إن من نواقض الوضوء عندنا القهقهة في صلاة مُطلقة وهي الصلاة التي لها ركوع وسجود، فلا يبطل الوضوء بالقهقهة خارج الصلاة ولا في صلاة الجنازة ولا في سجدة التلاوة إلا إذا كانت السجدة داخل الصلاة، وهذا استحسان، والقياس ألّا تكون حدثاً وهو قول الشافعي (كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع)، ولكن القياس بمقابلة المنقول مردود، ولأن الفرق بينها وبين سائر الأحداث ظاهر وهو أن المقصود بالصلاة إظهار الخشوع، والضحك ينافيه فناسب المجازاة بانتقاض الطهارة عقوبة وزجراً له كالإرث والوصية يبطلان بالقتل، ولأن من بلغ هذه الغاية من الضحك في هذه الحالة ربما غاب حِسُّهُ فأشبه نوم المضطجع والجنون ولا خلاف في التبسم أنه لا يكون حدثاً. والقهقهة ما يكون مسموعاً له ولجيرانه بدت أسنانه أو لا، والضحك ما يكون مسموعاً له دون جيرانه وهو مبطل للصلاة دون الوضوء، والتبسم ما لا صوت فيه ولا تأثير له في واحد منهما فلا تبطل به الصلاة ولا الوضوء(كتاب تبيين الحقائق).
استند الحنفية على عدة أحاديث صحيحة في شأن بطلان الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة، فنذكر بعضها:
الحديث الأول: أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا منصور بن زاذان عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما هو في الصلاة إذ أقبل رجل أعمى من قبل القبلة يريد الصلاة، والقوم في صلاة الفجر، فوقع في زُبيَة (حفرة) فاستضحك بعض القوم حتى قهقه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من كان قهقه منكم فليُعد الوضوء والصلاة “. وهذا الحديث رواه الإمام محمد في كتاب “الآثار” وفي “الجوهر النقي”. ثم قال -أي ابن مندة- في “معرفة الصحابة”: روى أبو حنيفة عن منصور بن زاذان عن الحسن عن معبد بن أبي معبد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من قهقه في صلاته أعاد الوضوء والصلاة “. ثم ذكر ذلك بسنده عن معن عن أبي حنيفة، ثم قال: وهو حديث مشهور عنه، رواه أبو يوسف القاضي وأسد بن عمرو وغيرهما.
فهذا الحديث بسند الإمام مُسند ومُرسل، والمُرسل حُجّة عندنا، ورجال كتاب “الآثار” ثقات مشهورون، ومعبد هذا صحابي.
الحديث الثاني: عن معمر عن قتادة عن أبي العالية الرياحي أن أعمى تردى في بئر والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة، رواه عبد الرزاق في مصنفه، ورجاله رجال الصحيحين، وهو الصحيح كما في “نصب الراية”، وفي “آثار السنن”، وإسناده مُرسل قوي ولم يُذكر سنده تاماً.
والمراد هنا من الضحك أي من ضحك قهقة؛ وهذا يدل عليه ما رواه ابن عمر كما سيأتي في الحديث الخامس، وكما قال الزيلعي وابن التركماني: الأحاديث يفسر بعضها بعضاً. ويؤيده ما رواه محمد في “الآثار” عن أبي حنيفة (الحديث الأول).
الحديث الثالث: عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان ببصره ضرر، فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة. رواه الطبراني في “الكبير” ورجاله موثقون وقد رُوي الحديث مسنداً ومُرسلاً فيُحتج به.
الحديث الرابع: عن بقية عن محمد الخزاعