مقلد لما قاله أو كتبه أعداؤه، أو من أقرانه فكذلك، لما مر أن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، وقد صرح الحافظان الذهبي وابن حجر بذلك.

وقال يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي في كتابه (تنوير الصحيفة بمناقب الإمام أبي حنيفة / وهو مجلد كبير) قال: لا تغتّر بكلام الخطيب البغدادي، فإن عنده العصبية الزائدة على جماعة من العلماء، كأبي حنيفة، وأحمد وبعض أصحابه، وتحامل عليهم بكل وجه، وصنف فيه بعضهم – وهو الملك المعظم أبو المظفر عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب الحنفي (٥٧٨ / ٦٢٤ ) وكتابه هذا طبع في مصر سنة ١٣٥١ في نحو مائتي صفحة، وقد نصف في الرد على الخطيب سوى الملك المعظم غير واحد من العلماء، منهم ابن الجوزي وسماه (السهم المصيب في الرد على الخطيب) وسبط ابن الجوزي وسماه (الانتصار لإمام أئمة الأمصار) في مجلدين كبيرين، وأبو المؤيد الخوارزمي في مقدمة كتابه (جامع مسانيد الإمام الأعظم) وكذلك الحافظ السيوطي وسماه (السهم المصيب في نحر الخطيب) وشيخنا الأستاذ محمد زاهد الكوثري رحمه الله وسماه (تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب) وهو كتاب كبير جامع واف – (السهم المصيب في كبد الخطيب)، وأما ابن الجوزي فقد تابع الخطيب، وقد عجب سبطه منه حيث قال في (مرآة الزمان): وليس من العجب من الخطيب فإنه طعن في جماعة من العلماء، وإنما العجب من الجد كيف سلك أسلوبه هذا؟ وجاء بما هو أعظم؟! ثم قال الشيخ عبد الحي: قلت والحاصل أنه علم بقرائن المقالية أو الحالية أن الجارح طعن على أحد بسبب تعصب منه عليه، لا يقبل منه ذلك الجرح، وإن عُلم أنه ذو تعصب على جمع من الأكابر ارتفع الأمان عن جرحه، وعُدّ من أصحاب القرح. (الرفع والتكميل ص: ٦٢-٦٤).

(٥) كلام بعض رجال الحديث فيه

قيل أن بعض رجال الحديث تكلم في الإمام رحمه الله تعالى، مثل النسائي وقد قال: نعمان بن ثابت ليس بالقوي في الحديث.انتهى وهذا كما ترى حرج مبهم فلا يُقبل بإزاء تعديل من عدّله ووثقه. انظر شرح شرح النخبة للقاري ص:١١٢، ومقدمة التعليق الممجد ص:٣٢، وأبو حنيفة وأصحابه المحدثون ص:٢٤ – والدارقطني والعُقيلي وقولهم حجة.

ونقول: إن الرعيل الأول من علماء الرجال، والذي بدأوا الكلام في جرح الرواة وتعديلهم، وعاصروا الإمام رحمهم الله وقد أثنوا عليه، كابن المديني، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن المعين وشعبة بن الحجاج وقالوا: صدوق ثقة هذا يحيى بن معين ( وهو ممن أخذ عن خاصة أصحاب أبي حنيفة وخالطهم وصاحبهم فعرفه منهم حق المعرفة بالصحبة الطويلة لهم وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داوود وأحمد بن حنبل وأبي حاتم. وهو إمام الجرح والتعديل هذا الإمام هو الذي يزكي أبا حنيفة ويوثقه في الحديث ويثني على حفظه فيقول: لا يحدث إلاّ بما يحفظ، ولا يحدث بما لا يحفظ، ويقول أيضاً: ما سمعت أحداً ضعفه هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث ويأمره، وقال ابن عبد البر في (جامع بيان العالم ) له قيل لابن المعين يا أبا زكريا أبو حنيفة كان يصدق في الحديث؟ قال: (نعم صدوق)، وقال: (كان شعبة حسن الرأي فيه). أ هـ وقال أحمد في شعبة: (كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن)، يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال. وقال ابن إدريس: (ما جعلت بينك وبين الرجال مثل شعبة) فابن المعين أدرى بأبي حنيفة وأعلم به من غيره لقربه منه زماناً ومكاناً. ولكثرة مخالطته لأصحاب أبي حنيفة وأخذه عنهم، فقول ابن المعين في توثيق أبي حنيفة هو المتبع، لا قول البخاري أو تابعه ممن ولد بعد وفاة أبي حنيفة بدهر أو دهور، ونقل له عنه نقلٌ مشّوه، أو داخله تعصّب عليه، فإذا تكلم يحيى بن معين سكت مثل البخاري ومسلم والنسائي وابن عدي والدارقطني ومن دونهم، سكت كل هؤلاء مسلّمين له، ومن شهدوا له بتفرده وبمعرفة الرجال عامة، وأذاعنوا لإمامته بذلك.

فنبذ بعض الشانئين في هذا الزمان المتأخر لإمام الأئمة ومقدم الأمة أبي حنيفة رضى الله عنه المجمع على جلالته وإمامته في الاجتهاد والعلم بقوله: (ضعفوا حديثه من جهة حفظه) مناف للأمانة العلمية، لأنه إن كان اعتمد في ذلك على قول البخاري ومن تابعه فهو قول مدخول لا يصح الاعتماد عليه. أهـ

وقال الإمام الكشميري في كتابه العظيم (فيض الباري على صحيح البخاري / في كتاب العلم ( ١ / ١٦٩) قال رحمه الله تعالى ويحيى هذا هو يحيى بن سعيد القطان إمام الجرح والتعديل وأول من صنف فيه، قاله الذهبي. وكان يُفتي بمذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وتلميذه وكيع بن الجراح تلميذ للثوري، وهو حنفي أيضاً. ونقل ابن معين أن يحيى بن القطان سئل عن أبي حنيفة رحمه الله فقال: (ما رأينا أحسن منه رأياً) ونقل عن ابن المعين: (إني لم أسمع أحداً يجرح أبا حنيفة رحمه الله تعالى). فعلم أن الإمام الهمام أبا حنيفة لم يكن مجروحاً إلى زمن ابن معين رحمه الله، ثم وقعت وقعة الإمام أحمد رحمه الله تعالى مسألة خلق القرآن، وشاع ما شاع وصارت جماعة المحدثين فيه فرقاً، وإلا فقبل تلك الوقعة توجد في السلف جماعة تفتي بمذهبه. أ هـ

عن تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على (قواعد في علوم الحديث) للمحدث الفقيه ظفر أحمد العثماني وهو المقدمة الأولى من المقدمات الثلاث على كتابه النافع (إعلاء السنن) ويقع في (١٨) جزء ص:١٩٠.

وكثير ممن تكلم في الرجال من علماء الحديث يحتاجون إلى من يوثقهم، فكيف يقبل توثيقهم أو تضعيفهم لغيرهم، ثم هناك التحامل على بعض العلماء للخلاف في المذهب والعصبية، والرأي، والجهل، والحسد، فحري أن لا يقبل ثمَّة الجرح بحال.

وهناك تحامل لا يقبل من صحابه ولو كان من كبار رجال الحديث، لأن الشواهد تشهد على خلاف قوله، لقد قال ابن المعين في الشافعي: (ليس بثقة) وقال مسلم في البخاري أو شيخه علي بن المديني: (إنه منتحل الحديث سيء الرواية (وقد رُد هذا القول فيه. أنظر النووي في شرح مسلم عند تلك الجملة (١٢٨/١) وانظر لزماً (قاعدة في الجرح والتعديل) للإمام السبكي تحقيق الشيخ عبد الفتاح) وقال بعضهم في البخاري: (تركه أبو زرعة، وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ) وقال مالك في عبد الرحمن بن أبي ذئب وعبد الرحمن بن أبي ذئب في مالك ما قالا، وذكر العقيلي عليّ بن المديني، والبخاري، وعبد الرزاق – صاحب المصنف –، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان بن مسلم الأنصاري، وأبان العطار، وأزهر السمان، وبهز بن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبد الحميد في الضعفاء!!!! قال الذهبي بعد أن أورد الأسماء التي سردت: (لو ترك حديث علي بن المديني ..ألخ لغلقنا الباب، وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجالون، أفمالك عقل يا عُقيلي؟! أتدري فيمن تتكلم !! (الرفع والتكميل للشيخ اللكنوي ص:٢٥٧).

وقال مالك في محمد بن إسحاق إنه: (دجال من الدجاجلة)، ولا يقبل قدح النسائي في أحمد بن صالح المصري، وقدح أحمد في الحارث المحاسبي.

وقد ذكر الشيخ عبد الحي اللكنوي: أن العلماء لم يقبلوا جرح هؤلاء العلماء الأجلاء، خاصة مثل ابن المدني، والبخاري، ومالك، وحملوا كلام بعضهم في بعض إلى معاصرة وجهالة، وخلاف في العقيدة والمذهب، ذلك لأن الإمام أحمد مثلاً حين تكلم في الحارث المحاسبي، إنما فعل ذلك لأنه كان يكره من يتكلم في علم الكلام، وما كان في الحارث ما يُجرح به في خلق ودين، وهو العابد الزاهد، الفقيه المحدَّث رحمه الله تعالى. قال الإمام تاج الدين السبكي إعلم أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان شديد النكير على من يتكلم في علم الكلام، خوفاً أن يجر ذلك إلى ما لا ينبغي، ولا شك أن السكوت عنه ما لم تدعُ إليه الحاجة أولى، والكلام فيه عند فقد الحاجة بدعة، وكان الحارث المحاسبي قد تكلم في شيء من مسائل الكلام قال أبو القاسم النصر آبداي: بلغني أن أحمد بن حنبل هجره بهذا السبب (أنظر مقدمة رسالة المسترشدين للمحاسبي تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص: ٢١).

نقول: لذا رُجح عدم صحة نسبة كتاب (الرد على الزنادقة) إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والله أعلم. وقد تكلم الإمام أحمد في الحسن بن علي بن يزيد الكرابيسي صاحب الإمام الشافعي وحامل علمه، لأنه كان يقول: القرآن غير مخلوق ولفظي به مخلوق، حتى أنه لما بلغ الأخير كلامُ الإمام أحمد فيه، قال: ما ندري ما أيش نعمل بهذا الفتى قلنا مخلوق قال بدعة وإن قلنا غير مخلوق قال بدعة!! فلا يقبل كلام الإمام أحمد فيهما إذن لأن الخلاف خلاف رأي، والكلام كان بسببه.

وقد تكلم عبد الرحمن بن أبي ذئب في الإمام مالك وقال: (يستتاب مالك !!!!، فإن تاب وإلا ضربت عنقه) لأنه قيل له: إن مالكاً يقول: ليس البيَّعان بالخيار، وهو إنما قال هذا حين بلغه أن مالكاً ردَّ الحديث، ولكن الإمام مالك ما ترك الحديث هكذا، بل لأنه خبر آحاد قوبل بعمل أهل المدينة، وخبر أهل المدينة مقدَّم عنده على خبر الآحاد، قال شيخه ربيعة الرأي: (ألف عن ألف أحب إليّ من واحد عن واحد) انظر (العلل لأحمد بن حنبل ج: 1 ص: ١٩٣).

فلا يُقبل كلامُ ابن أبي ذئب في إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه.

لقد أخرج الدارقطني حديث أبي حنيفة: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) في سننه، ثم تعقّبه بقوله: هذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة وهما ضعيفان.

ولا يقبل قول الدارقطني في الإمام بعد قول يحيى بن معين فيه: (أبو حنيفة ثقة، ما سمعت أحداً ضعفه). هذا شعبة يكتب إليه أن يحدث بأمره، وشعبة شعبة (أمير المؤمنين في الحديث) انظر (إنجاء الوطن ص: ٢٢).

وقال الإمام الحاكم بعد رواية ذلك الحديث: (من صلى خلف إمام فإن قراءته له قراءة) عبد الله بن شداد هو نفسه أبو الوليد بينّه علي بن المديني، قال الحاكم: ومن تهاون بمعرفة الأسامي أورثه مثل هذا الوهم. أ هـ (ذكره محشّي شرح النخبة عن علي القاري في شرح الشرح له ص:١٢٢) قالوا: فقد نسب الحكام أبا حنيفة إلي الوهم وعدم معرفته بأسامي الرجال، قلت: إن أراد الحاكم ذلك فهو يدل على عدم معرفته هو بطريق الروايات وقلّة تتبعه لها، فإن الرواية الصحيحة عن الإمام ما أخرجه محمد في (موطأ): أخبرنا أبو حنيفة: حديثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن جابر بن عبد الله مرفوعاً الحديث (ص:٩٦) وليس فيه أبو الوليد، وأخرجه أبو محمد الحارثي (البخاري) (قال فيه السمعاني: كان كثير الحديث وكان معروفاً بالأستاذ. كذا في الفوائد البهية ص:٢٤٤، وفي اللسان ج:٣ ص:٣٤٩ أكثر عنه أبو عبد الله بن منده وروى عنه ابن عقدة والجعابي وأبو بكر بن دارم وآخرون) عن عبد الله الصمد بن الفضل وحمدان بن ذي النون وإسماعيل بن بشر, قالوا: حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة، عن أبي الحسن موسى بن أبي عائشة، عن أبي الوليد عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله مرفوعاً الحديث. كذا في (جامع المسانيد ج:١ ص: ٣٣٨) وليس فيه عبد الله بن شداد عن أبي الوليد كما رواه الحاكم، بل فيه أبي الوليد عبد الله بن شداد عن جابر على الصحيح الصواب الذي قاله ابن المديني.

فتبين بذلك أن أبا حنيفة لم يَهِمْ، فإن الثقات من أصحابه يروون ذلك عنه على الصواب، وإنما الوهم ممن هو تحت أبي حنيفة، فرواه عن عبد الله بن شداد عن أبي الوليد بزيادة لفظة (عن) والعجب من البيهقي كيف اغتر برواية من رواه هكذا الوهم وأسقط الاحتجاج به لجهالة أبي الوليد، وقال في جزء القراءة له: وأما القصة التي فيها: فإن قراءته له قراءة، فإن أبا حنيفة إنما رواها عن موسى بن أبي عائشة من عبد الله بن شداد عن أبي الوليد عن جابر، وهو رجل مجهول، كما قال الدارقطني رحمه الله ولا تقوم به حجة. أ هـ ( وهذا في صفحة ١٠٣) ولو رأي البيهقي والدارقطني أو سمعا رواية مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة، عن أبي الحسن موسى، عن أبي الوليد عبد الله بن شداد، عن جابر لاستحييا من قولهما بأن أبا الوليد مجهول، وعرفا أن زيادة لفظة (عن) في روايتهما عن بعض الواهمين من شيوخهما النازلين عن الإمام. ولا يبعد أن يكون الحاكم هو الذي وهم. لأنه كان كثير الوهم، يضعف جماعة في كتاب الضعفاء له، ويقطع بترك الرواية عنهم، ويمنع من الاحتجاج بحديثهم ثم يخَّرج أحاديث بعضهم في مستدركه، ويصححها كما قاله الحافظ في (لسان الميزان ج: ٥ ص: ٢٣٣) ولا يخفى ذلك على من طالع تلخيص المستدرك للذهبي. والله أعلم (إنجاء الوطن ص: ٣٠- ٣٤).

ولا يقبل – فضلاً عن بطلان السند – ما ذكره البخاري في تاريخه الصغير، قال: حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا الفزاري قال: كنت عند سفيان فنعي النعمان فقال: الحمد لله، كان ينقض الإسلام عروة عروة ما ولد في الإسلام أشأم منه (وهذا في صفحة ١٧٣) قال مؤلف (إنجاء الوطن): كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً فوالله لم يولد في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أيمن وأسعد من النعمان أبي حنيفة، ودليل ذلك ما هو مشاهد من اندراس مذاهب الطاعنين عليه وانتشار مذهب أبي حنيفة وازدياد وانتشاره ليلاً ونهاراً، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا حنيفة، وهذه الرواية لا أتهم فيها البخاري رضوان الله تعالى عليه، فإنه وحدَّث كما سمع، ولكني أتهم شيخه نعيم بن حماد – قال ابن حجر العسقلاني في (هدي الساري) عند ترجمة (نعيم بن حماد): إنه كان شديداً على أهل الرأي (٢/١٦٨). وقال العباس بن مصعب في تاريخه: وضع نعيم بن حماد كتباً في الرد على الحنفية (ميزان الاعتدال ج: ٣ ص:٢٣٨) – فإنه وهن كان حافظاً للأحاديث وثقه بعضهم، ولكن قال الحافظ أبو بشر الدولابي: نعيم يروي عن ابن المبارك، قال النسائي: ضعيف، وقال غيره: كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات مزورة في ثلب أبي حنيفة كلها كذب. أنظر (تهذيب التهذيب ج:١٠ ص: ٤٧٣-٤٦٣) أ هـ

قلنا: وقد سبق أن ذكرنا ثناء سفيان الثوري على الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وروايته عنه، ثم إن في تلك الرواية مخالفة للشريعة فإن الشؤم موضوع في الإسلام بمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا طِيرة ولا هامة ولا صفر)، ( إن يكن الشؤم ففي ثلاث: المرأة والبيت والفرس) فبعيد بعيد أن يخالف سفيان ثناءه على الإمام، ويجانب الحديث الشريف والسنة المطهرة، ويقول ذلك القول دون حجة أو أثارة من علم. معاذ الله !!

(٦) اتهامه بتقديم القياس على النصوص

نقول: أن هذه الشبهة بطلانها بيّن، فقد جاء في كتاب (الانتقاء) أن أبا حنيفة رحمه الله قال: (آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأودع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر – أو جاء – إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسّيب – وعَّدد رجالاً – فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا، انظر (الانتقاء – لابن عبد البر ومناقب الموفق ج:١ ص:٨٢).

الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغاً، ثم يرجع إلي الاستحسان أيهما كان أوفق رجع إليه. قال سهل: هذا علم أبي حنيفة رحمه الله تعالى عِلم العامة (مناقب الموفق ج: ١ ص: ٨٩,٩٠).

وجاء في مناقب الموفق بسنده إلي الصيمري، والصيمري بسنده إلى عبد الله بن يونس، قال: أنبأ الحسن بن صالح قال: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ، فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وكان عارفاً بحدث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة، شديد الاتباع لما كان عليه الناس ببلده، وقال: كان يقول: إن لكتاب الله ناسخاً ومنسوخاً، وإن للحديث ناسخاً ومنسوخاً، وكان حافظاً لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير الذي قُبض عليه مما وصل إلى بلده (المصدر السابق). وبنفس السند إلى الصميري قال: أخبرنا عمر بن إبراهيم أنبأ مكرم أنبأ أحمد أنبأ علي ابن المديني سمعت عبد الرزاق يقول: كنت عند معمر فأتاه ابن المبارك فسمعنا معمراً يقول: ما أعرف رجلاً يتكلم في الفقه ويسعه أن يقيس ويستخرج في الفقه أحسن معرفة من أبي حنيفة، ولا أشفَقَ على نفسه من أن يُدخل في دين الله شيئاً من الشك من أبي حنيفة.

ونقل ابن عبد البر بسنده إلى محمد بن الحسن رحمه الله تعالى قال: العلم على أربعة أوجه: ما كان في كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المأثورة وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه، ولا يُخرج على جميعهم، فإن وقع الاختيار فيه على قول فهو علم نقيس عليه ما أشبهه، وما استحسنه فقهاء المسلمين وما أشبهه وكان نظيراً له، ولا يخرج العلم عن هذه الوجوه الأربعة (السنة ومكانتها في التشريع الإسلام للدكتور مصطفى السباعي ص: ٣٨ – وأصول السرخسي ج:١ ص:٣١٨– وجامع بيان العلم ج:٢ ص:٣٦).

فهذه النقول في جملتها تدل على مجموع المصادر الفقهية عند الإمام رحمه الله تعالى، فهي القرآن العظيم، والسنة الشريفة، وما أجمع عليه الصحابة وما اختلفوا فيه ولا يخرج عن أقوالهم – والقياس والاستحسان والعرف – أي اتباع ما عليه الناس ببلده ويعني بهم الفقهاء وأهل العلم، فكيف يُدَّعـي أنه يقدس القياس على النص؟؟؟!

نقل الإمام الشعراني بسنده إلى الإمام رحمه الله تعالى أنه قال: كذب والله وافترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس على النص!! وهل يحتاج بعد النص إلي قياس؟ ونقل عنه أيضاً قوله: نحن لا نقيس إلاّ عند الضرورة الشديدة، وذلك أننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذٍ مسكوتاً على منطوق به. وذكر عنه أيضاً قوله: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، بأبي وأمي وليس لنا مخالفته، وما جاء عن الصحابة تخَّيرنا، وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال (الميزان للشعراني ج: ١ ص:٥١ وما بعدها).

نعم إن الإمام رحمه الله تعالى يرجح الرواية بفقه الراوي على روايةٍ غير فقيه, لأن شأن الفقيه أن يدرك ويفهم ما قد لا يدركه غير الفقيه، خاصة وأن الحديث قد يروى بالمعنى، وقد جاء هذا على لسان أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مناقشته الإمام عبد الرحمن الأوزاعي كما جاء في الأخبار.

روى عن سفيان بن عيينة قال: اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي رحمهما الله في دار الخياطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة: ما لكم لا ترفعون أيديكم في الركوع وعند الرفع منه؟

فقال أبو حنيفة: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع (وكان الإمام يحفظ أحاديث الرفع ولكن يراها منسوخة)

فقال: كيف وقد حدثني الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع؟!

فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يرفع يديه عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود إلى شيء من ذلك.

قال الأوزاعي: أحدَّثك عن الزهري وسالم وأبيه وتقول حدثنا حماد عن إبراهيم؟!

فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمه ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر صحبة، فالأسود له فضل كبير. (حجة الله البالغة للإمام الدهلوي ج:١ ص:٢٣١).

فانظر – رعاك الله – كيف لم يعارض الأوزاعي الإمام أبي حنيفة في أصله هذا رحمهما الله تعالى.

فحاشى لله أن يرد الإمام الحديث بقياس الرأي أو ميل الهوى والغرض!!

(٧) قوله بالرأي مع ما ورد في ذم الرأي

فقد قيل: أن الإمام أبا حنيفة كان يقول بالرأي، بل هو إمام أهل الرأي، وقد ورد في ذم الرأي نصوص كثيرة.

ونقول: قد تقدم عند ذكر أصول مذهب الإمام رحمه الله تعالى أن الأصل الرابع عنده هو القياس والاجتهاد والرأي، وذكرت هناك أدلة على اعتبار القياس والاجتهاد والرأي، ومن المقرر أن الأخذ بالقياس والرأي هو رأي الأئمة الأربعة والمذاهب المعتبرة، ولا عبرة بمن شذَّ عن ذلك من الظاهرية وأشباههم، فجاءوا في المسائل التي لا نص فيها بالعجائب، فنفوا الاجتهاد في فهم النصوص فوقعوا في مضحكات، قالوا مثلاً في شرح حديث: ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ فيه). لو بال الإنسان في وعاء، ثم رمى البول في الماء الدائم، إن ذلك لا بأس فيه!!

لقد تقدم أن الإمام رحمه الله لا يقول بالرأي ولا يلجأ إليه إلا إذا عدم النص في القضية، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بني مذهبه، كما قدَّم حديث القهقهة مع ضعفه – في رأيه – على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه – في رأي ابن القيم كذلك – على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بأقل من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصر والحديث فيه كذلك، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة، فتديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول أحمد بن حنبل، وليس المراد بالضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون حسناً قد يسميه المتقدمون ضعيفاً. أ هـ وعقب الدكتور الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله على هذه الجملة بقوله: قلت: ولا يلزم من أن تكون الأحاديث التي ذهب إليها أبو حنيفة ضعيفة عن المحدثين، ولو بالمعنى الذي أراده السلف أن تكون كذلك عن أبي حنيفة، بل لا بد أن تكون صحيحة عنده بناء على أصوله العامة. والانتظار في هذا قد تختلف، وما يصححه إمام قد لا يكون كذلك عند إمام آخر (أعلام الموقعين ج: ١ ص:٧٧ – والسنة ومكانتها في التشريع ص: ٣٨٠,٣٨١ – وينظر فتح القدير لكمال بن الهمام لبيان صحة الأحاديث التي أخذ بها الإمام رحمه الله تعالى وضعفها ابن القيم).

وقال ابن حزم الظاهري: جميع أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة: أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي (مخلص إبطال القياس ص: ٦٨).

وذكر الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه) عن كبار الصحابة وكرامهم الاجتهاد والرأي في المسائل التي لا نص فيها، فنقل ذلك عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم، وذكر مسائلهم، فليس أبو حنيفة أول من قال بالرأي ولا آخر من قال ويقول به.

ليس الرأي الذي كان عليه أبو حنيفة رحمه الله ردّ النصوص, لكن اعتبارها وفهمها والفهم عنها, وقد كان في هذا الباب البطل الذي لا يُجارى, ولعل بعضهم حسده لهذا فقال فيه ما قال, أو تخيل أنه يقدم الرأي على النص – لفهمه الدقيق فيه – فزعم في حقه ما زعم, لقد قال رحمه الله في الذي أكل أو شرب ناسياً في نهار رمضان : لولا الأثر لقلت بالقياس أي أنه يفطر, ذلك لوجود صورة الإفطار منه لا قصده. قال ابن عبد البر : والذين تكلموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس (( إنجـاء الوطن ص: 22 )) . وقال ابن حجر في مقدمة الفتح : ومن ثَمَّ لم يقبل جرح الجارحين في الإمام أبي حنيفة حيث جرحه بعضهم بكثرة القياس (( المصدر السابق )) .

وقال الإمام أبو بكر الرازي في (الفصول) بعد أن سرد ما كان عليه فقهاء الصحابة والتابعين من قول بالرأي: إلى أن نشأ قوم ذوو جهل بالفقه وأصوله، لا معرفة لهم بطريقة السلف ولا توقي الإقدام على الجهالة، واتباع الأهواء البشعة التي خالفوا بها الصحابة ومن بعدهم من أخلافهم، فكان أول من نفى القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث إبراهيم النظّام – قال فيه الإمام أبو منصور البغدادي في (الفرق بين الفرق): عاشر في شبابه قوماً من الثنوية وقوماً من السمنية القائلين بتكافؤ الأدلة، وخالط بعد كبره من ملحدة الفلاسفة، ثم دون مذهب الثنوية وبدع الفلاسفة وشبه الملحدة في دين الإسلام، أنكر إعجاز القرآن في نظمه، وأنكر ما روي من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده وغيرها، كفره من المعتزلة أبو هذيل المعتزلي والذي هو خاله، والجبائي، ومن أهل السنة أبو الحسن الأشعري والباقلاني، وله في بيان فضائحه وكفرياته (إكفار المتأولين) أهـ – وطعن على الصحابة من أجل قولهم بالقياس، ونسبهم إلى ما لا يليق بهم، وإلى ضد ما وصفهم الله به، وأثنى به عليهم، بتهوره وقلة علمه بهذا الشأن.

ثم تبعه على هذا القول نفر من المتكلمين البغداديين، إلا أنهم لم يطعنوا على السلف كطعنه، ولم يعيبوهم، ولكنهم ارتكبوا من المكابرة وجحد الضرورة أمراً بشعاً فراراً من الطعن على السلف في قولهم بالاجتهاد والقياس، وذلك أنهم زعموا أن قول الصحابة في الحوادث كان على وجه التوسط والصلح بين الخصوم، لا على وجه قطع الحكم وإبرام القول، فكأنهم قد حّسنوا مذهبهم بمثل هذه الجهالة، وتخلصوا من الشناعة التي لحقت بالنظام بتخطئة السلف ثم تبعهم رجل من الحشو جهول – يريد داود بن علي رأس الظاهرية – لم يدرِ ما قال هؤلاء ولا ما قال هؤلاء، وأخذ طرفاً من كلام النظَّام وطرفاً من كلام متكلمي بغداد من نفاة القياس فاحتج بع في نفي القياس والاجتهاد, مع جهله بما تكلم به الفريقان من مثبتي القياس ومبطليه. وقد كان مع ذلك ينفي حجج العقول، ويزعم أن العقل لاحظَّ له في إدراك شيء من علوم الدين، فأنزل نفسه منزلة البهيمة بل هو أصل منها. أ هـ

وأبو بكر الرازي أطال النفس جداً في إقامة الحجة على حجية الرأي والقياس، بحيث لا يدع أي مجال للتشغيب ضد حجيته، فالرأي بهذا وصف مدح، ما يوصف به كل فقيه، ينبئ عن دقة الفهم وكمال الغوص، ولذلك نجد ابن قتيبة يذكر في كتاب (المعارف) الفقهاء بعنوان – أصحاب الرأي – ويعدَُ فيهم الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس رضي الله عنهم، وكذلك تجد الحافظ محمد بن الحارث الخشني يذكر أصحاب مالك في (قضاة قرطبة) باسم (أصحاب الرأي) وهكذا يفعل أيضاً الحافظ أبو الوليد الباجي في كتابه (المنتقي ج: ٧ ص:٣٠٠) في شرح حديث الداء العضال من (الموطأ) في صدد الرد على ما يرويه النقلة عن مالك في تفسير الداء العضال. وقال ابن عبد البر: ولم يرو مثل ذلك عن مالك أحد من (أهل الرأي) من أصحابه، يعني أهل الفقه من أصحاب مالك إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى استقصائه هنا.

وبهذا يتبين أن تنزيل الآثار الواردة في ذم (الرأي عن هوى) في فقه الفقهاء، وفي ردهم النوازل التي لا تنتهي إلي انتهاء تاريخ البشر إلى المنصوص من كتاب الله وسنة رسوله، إنما هو هوى بشع تنبذه حجج الشرع.

وأما تخصيص الحنفية بهذا الاسم (أهل الرأي) فلا يصح إلا بمعنى البراعة البالغة في الاستنباط، فالفقه حيثما كان يصحبه الرأي، سواء أكان في المدينة أو في العراق، وطوائف الفقهاء كلهم إنما يختلفون في شروط الاجتهاد بما لاح لهم من الدليل، وهم متفقون في الأخذ بالكتاب والسنة والإجماع والقياس ولا يقصرون على واحد منها.

وأما أهل الحديث فهم الرواة النقلة وهم الصيادلة، كما أن الفقهاء هم الأطباء كما قال الأعمش، فإذا اجترأ على الإفتاء أحد الرواة الذين لم يتفقهوا يقع في مهزلة، كما نص (الرامهُرمزي) في (المحدَّث الفاصل) وابن الجوزي في (التلبيس ص:١١١،١١٣) و(أخبار الحمقى ص:١١٥،١٢٧) والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه ج:٢ ص: ٨١,٨٤) على نماذج من ذلك فذكر مدرسة الحديث هنا مما لا معنى له (تنبيه على رد ما قاله بعض أهل العصر في كتبه، قاله الشيخ محمد يوسف البنوري من (فقه أهل العراق وحديثهم) للإمام الكوثري تحت عنوان الرأي والاجتهاد ص:٢٩).

قال سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في شرح (مختصر الروضة) في أصول الحنابلة: واعلم أن أصحاب الرأي بحسب الإضافة هم كل من تصرف في الأحكام بالرأي، فيتناول جميع علماء الإسلام، لأن كل واحد من المجتهدين لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي، ولو بتحقيق المناط وتنقيحه الذي لا نزاع في صحته.

وقال ابن حجر المكي في (الخيرات الحسان): يتعين عليك أن تفهم من أقوال العلماء – أي المتأخرين من أهل مذهبه – عن أبي حنيفة وأصحابه: أنهم أصحاب الرأي، أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدَّمون رأيهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على قول أصحابه لأنهم برآء من ذلك أ هـ . ثم بسط ما كان عليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه في الفقه من الأخذ بالكتاب، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بأقوال الصحابة، رداً على من توهم خلاف ذلك.

ولا أنكر أن هناك أناساً من الرواة الصالحين يخصون أبا حنيفة وأصحابه بالوقيعة بين الفقهاء، وذلك حيث لا ينتبهون إلى العلل القادحة في الأخبار التي تركها أبو حنيفة وأصحابه، فيظنون بهم أنهم تركوا الحديث إلى الرأي، وكثيراً ما يعلو على مداركهم وجمود قرائح النَقَلة، فيطعنون في الفقهاء: أنهم تركوا الحديث إلى الرأي، وهذا النبز منهم لا يؤذي سوى أنفسهم (فقه أهل العراق ص:٢١).

(٨) ما عّد له ابن عدي من الأحاديث الضعيفة

فقد قيل: كيف لا يكون الإمام أبي حنيفة ضعيفاً وقد ذكر له ابن عدي ثلاثمائة حديث، وقال: إنها ضعيفة، وكذا العُقيلي، بل عده الذهبي من الضعفاء في ميزان الاعتدال!!

أ – أما أن ابن عدي فيحتاج إلي من يعدَّله ويحسن القول فيه، وما أدري بم يحكم عليه في هذا الموضوع وهو يعلم أنه يقول غير الحق في جانب الإمام رحمه الله تعالى، قال الكوثري رحمه الله:

ومن معايب ابن عدي طعنه في الرجل بحديث مع أن آفته الراوي الرجل دون الرجل نفسه، وقد أقر بذلك الذهبي في مواضع من (الميزان)، ومن هذا القبيل كلامه في الإمام أبي حنيفة في مروياته البالغة عند ابن عدي ثلاثمائة حديث. وإنما تلك الأحاديث من رواية أباء بن جعفر النَّجيرمي، وكل ما في تلك الأحاديث من المؤاخذات كلها بالنظر إلى هذا الراوي الذي هو من مشايخ ابن عدي، ويحاول ابن عدي أن يلصق بالنجيرمي إلى أبي حنيفة مباشرة، وهذا هو الظلم والعدوان. وهكذا باقي مؤاخذاته، وطريق فضح أمثاله النظر في أسانيدهم، وللذهبي استدراكات كثيرة على رجال ضعّفهم في (كامله) ورد عليه الذهبي وذكر كونهم ثقات أ هـ. وقال الكوثري في (تأنيب الخطيب ص: ١٦٩): وكان ابن عدي – على بعده عن الفقه والنظر والعلوم – طويل اللسان في أبي حنيفة وأصحابه، ثم لما اتصل بأبي جعفر الطحاوي وأخذ عنه تحسنت حاله يسيراً، حتى ألف مسنداً في أحاديث أبي حنيفة (فقه أهل العراق وحديثهم ص: ٢١،١٤).

ب – أما العقيلي فقد أدرج ابن المديني والبخاري وأمثالهما في الضعفاء بمجرد كلام بعضهم فيهم، حتى استوجب من الذهبي أن يقول فيه: أمالك عقل يا عقيلي؟!

وقال الكوثري في نفس المصدر السابق: والعقيلي من أكبر المتعنتين في الجرح، كثير الحكم بالنفي، وهذا حمل الذهبي على التنكيت عليه في (ميزانه) مع أنه كبير الدفاع عن الرواة الحنابلة، فقال الذهبي فيه: أمالك عقل يا عقيلي، أتدري فيمن تتكلم؟! كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل أوثق من ثقات توردهم في كتابك!! ونقم عليه أن تكلم في ابن المديني وصاحبه البخاري وشيخه عبد الرزاق، وعثمان بن أبي شيبة، وإبراهيم بن سعد وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان. وجرح في كتابه (الضعفاء) كثيرين من رجال الصحيحين، وأئمة الفقه وحملة الآثار، مما رد بعضها ابن عبد البر في كتابه (الانتقاء). وكان ابن الدخيل رواية العقيلي، فألف جزءً في فضائل أبي حنيفة رداً على العقيلي الذي أطال لسانه في فقيه الملة وأصحابه البررة, شأن الجهلة الأغرار وتبرؤاً مما خطته يمين العقيلي مما يجافي الحقيقة، فسمعه حكم بن المنذر البلوطي الأندلسي من ابن الدخيل بمكة وسمع منه ابن عبد البر، فساق غالب ما فيه من المناقب في ترجمة أبي حنيفة من (الانتقاء) أ هـ.

(٩) ما عدُّ الذهبي له في ميزانه

أما الإمام الذهبي صاحب الاستقراء في الرجال، فلم يذكر الإمام أبي حنيفة رحمه الله في (الميزان) في الضعفاء، الذي هو مخلص (الكامل) لابن عدي مع استدراكات كثيرة عليه. لقد قال رحمه الله تعالى في مقدمة (ميزان الاعتدال جزء ١ ص:٣): وكذا لا اذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً، لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس أ هـ.

ولا بأس أن ننقل إليك أيها القارئ الكريم مقولة طويلة في تبرئة الإمام الذهبي من الكلام على الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، إقراراً للحق وإظهاراً لجهود العلماء المحققين، بما يجعلهم قدوة لنا في التمحيص، فلا نلقي القول جزافاً، والله الموفق الهادي.

قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (هامش الرفع والتكميل): وقد أوسع المؤلف الشيخ عبد الحي اللكنوي القول جداً في التدليل على دسّ ترجمة أبي حنيفة في بعض نسخ (ميزان الاعتدال) في كتابه (غيث الغمام على حوائي إمام الكلام ص: ١٤٦) وذكر وجوهاً كثيرة في تعزيز نفيها عن الميزان أقتصر على نقل الوجه الأول منها، وأحيل القارئ إلي عداه لطوله، قال رحمه الله: إن هذه العبارة ليس لها أثر في بعض النسخ المعتبرة على ما رأيتها بعيني، ويؤيده قول العراقي في (شرح الألفية ج:٣ ص:٢٦٠): لكنه – أي ابن عدي – ذكر في كتابه (الكامل) كل من يتكلم فيه، وإن كان ثقة، وتبعه على ذلك الذهبي في (الميزان) إلا أنه لم يذكر أحداً من الصحابة والأئمة المتبوعين أ هـ. وقول السخاوي في (شرح الألفية ص:٤٧٧): مع أنه – أي الذهبي – تبع ابن عدي في إيراد كل من تكلم فيه ولو كان ثقة، لكنه التزم أن لا يذكر أحداً من الصحابة ولا الأئمة المتبوعين وقول السيوطي في (تدريب الراوي شرح تقريب النواوي ص:٥١٩) إلا أنه – أي الذهبي – لم يذكر أحداً من الصحابة ولا الأئمة المتبوعين أ هـ.

فهذه العبارات من هؤلاء الثقات الذي قد مرّت أنظارهم على نسخ (الميزان) الصحيحة مرات: تنادي بأعلى النداء على أنه ليس في حرف النون من (الميزان) أثر لترجمة أبي حنيفة النعمان، فلعلها زيادات بعض الناسخين والناقلين في بعض نسخ (الميزان) أ هـ.

ثم قال الشيخ عبد الفتاح – بارك الله فيه -: بل قد صرَح الذهبي في مقدمة (الميزان ج:١ ص:٣) فقال: وكذا لا اذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً، لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس. انتهى. وجاءت في المطبوعة من (الميزان) ترجمة أبي حنيفة (٣/٢٧٣) في سطرين، ليس فيها دفاع عن أبي حنيفة إطلاقاً، وإنما تحطّ على جرحه وتضعيفه، وكلام الذهبي في المقدمة ينفي وجودها على تلك الصفة، لأنها تحمل القدح لا الإنصاف، وقد رجعت إلى المجلد الثالث من (ميزان الاعتدال) المحفوظ في ظاهرية دمشق تحت رقم (٣٦٨ حديث) وهو جزء نفيس جداً، كله بخط العلامة الحافظ شرف الدين الواني الدمشقي (ت٧٤٩) تلميذ مؤلفه الذهبي رحمهما الله تعالى، وقد قرأت عليه ثلاث مرات مع المقابلة بأصل الذهبي، كما صرح بذلك في ظهر الورقة (١٠٩)، وظهر الورقة (١٥٩) وفي غير موطن منه تصريحات كثيرة له بالقراءة والمقابلة أيضاً فلم أجد ترجمة للإمام أبي حنيفة النعمان في حرف النون ولا في الكنى، وكذلك لم أجد له ترجمة في النسخة المحفوظة في المكتبة الأحمدية بحلب تحت رقم (٣٣٧)، وهي نسخة جيدة كتبت سنة ١١٦٠ بخط علي بن محمد الشهير بابن مشمشان في مجلد واحد كبير.

وقد سنحت لي في أوائل رمضان المبارك من ١٣٨٢ هـ زيارة المغرب الأقصى، فزرت مدينة الرباط، ورأيت في (الخزانة العامة) فيها نسخة من ميزان الاعتدال، في مجلد واحد، رقمها (١٣٩ ق) ناقصة، يبتدئ القسم الموجود منها من أوائل ترجمة (عثمان بن مقسم البُريّ ) وهو يوافق أواخر الصفحة ١٩٠ من الجزء الثاني المطبوع بمصر سنة ١٣٢٥ وينتهي بآخر الكتاب. وفي حواشي هذه النسخة كتبت إلحاقات كثيرة جداً في كل صفحة, حتى في بعض الصفحات أخذت الإلحاقات الحواشي الثلاث, وتارة الحواشي الأربعة للصفحة، وهي بخط واحد، دون الحواشي الملحقة على جوانب الصفحات والأوراق المدرجة فيها، وقد كتبت على الورقة الأخيرة من أصل النسخة قراءات كثيرة وتواريخ لها ولنسخها، فكان من ذلك أن النسخة قرأت على مؤلفها أكثر من ست مرات، وهذا نص ما كتب في حواشي الورقة الأخيرة. بحسب تسلسل تواريخ لا بحسب ترتيب كتابته.

١- أنهاه كتابة ومعارضة داعياً لمؤلفه عبد الله المقريزي في سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
٢- أنهاه كتابة ومعارضة أبو بكر بن السَّراج داعياً لمؤلفه في سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
٣- فرغه نسخاً مرة ثانية داعياً لمؤلفه أبو بكر بن السَّراج عفا الله عنه في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.
٤- قرأت جميع هذا (الميزان) وهو سِفران على جامعه شيخ الإسلام الذهبي، أبقاه الله تعالى، في مجالس آخرها يوم السبت ثاني عشر شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة بالمدرسة الصَدرية بدمشق.
وكتب سعيد بن عبد الله الذَُهلي عفا الله عنه.
٥- قرأت جميع هذا الكتاب على جامعه شيخنا شيخ الإسلام الذهبي، في مجالس آخرها يوم الجمعة ثاني عشر رجب الفرد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بمنزله في الصدرية – رحم الله وقفها – بدمشق المحروسة. وكتب علي بن عبد المؤمن بن علي الشافعي البعلبكي حامداً الله ومصلياً على النبي وآله ومسلماً.
٦- فرغه نسخاً لنفسه داعياً لمؤلفه أحمد بن عمر بن علي القوصي (؟؟) في العشر الأواخر من ربيع الآخر سنة ستٍ وأربعين وسبعمائة.
٧- فرغه أبو القاسم بن الفارقي عفا الله عنه داعياً لمؤلفه.
٨- قرأت جميع كتاب (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) وما على الهوامش من التخاريج والحواشي والملحقات، بحسب التحرير والطاقة والتؤدة على مصنفه شيخنا الإمام العلامة. الذهبي رحمه الله، في مواعيد طويلة كثيرة، وافق آخرها يوم الأربعاء العشرين من شهر رمضان المعظّم في سنة سبع وأربعين وسبعمائة، في الصدرية بدمشق، وأجاز جميع ما يرويه، وكتب محمد (ابن علي الحنفي ؟؟) بن عبد الله. انتهى

وقد كانت وفاة الذهبي رحمه الله تعالى في ليلة الثالث من ذي العقدة سنة ٧٤٨ كما في (الدرر الكامنة ج: ٣ ص: ٣٣٨ – لابن حجر).

قلنا: قد رجعت أيضاً لهذه النسخة العظيمة النادرة المثال في عالم المخطوطات، فلم أجد فيها ترجمة للإمام أبي حنيفة النعمان، وهذا مما يقطع معه المرء بأن الترجمة المذكورة في بعض النسخ (الميزان) ليست من قلم الذهبي، وإنما هي دخيلة على الكتاب، بيد بعض الحانقين على الإمام أبي حنيفة، وذلك أنها جاءت في سطرين لا تليق بمقام الإمام الأعظم، ولا تحاكي تراجم الأئمة الذين ذكرها الذهبي لدفع الطعن عنهم، وهم دون أبي حنيفة إمامة ومنزلة، فقد أطال النفس في تراجمهم طويلاً، وجلَّى مكانتهم وإمامتهم أفضل تجلية.

وكتاب (الميزان) هذا مرتع واسع لإلحاق تراجم فيه للنيل من أصحابها، وقد امتد إليه قلم غير الذهبي في مواطن، فجيب طبعه عن أصل مقروء على المؤلف، كالجزء المحفوظ بظاهرية دمشق وهو يبتدئ بحرف الميم وينتهي بآخر الكتاب، وكالقسم الموجود في خزانة الرابط.

وإنما أطلت في هذه التعليقة كثيراً، تنزيهاً لمقام الإمام أبي حنيفة، وتبرئة لساحة الحافظ الذهبي رحمه الله، وتعريفاً بالمخطوطات الموثوقة من (ميزان الاعتدال) ليصار إلى طبعه عنها ممن يوافقه الله تعالى (الرفع التكميل ص: ١٠٠, ١٠٤ – تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة).

(١٠) ما قيل أنه كان يقول بالحيلة

فقد قيل أن الإمام رحمه الله تعالى كان يقول بالحيلة، التي تضيع الحقوق، وتحرم الحلال وتحلل الحرام.

نقول: تعرض الشيخ المحقق محمد أبو زهرة في كتابه القيِّم (أبو حنيفة) لهذا الموضوع، وأطال بما يدفع شبهة كون الإمام – العابد الورع المشهود له بالتقوى والتزود للآخرة – ممن يخالف الشريعة، ويحتال على أحكامها، فيحلل حراماً أو يحرم حلالاً، معاذ الله وإنما هي مسائل يتفادى بها الوقوع في محظور، باستعمال الفكر، وإني أجتزئ مواضع من موضوع الشيخ حسب الحاجة إليه.

قال: يُقّسم ابن القيم (الرفع والتكميل ص: ١٠٤-١٠٠) ما نطلق عليه (حيل) عند الفقهاء إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الطرق الخفية التي يُتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه، كالحيل على أخذ أموال الناس بالباطل، وكالحيل لجعل ما ليس بشرعي لابساً المظهر الشرعي كنكاح المحلَّل وكبيع العِينة.

ثم قال: وهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرمات، وهي من التلاعب بدين الله واتخاذه هزواً. وهي حرام في نفسها، لكونها كذباً وزوراً، وحرام من جهة المقصود بها وهو إبطال حق وإثبات باطل.

القسم الثاني: أن تكون الحيلة مشروعة وما تفضي إليه أمر مشروع، وقد وضعت الوسيلة فيها للغرض المقصود منها ظاهراً وهي تشمل كل الأسباب الشرعية التي وضعها الشارع وجعلها سبيلاً إلى مقتضياتها الشرعية، والحيلة في هذه الدائرة تكون باتخاذ الأسباب الشرعية وسيلة إلى الكسب الحلال بأقصى درجاته، وأبعد غاياته، وهي من التدبير الحسن الذي يُحمد فاعله ولا يذم، ومن أفتى بشيء فيها فقد أفتى بما هو حلال خالص. وعندنا أن هذا لا يعدّ من الحيل على حد تعريف الفقهاء.

القسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطرق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك بل وضعت لغيره، فيتخذها طريقاً لهذا المقصود الصحيح، مثال ذلك: أن يستأجر شخص داراً لمدة سنتين، ويخشى أن يغدر به المؤجر في أثناء المدة، فيحاول فسخ الإجارة بطرق غير محللة، كأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإجارة، أو أن العين كانت مؤجرة لغيره قبل إجارته، فالاحتياط لهذا أن يضمنه المستأجر درك العين المستأجرة، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه.

ثم قال أبو زهرة: إن الدراسة الفاحصة العميقة لكتاب (الحيل والمخارج) للخضَّاف، تنتهي بأن حيل أئمة المذاهب الحنفي من النوع الثاني لا من النوع الأول، وأننا لم نجد حيلة في باب من أبواب العبادات – إلا حيلة واحدة في الزكاة سنذكرها – وأن إبعاد العبادات عن الحيل في المأثور عن أولئك الأئمة الأعلام، ليدل على أنهم لم يقصدوا بحيلهم مدافعة مقاصد الشرع والاستمساك بظاهر من التكليفات، والحيلة التي أثرت في الزكاة هي أيضاً من باب تحري الأحق في الأمور والمقاصد السامية وهي: إذا كان شخص مديناً لآخر ولم يجد الدائن أحق بالزكاة من هذا المدين، ووجد أن زكاة ماله أن يترك دينه عليه له صدقة، ولكنه يجد بعض الشروط الفقهية تقف حاجرة بينه وبين غرضه الذي يتفق مع مقاصد الشرع ولا ينافيها، وذلك الشرط هو أن ينوي زكاة المال عند تسليم الفقير المستحق، ولم تكن ثمة هذه النية لأنه لا تسليم – بل إسقاط – وقد ذكر الخصّاف الحيلة في ذلك فقال:

أرأيت رجلاً له مال على فقير، فأراد أن يتصدق بماله على غريمه ويحتسب ذلك من زكاته؟ قال: لا يجزئه ذلك من الزكاة، قلت: فما الوجه؟ قال: الوجه في ذلك أن يعطيه مقدار ما عليه من الدين ويحتسب ذلك من زكاته، فإذا قبضه الغريم، فإن قضاه إياه عما عليه من الدين فلا بأس بذلك، ويجزئه ما دفعه إلى الغريم أن يحتسبه من زكاته (الحيل والمخارج للخصاف ص:١٠٣).

ولم يؤثر عن أبي حنيفة رحمه الله كتاب في الحيل قط، وما نقل عن ابن المبارك أنه قال: من نظر في كتاب (الحيل) لأبي حنيفة أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله باطل غير معقول، فمكانة أبي حنيفة عند ابن المبارك معروفة، وثناء ابن المبارك عليه مشهود مشهور، حتى إنه قال فيه: إنه مخ العلم.

وأما كتاب (الحيل) المنسوب إلى الإمام محمد بن الحسن، فقد قال تلميذ الإمام محمد بن الحسن وهو أبو سليمان الجوزجاني: من قال إن محمداً صنف كتاباً سماه (الحيل) فلا تصدقه. وما في أيدي الناس فإنما جمعه ورّاقو بغداد، وإن الجهال ينسبون إلى علمائنا ذلك على سبيل التعيير، فكيف يظن بمحمد رحمه الله أنه سمى شيئاً من تصانيفه بهذا الاسم، ليكون عوناً للجهال على ما يقولون (المبسوط للإمام السرخسي ج:٣٠ ص:٢٠٩).

وقال أبو زهرة: إن الدراسة الفاحصة الضابطة للحيل المأثورة في كتاب الإمام محمد رحمه الله، وعلمت أنه لا تصح نسبته إليه – والمضافة، تنتهي بنا إلى أن نضبط هذه الحيل في أربعة أقسام.

أ- القسم الأول: في الأيمان وأكثره أَيمان الطلاق
ب – القسم الثاني: في توجيهات من المفتي لمن يستفتيه في العقود، والغرض منها الاحتياط لنفسه لكل أنواع الضمانات لكيلا تضييع حقوق له في المستقبل، أو لكيلا تقع به مضار بسبب العقد.

ج – القسم الثالث: التوفيق بين مقاصد العاقدين المشروعة التي لا إثم فيها، وبين ما يشترطه الفقهاء لصحة العقود، وما يقرونه من شروط وما لا يقرون.

د – القسم الرابع: بيان الطريق للوصول إلى الحقوق الثابتة، ولكن يحول بينها وبين الإلزام بها بعض قواعد شرعية تثبت لحماية المبادئ المقررة في الشريعة ولمنع عبث الناس بالأحكام الشرعية.

ثم ذكر أمثلة عديدة نختار منها مثالاً واحداً لكل قسم

مثال القسم الأول: حلف رجل لا يشتري ثوباً من فلان، ثم أراد أن يشتريه منه من غير أن يحنث في يمينه، فإنه يوكل شخصاً يشتريه له، فإنه في هذه الحال لا يحنث لأن العقد يضاف إلى الوكيل في البيع والشراء.

مثال القسم الثاني: أن يطلب شخص من آخر أن يشتري داراً لنفسه ويعده أنه إذا تمّ له الشراء يشتريها منه بربح يرغب في مثله، بأن يقول له: اشتراها وثمنها بألف، فإن اشتريتها فأني أشتريها منك بألف وخمسمائة، وليس للمأمور رغبة في ذات الشراء, وله عنه غناء، ويخشى إن اشتراها لنفسه أن يبدو لمن أمره بالشراء أن لا يشتري، فتبقي الدار في ملكه وليس له رغبة في ذلك ولا يرى فيها ما يدرّ عليه الخير، فذكروا أن وجه الحيلة في الاحتياط لنفسه: أن يشتريها من مالكها على أنه بالخيار مدة معلومة، ويكون له بذلك في مدة الخيار الحق في أن يبيعها، فإن اشتراها في المدة بت البيع وتم له الربح والخلاص من الدار، وإن لم يشترِ الآخر في أثناء مدة الخيار فسخ البيع ورضي من الغنيمة بالسلامة (المخارج والحيل للخصاف ص: ١٩٢).

مثال القسم الثالث: وهو الحيل التي بقصد بها الجمع بين بعض مقاصد الشريعة وأحكام العقود التي نص عليها فقهاء الحنفية: رجل يريد أن يدفع ماله مضاربة – عقد المضاربة عقد شركة يجعل المال على شخص والعمل على الثاني، على أن يكون الربع بينهما معلوماً على سبيل الشيوع، وما ينقص من رأس المال فعلى صاحب المال – ولكنه لا يأمن بأن يعبث صاحب العمل بالمال معتمداً على أنه أمين والأمين لا يضمن، وشرط الضمان في العقد شرط غير صحيح، فيكون الشخص بين أمرين: أما أن لا يضارب وفي ذلك ضرر به وضرر بالآخر، إذ فيه حرمان لنفعهما، وأما أن يقدم المال دون ضمان، فيكون عرضة للضياع، فقالوا: إن وجه الحيلة في هذا الحال:

أن يقرضه رب المال المال إلاّ درهماً، ثم يشارك بذلك الدرهم فيما أقرضه على أن يعملا معاً، فما رزقهما الله تعالى من شيء فهو بينهما على كذا، وهذا صحيح لأن المستقرض بالقبض يصبح ضامناً للمقرض متملكاً، ثم الشركة بينهما مع التفاوت في رأس المال صحيحة. فالربح بينهما على الشرط، كما قال علي رضي الله عنه: الربح على ما اشترطا والمضيعة على رب المال، ويستوي إن عملا جميعاً أو عمل به أحدهما فربح، فإن الربح يكون بينهما (المبسوط للسرخسي ج:٣٠ ص:٢٣٨).

مثال على القسم الرابع: وهو الحيل المراد بها الإلزام بحق تحول القواعد الفقهية دون ثبوته. إذا كان الله تعالى قد جعل الحكم الديني والخلقي تابعاً للمقاصد والأغراض التي يدركها غالباً الموفقون من العقلاء، فإن الحيلة في هذه الحال تكون هي الأمر الديني والخلقي الفاصل، لأنها تكون لتوصيل الحق إلي أهله، وللحيلولة دون ضياعه، مثاله: من المقرر الثابت أن المريض مرض الموت لا ينفذ قراره لورثته بدين، إلاّ بإجازة الورثة، فإذا كان لزوجته أو لأحد من سائر ورثته دين حقيقي، ولا سبيل لإثباته إلا بالإقرار، والورثة ربما لا يجيزونه، وفي الغالب لا ينفذونه، فالأمر حينئذٍ يؤدي لا محالة إلى ضياع حق الوارث وإلى موت المريض وذمته مشغولة بهذا الدين، وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى. وفقه الفقهاء يحول بينه وبين براءة ذمته بأداء الحق إلى أهله، ولبراءة ذمته إما أن ينقض الفقهاء قاعدتهم، وقد وجبت للاحتياط للورثة، حتى لا يؤثر بضعهم على بعض بأكثر مما قسم الله سبحانه وتعالى ووقوع ذلك كثير من المرضى. فنقضها هدم لذلك الاحتياط الذي لا بد منه لنظام الميراث، فلم يبق إلا أن يعمل الأئمة الحيلة ليثبت الحق الذي يخشى عليه الضياع، ولتبرأ ذمته المريض أمام الله تعالى، ويحمي في نفس الوقت نظام الميراث الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، والحيلة في ذلك قد ذكرها (الخصاف) في كتابه (المخارج والحيل) ونصه:

إن كان لامرأة المريض عليه دين مائة دينار أو أكثر، الحيلة في ذلك؛ أن يأتي المرأة برجل تثق به، فيقر المريض ويشهد على نفسه أن امرأته كانت وكلته بقبض مائة دينار كانت لها على فلان هذا، وأنه قبض ذلك لها من فلان هذا، فإذا أشهد على نفسه بذلك لم يقبل إقراره للمرأة بهذا لتأخذه من ماله، ولكن للمرأة أن ترجع بذلك على الرجل الذي أقر المريض أنه قبض ذلك منه، ويرجع الرجل على المريض بما أقرا بأخذه للمرأة منه، لأنه يقول: قد أقرا المريض أنه أخذ مني ما كان لهذه المرأة ولم أبرأ بقوله، وقد رجعت المرأة عليّ فلي أن أرجع به في ماله فيكون ذلك له، فإن خاف هذا الرجل أن تلزمه يمين في ذلك، ينبغي للمرأة أن تبيع من هذا الرجل ثوباً بهذه المائة، فإن لزمته في ذلك يمين كان قد حلف باراً.

بهذا المثال نرى أن الحيلة كانت للوصول إلى الحق وإبراء الذمة، وفي ذلك خير (أبو حنيفة للشيخ أبو زهرة ص: ٤٢٤، ٤٣٠).

قلنا: ومن أحب التوسع في هذا الموضوع؛ مأخذه وأحكامه، فليرجع إلى كتاب (كشف النقاب عن موقع الحيلة في السنة والكتاب) لفضيلة الشيخ محمد عبد الوهاب البحيري وهو مطبوع.

(١١) قول بعضهم أنه استتيب من الكفر مرتين

فقد قيل أن بعضهم روى أن الإمام رحمه الله استتيب من الكفر مرتين، فلولا أنه كانت له أفكار كفرية ما طلب منه أن يتوب عن ذلك مرتين.

قال الفقيه المحقق علي بن محمد القاري في مناقب الإمام رضى الله عنه قال أبو الفضل الكرماني: لما دخل الخوارج الكوفة مع الضحاك – ورأيهم تكفير كل من أذنب وتكفير كل من لم يكفَّر مرتكب الذنب – قيل لهم: هذا شيخ هؤلاء، فأخذوا الإمام أبا حنيفة رضى الله عنه وقالوا له: تب من الكفر، فقال: أنا تائب من كل كفر، فقيل لهم: إنه تائب من كفركم، فأخذوه فقال لهم: أبعلم قلتم أم بظن؟ قالوا: بظن، قال إن بعض الظن إثم، والإثم ذنب فتوبوا من الكفر، قالوا: تب أنت أيضاً من الكفر، فقال أنا تائب من كل كفر، فهذا الذي قاله أهل الضلال من إن الإمام استتيب من الكفر مرتين، ولبّسوا على العامة من الناس. ا.هـ

والذي لا ريب فيه أن غلاة الخوارج أهل ضلاله وزيغ، كّفروا كرام الصحابة, وفيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه, واستحلوا قتالهم وفيهم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يُحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن ولا يتجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلة عاد وثمود) ومع ذلك فأهل السنة لا يكفرونهم عامة.

فلا عبرة باستتابتهم لمسلم، ولا بتكفيرهم له، فلقد كانوا – عاملهم الله تعالى بما هم أهله – يقتلون المسلمين لأنهم مرتدون ولا ذمة لهم، ويدَعون أهل الكتاب لأنهم أهل ذمة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله!!

(١٢) أسباب عامة في تحامل بعضهم على الإمام

خلاصة أسباب تحامل بعضهم وكلامهم السَّوْء في الإمام رحمه الله تعالى – وهي أسباب تصدق في المجموع في تحامل بعضهم على سائر الأئمة الأربعة ومن كان مثلهم – والذي قال فيه الإمام أبو يوسف:

حـسـبـي مـن الخـيـرات مـا أعـددتـه ** يـوم القـيامـة فـي رضـى الـرحـمن

ديـن النـبـي مـحـمـد خـيـر الـورى ** ثـم اعـتـقـادي مـذهـب النـعـمان

١- الجهل: جهل أولئك بحقيقة حاله لبعد المسافة بينهم وبينه، وعدم توفر أسباب اللقاء، أو الواسطة الطيبة: من مخبر مصدَّق وناقل بدلاً من ذلك، وقد سبق بيان كيف كان الأوزاعي يتحامل على الإمام رحمهما الله، حتى أطلعه الإمام عبد الله بن المبارك على بعض مسائل الإمام، فلما عرف أنها من مسائله تاب مما كان منه، ورغّب ابن المبارك في الجلوس إليه، ثم حين لقيه ازداد إعجابه به وأخذ عنه.

٢- المعاصرة: معاصرة بعضهم له – ومنه تقليد بعض المتأخرين لمشايخهم المعاصرين ونقلهم كلامهم دون تمحيص وتدقيق – والمعاصرة تدفع الأقران إلى التنافس، فالكلام السوء، إلاّ ما حفظ الله تعالى (وقد قال الإمام الذهبي في تذكرة الحافظ في ترجمة (الحافظ أبو نعيم) كلام ابن منده في أبي نعيم فظيع لا أحب حكاياته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان، إلى أن قال كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو حسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس أ هـ. انظر التعليق على قواعد في علوم الحديث ص:١٢٠).

٣- الحسد: والحسد هو الحالقة يحلق الدين وينحرف باللسان عن الشهادة باليقين، ورحم الله الحسن بن عمارة العابد الزاهد، فقد أخذ يوماً بركاب الإمام رحمه الله وهو يقول: (والله ما أدركنا أحداً يتكلم في الفقه أبلغ ولا أصبر ولا أحضر منك، وإنك لسيد من تكلم فيه في وقتك غير مدافع، وما يتكلمون فيك إلا حسداً / انظر مناقب الموفق ج:٢ ص:٩٠) وأسند الموفق بسنده إلى علي بن الحسين عن أبيه قال: كان يحيى بن معين إذا ذُكر له من تكلم في أبي حنيفة يقول:

حـسـدوا الفـتـى إذ لـم ينـالـوا سعـيـه ** فـالـناس أعـداء لـه وخـصـوم

كـضـرائـر الحـسـنـاء قـلن لـوجهـهـا ** حـسداً وبـغـياً إنـه لـدمـيـم

قال مؤلف قلائد عقود العقيـان: الذي يظهر لي من الحكمة في كثرة حساد الإمام رضي الله عنه، إنما هو لظهور فضله وعلو منزلته ورفع درجته ومرتبته، وزيادة في أجره وتضعيف لثوابه بعد انقضاء أجله وفراغ عمره، كما يروى عن الإمام الشافعي أنه قال: ما أرى أن الله لا يمنع الناس من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم ثواباً عند انقطاع أعمارهم. قلت: فحال هذا الإمام المحسود مثل حالهم في كثرة الحساد والطاعنين وفي ذلك إظهار فضلهم وشرفهم (قلائد عقود العقيان مخطوطة بالمكتبة المحمودية ق ٨)، كما قال الشاعر:

وإذا أراد الله نـــشـــر فـضـيـلـة ** طُـويـت أتـاح لـهـا لـسـان حـسود

لـولا اشـتـعـال النـار فـيـما جـاورت ** مـا كـان يـعرف طيب عـرف الـعـود

٤– الخلاف في الرأي: وهذا هو الأكثر، وهو الذي نجد من آثاره تهماً مردودة، وأحكاماً مصورة، إذا نظرنا إلي حقيقتها رأيناها أوهاماً بنيت على قواعد من الهواء، وظنوناً أرسيت على أصول من الهباء، مثل نعيم بن حماد – قال فيه النسائي: ضعيف، وقال غيره: كان يضع الحديث في تقوية السنة، وحكايات في ثلب أبي حنيفة كلها كذب. انظر فقه أهل العراق وحديثهم ص:٨٨ – الذي وضع قصصاً من نسيج الخيال، محاولاً أن يحط من قدر الإمام, ويطامن من مكانته، فكان مثله في ذلك كمثل من قال:

كنـاطـح صـخـرةً يـومـاً لـيـوهـنـها ** فـلم يـضـرهـا وأوهـى قـرنـه الوعـل

وقال الشيخ عبد الرشيد النعماني في (ما تمسه إليه الحاجة من سنن ابن ماجه): وكذلك أكثر القضاة الذين امتحنوا الرواة في عهد المأمون في مسألة خلق القرآن كانوا على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، فانتقم منهم هؤلاء الرواة بالنيل من إمامهم، وساووا بين القضاة وأئمتهم (ص:٥٤ من مخطوطتي عن الكتاب، وانظر (مسألة خلق القرآن) للشيخ عبد الفتاح أبو غدة لترى العجب في التحامل على أئمة عظام بغير حق ).

٥- الانحراف: انحراف بعض القائلين عن الجادة، وقد قررنا هذا من قبل، مثل الآخذين بظواهر النصوص دون فقه وتبصر، أو الزائغين في العقيدة كالمعتزلة وغلاة والخوارج والرافضة وغيرهم.

قال الشيخ تاج الدين السبكي في رسالته (قاعدة في الجرح والتعديل): ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلي الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح فجرحه لذلك، ومن أمثلة ذلك قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ. فيا لله والمسلمين!! أيجوز لأحد أن يقول في الإمام البخاري متروك ؟؟؟؟!! وهو حامل لواء الصناعة ومقدَّم أهل السنة والجماعة ؟! ثم يا لله والمسلمين أتجعل ممادحه مذام ؟! فإن الحق في المسألة اللفظ معه، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى، وإنما أنكرها الإمام أحمد رضي الله عنه لبشاعتها.

ولله درّ أبي حنيفة ما أوسع صدره حين قال: ( لما سئل عما إذا كان يكفّر من يرميه من الفرق بالكفر: لا أكفر من يرميني بالكفر ولكن أكذبه. كما في (العالم والمتعلم) رواية مقاتل حفص بن سلم عنه، ثم قال:

ولا أدري كيف أباح الخطيب لنفسه تدوين هذا الفحش والسفه في حق أمثال هؤلاء الأئمة بمثل هذا السند الساقط، مع علمه بمنزلة هؤلاء الأعلام في العلم والورع، ولو كان ذلك في عهد عمر رضي الله عنه لقام عليه بالدرّة أو اعتقله تعزيراً له كما فعل في أمثاله.

(١٣) اتهامه بأنه قال بخلق القرآن

قال الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام من تاريخه (ج: ١٣ ص:٣٧٨،٣٨٥): كتب إلي عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي وحدثنا عبد العزيز بن أبي طاهر عنه قال أخبرنا أبو الميمون البجلي، حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو أخبرني محمد بن الوليد (أبو هبيرة الهاشمي الدمشقي) قال سمعت أبا مسهر يقول: قال سلمة بن عمرو القاضي على المنبر: لا رحم الله أبا حنيفة فإنه أول من زعم أن القرآن الكريم مخلوق. أ هـ قال الإمام الكوثري: أقول ولفظ ابن عساكر في تاريخه (لا رحم الله أبا فلان فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق) ففي الخبر المسوق هنا تغيير (أبي فلان) إلي أبي حنيفة، ومن أين علموا أن أبا فلان في الرواية هو أبو حنيفة، مع تضافر الروايات على أن أول من قام قال بذلك جعد بن درهم، وتبديل كلمة بكلمة أمر هّين عندهم، ومناقضة ما تواتر عن أهل العلم شيء لا أهمية له في نظرهم، وقد وفيت الكلام في حقه في هذه المسألة فينا علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة. ومن جملة ما قلت هناك: قال ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية سمعت أحمد بن عبد الله الشعراني يقول: سمعت سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري يقول: إنما خرج جهم سنة ثلاثين ومائة, فقال: القرآن مخلوق، فلما بلغ العلماء تعاظموه فأجمعوا على أنه تكلم بكفر وحمل الناس ذلك عنهم، وقال أيضاً سمعت أبي يقول: من أتى بخلق القرآن الجعد بن درهم في سنة نيَّف وعشرين ومائة، ثم جهم بن صفوان، ثم من بعدهما بشر بن غياث. أ هـ (ولعل ذكر ثلاثين بجبر الكسر وإلا فخروج جهم سنة بضع وعشرين كما سبق).

وقال اللالكائي في (شرح السنة): ولا خلاف بين الأمة إن أول من قال القرآن مخلوق الجعد بن درهم في سنة نيف وعشرين ومائة أ هـ ( وألقي القبض على جهم سنة ١٢٨ ) وكان قتله أيضاً في تلك السنة على ما يذكره ابن جرير إلا أن اللالكائي يقول بأن قتله كان سنة اثنين وثلاثين ومائة، وفي تلك التواريخ اضطراب كما ترى ولم يحل قتل جهم دون ذيوع رأيه في القرآن، فافتتن به أناس فشايعه مشايعون، ونافره منافرون، فحصلت الحيدة من العدل إلى إفراط وإىي تفريط من غير معرفة كثير منهم لمغزى هذا المبتدع، أناس جاروه في نفي الكلام النفسي، وأناس قالوا في معاكسته بقدم الكلام اللفظي.

ولما رأى أبو حنيفة ذلك تدارك الأمر وأبان الحق فقال: ما قام بالله غير مخلوق، وما قام بالخلق مخلوق، يريد أن كلام الله تعالى باعتبار قيامه بالله تعالى صفة كباقي صفاته في القدم، وأما ما في ألسنة التالين وأذهان الحفاظ والمصاحف من الأصوات، والصور الذهنية والنقوش فمخلوقة كخلق حامليها، فاستقرت آراء أهل العلم والفهم على ذلك بعده، ولا يمكن أن يكون إجماع التابعين على ردّ قول جهم إلا باعتبار تجرئه على صفة قائمة بالله تعالى غير بائنة منه. ومحال أن يكون القديم حالاّ في حادث فيلزم عليهم أن يعترفوا بخلق ما قام بالخالق، ولكن أبا حنيفة كان رجلاً محسوداً أذاع عنه حاسدوه أنه يقول بقول جهم وأنى يصدر عنه ذلك (تأنيب الخطيب ص:٧٨،٧٩).

(١٤) اتهامه بأنه قال الجنة والنار تفنيان

روى البغدادي في تاريخه: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري حدثنا محمد بن العباس الخزاز حدثنا محمد بن القاسم البزاز حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو عبد الرحمن عبد الخالق بن منصور النيسابوري قال: سمعت أبا داود المصافحي قال: سمعت أبا مذيع يقول: قال أبو حنيفة إن كانت الجنة والنار مخلوقتين فإنهما تفنيان. اخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل حدثنا علي بن إبراهيم النجاد حدثنا علي بن إبراهيم النجاد حدثنا محمد بن إسحاق السراج قال سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت عبد الله بن عثمان بن الرماح يقول سمعت أبا مطيع البلخي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول إن كانت الجنة والنار خلقتا فإنهما تفنيان، قال أبو مطيع كذب والله. قال السراج كذب والله. قال النجاد وكذب والله، قال الله تعالى: (أكلها دائم) قال ابن الفضل وكذب والله. قلت هذا القول يحكى أن أبا مطيع كان يكذب إلي لا أبا حنيفة, وكذب والله كل من قاله . أ هـ

قال الكوثري: قلت أبو داود المصحافي هو سليمان بن سليم مؤذن جامع بلخ، ذكره محمد بن جعفر الورّاق في طبقات علماء بلخ كما في أنساب السمعاني وفي سند الخبر الأول الخزاز, وفي الثاني ابن الرماح، فلا يصّحان مع وجودهما في السندين، وربما يكون السندان مركبين من المبدأ لمخالفة الخبرين لما تواتر عن أبي حنيفة وأبي مطيع في المسلة ولما رواه أبو مطيع عن أبي حنيفة في (الفقه الأبسط) رواية أبي بكر محمد بن الكاساني عن علاء الدين السمرقندي عن أبي معين النسفي عن أبي عبد الله الحسين من علي عن أبي مالك نصران بن نصر الختلي ورواية أبي زكريا يحيى بن مطرف عن أبي صالح محمد بن الحسين، عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر بن عبد الله البستي الجرمقي وهي عن أبي الحين علي بن أحمد الفارسي عن نصر بن يحيى عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي عن أبي حنيفة (كما في المجموعة ٦٤ والمجموعة ٢١٥ بدار الكتب المصرية) وفي الكتاب المذكور في باب الردّ على من يكفر بالذنب:

( فإن قيل إنما – الجنة والنار – تفنيان فقل له وصف الله نعيمها بقوله: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) ومن قال تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما فقد كفر بالله تعالى لأنه أنكر الخلود فيهما) وهذا نص على أن أبا حنيفة وأبا مطيع لا يريان فناء الجنة والنار بعد دخول أهلهما فيهما. وأما ما في ميزان الاعتدال للذهبي حيث قال في ترجمة أبي مطيع قال العُقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد سألت أبي عن أبي مطيع البلخي: فقال (لا ينبغي أن يُروي عنه حكوا عنه أنه كان يقول الجنة والنار خلقتا فستفنيان وهذا كلام جهم) وحكاية هذا القول عنه هنا بدون سند فعلى تقدير ثبوته عنه يجب جمله على فنائها لحظة عند النفخ تحقيقاً لقوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه) كما هو قول كثير من متكلمي أهل السنة على ما في (شرح النسفية) و (شرح المقاصد) وغيرهما. وأين هذا من اعتقاد فنائهما بعد دخول أهلهما فيهما كما هو رأي جهم، وهو كفر صريح عن أبي حنيفة وأبي مطيع، بل نقل ابن حزم الإجماع على كفر من قال بفنائهما بعد دخول أهلهما فيهما. وقد استوفى الكلام على ذلك أبو الحسن السبكي في كتابه (الاعتبار ببقاء الجنة والنار).

وفي (الفقه الأكبر ) رواية علي بن أحمد الفارسي عن نصر بن يحيى عن أبي مقاتل عن عصام بن يوسف عن حماد بن أبي حنيفة عن أبي (والجنة والنار مخلوقتان اليوم لا تفنيان أبداً) وسنده في أول النسخة الخطية المحفوظة ضمن المجموعة (رقم ٢٢٦) بمكتبة شيخ الإسلام بالمدينة المنورة . أهـ (من ص:١٠٧،١٠٩ وانظر مقدمة الكوثري في التأنيب).

وقال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي صاحب السيرة الشامية في (عقود الجمان) اعلم (رحمني الله وأياك) أن ما رواه الخطيب من القدح في الإمام أبي حنيفة غالب أسانيده لا يخلو من متكلم فيه أو مجهول، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يثلم عرض أحد من المسلمين بمثل ذلك فكيف بإمام من أئمة المسلمين.

(١٥) بعض الروايات الباطلة التي ذكرها الخطيب في تاريخه

وقد ذكر الخطيب في تاريخ بغداد ما لا يُعد ولا يحصى من الروايات الباطلة في حق الإمام رحمه الله تعالى، وقد ذكرت عشرات الكتب في ما سبق في الرد على الخطيب وما ذكره في تاريخه، ولكن لا بأس أن نذكر بعض هذه الروايات ونبين ضعفها:

أنبأنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا محمد بن العباس بن أبي دهل الهروي حدثنا أحمد بن محمد بن يونس الحافظ حدثنا عثمان بن سعيد الدرامي قال: سمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: (ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني).

الحكم على الحديث ضعيف: ففيه يوسف بن أسباط قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري كان قد دفن كتبه، فكان لا يجيء بحديثه كما ينبغي .. ميزان الاعتدال (٤ / ترجمة ٩٤٥٦).

أخبرنا الخلال أخبرنا علي بن عمر الحريري أن علي بن محمد النخعي حدثهم قال: حدثنا محمد بن محمود الصيدناني حدثنا محمد بن شجاع بن الثلجي حدثنا الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: (لما أردت طلب العلم جعلت أتخير بين العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لي تعلم القرآن، فقلت إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان .. الخ)

الحكم على الحديث موضوع: فيه محمد بن شجاع بن الثلجي، قال ابن عدي: كان يضع الحديث في التشبيه ينسبها إلى أهل الحديث يثلبهم بذلك. (ميزان الاعتدال (٣/٥٧٧))

أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن أخو الخلال أخبرنا جبريل بن محمد المعدل – بهمذان – حدثنا محمد بن حيوة النخاس حدثنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع قال: سمعت الثوري يقول: (نحن المؤمنون وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحة والمواريث والصلاة والإقرار ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله؟ قال وكيع وقال أبي حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنـا وعند الله حقاً، قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان وقول أبي حنيفة عندنا جرأة).

الحكم على الحديث ضعيف: فيه محمد بن حيوية وهو ابن العباس الخزاز قال في الخطيب: (ترجمة رقم: ١١٣٩): كان متساهلاً فيما يرويه يحدث عن كتاب ليس عليه سماعه، فلا يحصل الظن بانفراد مثله فضلاً عن العلم ولا سيما فيما خالف فيه الثقات الأثبات.

أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل أخبرنا محمد بن عمرو بن البختري الرزاز حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا الحميدي حدثنا حمزة بن الحارث ابن عمير عن أبيه قال: ( سمعت رجلاً يسأل أبي حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق, ولكن لا أدري هل هي التي بمكة أم لا ؟ فقال: مؤمن حقاً. وسأله عن رجل قال أشهد أن محمد بن عبد الله نبي ولكن لا أدري، هو الذي قبره بالمدينة؟ فقال مؤمن حقاً. قال الحميدي: ومن قال هذا فقد كفر، قال: وكان سفيان يتحدث به عن حمزة بن الحارث).

الحديث ضعيف فيه الحارث بن عمير البصري، قال الذهبي: (وثقه ابن معين من طريق إسحاق الكوسج عنه، وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي، يقول محقق كتاب تاريخ بغداد مصطفى عبد القادر في تاريخ بغداد (٣٢٤/١٣): وما أراه إلا بيّن الضعف، فإن ابن حبان قال في الضعفاء: روى عن الأثبات الأشياء الموضوعات، وقال الحكم: روى عن حميد وجعفر الصادق أحاديث موضوعة.

أخبرنا الحسن بن محمد الخلال حدثنا محمد بن العباس الخزاز وأخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون النرسي أخبرنا موسى بن عيسى بن عبد الله السراج قالا: حدثنا محمد بن محمد الباغندي حدثنا أبي قال: (كنت عند عبد الله بن الزبير فأتاه كتاب أحمد بن حنبل: اكتب إلي بأشنع مسألة عن أبي حنيفة، فكتب إلي حدثني الحارث بن عمير قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لو أن رجلاً قال أعرف الله بيتا ولا أدري أهو الذي بمكة أو غيره أمؤمن هو؟ قال نعم! ولو أن رجلاً قال: أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ولا أدري أدفن بالمدينة أو غيرها أمؤمن هو؟ قال: نعم !).

الحديث ضعيف: فيه محمد بن الباغندي. قال الدارقطني كان كير التدليس، يحدث بما لم يسمع، ربما سرق حديث غيره، وقال إبراهيم الأصبهاني: كذاب (انظر الترجمة رقم (١٢٨٥) في تاريخ بغداد) وفي رواية قريبة من هذه الرواية فيها عباد بن كثير، وهو: متروك. (ميزان الاعتدال (٢/٣٧٠-٣٧٥))

أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل القطان أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثني علي بن عثمان بن تفيل حدثنا أبو مسهر حدثنا يحيى بن حمزة – وسعيد يسمع – أن أبا حنيفة قال: (لو أن رجلاً عبد هذه النعل يتقرب بها إلي الله لم أر بذلك بأساً. فقال سعيد: هذا كفر صراحا).

الحديث ضعيف: فيه عبد الله بن جعفر بن درستويه، حكى الخطيب عن البرقاني تضعيفه.

أخبرنا أبو سعيد الحسن بن محمد بن حسنوية الكاتب – بأصبهان – أخبرنا عبد الله بن محمد بن عيسى بن مزيد الخشاب حدثنا أحمد بن مهدي بن محمد بن رستم حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثني عبد السلام يعني ابن عبد الرحمن قال: حدثني إسماعيل بن عيسى بن علي قال: قال لي شريك: كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله تعالى، قال تعالى: (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة: 5)، وقوله تعالى: (ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) (الفتح: 4)، وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وزعم أن الصلاة ليست من دين الله .

الحديث موضوع وقبح الله ولعن الذي وضعه وأشعل قبره ناراً، ففيه شريك بن عبد الله: تكلم فيه العلماء كثيراً وضعف يحيى بن سعيد حديثه جداً (انظر ترجمة رقم ٤٨٣٨).

أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله السَّراج – بنيسابور – أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي حدثنا عثمان بن سعيد الدرامي حدثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال: سمعت أبا إسحاق الفرازي يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: (إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قال إبليس يا رب وقال أبو بكر يا رب، قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل لهذا. انكسر عليه قوله).

الحديث ضعيف: فيه محبوب بن موسى الأنطاكي. قال الدارقطني: صويلح وليس بالقوي، وقال أبو داود: ثقة لا يلتفت إلي حكاياته إلا من كتاب. ميزان الاعتدال (٣/٤٣٣) وكذلك أبو إسحاق الفزاري: منكر الحديث.

أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن سليمان المؤدب – بأصبهان – أخبرنا أبو بكر بن المقرئ قال: حدثنا سلامة بن محمود القيسي – بعسقلان – حدثنا عبد الله بن محمد بت عمرو قال: سمعت أبا مسهر يقول: (كان أبو حنيفة رأس المرجئة).

الحديث ضعيف: فيه أبو بكر المقرئ، قال الخطيب نفسه: في أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وقال البرقاني: كل حديثه منكر (انظر تاريخ بغداد /٦٣٥).

أخبرنا ابن رزق أخبرنا أحمد بن جعفر بن سلم حدثنا أحمد بن علي الأبار حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا محبوب بن موسى قال: سمعت يوسف ابن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: (لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولي).

الحديث ضعيف: فيه محبوب بن موسى الأنطاكي. قال الدارقطني: صويلح وليس بالقوي، وقال أبو داود: ثقة لا يلتفت إلى حكاياته إلا من كتاب (ميزان الاعتدال (٣/٣٤٤) وفيه يوسف بن أسباط قال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال البخاري كان قد دفن كتبه، فكان لا يجيء بحديثه كما ينبغي .. (ميزان الاعتدال (٤/ ترجمة ٩٤٥٦)).

ونكتفي بهذه الروايات العشر التي حق لنا أن نبكي عليها دماً من بين مئات الروايات التي ذكرها الخطيب البغدادي (عفا الله عنه) في تاريخه, ومن أراد المزيد فليرجع للمصادر التي ذكرناها سابقاً في الرد على الخطيب.

(١٦) لولا السنتان لهلك العمان!

الادعاء بأن الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد جعفر الصادق كذب يعرفه كل من قرأ شيئاً عن حياة أبي حنيفة، والمعلوم المشهور أنه تتلمذ على يد ثلة من كبار العلماء في عصره ومن أبرزهم إسماعيل بن حماد أبي سليمان الكوفي وهو من أخص شيوخ أبي حنيفة إضافة إلى إبراهيم بن محمد المنتشر، وإبراهيم بن زيد النخعي، وأيوب السختياني، والحارث الهمذاني، وربيعة المدني، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسعيد بن مسروق ولد سفيان الثوري، وسليمان الهلالي، وعاصم بن كليب وغيرهم كثير، بل وقد عدّ شيوخه بأنهم قد بلغوا أربعة آلاف شيخ، وقد قال ابن تيمية في منهاج السنة (٧/٥٣٢): (أبو حنيفة من أقران جعفر الصادق توفي الصادق سنة ثمان وأربعين – يقصد بعد المائة – وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وكان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق)، ثم قال رحمه الله تعالى في الجزء (٧/٥٣٢): ( وما يعرف أن أبي حنيفة اخذ عن جعفر الصادق ولا عن أبيه مسألة واحدة بل اخذ عمن كان أسن منهما كعطاء ابن أبي رباح وشيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان).

(١٧) أقوال الأئمة الأعلام فيه

لقد أثنى على الإمام جمهور غفير من العلماء، ولكن سوف نقتصر على ذكر أقوال للأئمة الثالثة (الشافعي، وأحمد، ومالك) في الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وقد سئل عن الإمام: (رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعل ذهباً لقام بحجته. وقد مُدِح الإمام الشافعي بمثل هذا) (مناقب الإمام أبي حنيفة لابن حجر الهيثمي).

وروى بسنده إلي الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: (ما طلب أحدٌ الفقه إلا كان عيالاً على أبي حنيفة). وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يذكره ويترحّم عليه، ويبكي في زمن محنته (انظر الجواهر المضية تراجم الحنفية للشيخ عبد القادر القرشي ج:١ ص:٨).

(١٨) درر من أقوال الإمام

١. روى الفضيل بن دكين عنه أنه قال: إن لم يكن أولياء الله في الدنيا والآخرة الفقهاءُ والعلماء فليس لله ولي.
٢. روى إبراهيم بن سويد عنه أنه قال: غزوة بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة.
٣. روى ابن المبارك عنه أنه قال: من طلب الرياسة في غير حينه لم يزل في ذل ما بقي.
٤. أبو شهاب عنه قال: من تعلم العلم للدنيا حُرم بركته ولم ينتفع به كثير أحد، ومن تعلمه للدين بروك في علمه ورسخ في قلبه، وانتفع المقتبسون منه بعلمه.
٥. محمد الليثي عنه قال: أعظم الطاعات الإيمان بالله تعالى، وأعظم المعاصي الكفر بالله تعالى، فمن أطاع الله تعالى في أعظم الطاعات وانتهي عن أعظم المعاصي، رجونا له الغفران فيما يأتي بعد ذلك.
٦. رجاء الهروي عنه قال: مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه، مثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هي حتى يجئ الطبيب، هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه حديثه حتى يجئ الفقيه.
٧. وذكر أبو يوسف للإمام رحمه الله تعالى علقمه والأسود أيهما أفضل؟ فقال: والله ما قدري أن أذكرهما إلا بالدعاء والاستغفار إجلالاً لهما، فكيف أفضل بينهما؟!
٨. أبو يوسف عنه قال: من تكلم في شيء من العلم وهو يظن أن الله لا يسأل عنه: كيف أفتيت في دين الله؟ فقد سهلت عليه نفسه ودينه.
٩. محمد الوبري عنه قال: قال له عيسى بن موسى: لم لا تغشانا يا أبا حنيفة فيمن يغشانا؟ فقال له: لأنك إذا قربتني فتنتني، وإذا أقصيتني أحزنتني, وليس عندك ما أرجوك له، وليس عندي ما أخافك عليه، وإنما يغشاك من يغشاك ليستغني بك عمن سواك وأنا غني بمن أغناك، فلم أغشاك فيمن يغشاك؟!
١٠. الحسن بن زياد عنه قال: من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا وكل شدة فيها، وقال: من أراد أن ينجو من عذاب الآخرة فلا يبال من عذاب الدنيا (عن مناقب الموفق المكي اختياراً ج:٢ ص: (٨٠،٩٨)).

تأليف: أحمد سمير حامد

وسوم: أبو حنيفة, أصول فقه, أعلام حنفية ماتريدية, المذهب الحنفي, سيرة الإمام أبي حنيفة, كشف شبهات, مسائل فقهية, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
التأليف الأصولي للمذهب الحنفي في طبقات القنالي زاده الحنفي
إيثار الآخرة على الدنيا معيار الصدق مع الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

كشف شبهات مثارة حول الإمام أبي حنيفة النعمان

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كانت سنة السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم عدم التعرض للعلماء المشهود لهم بالخير والبر بظنون وأوهام…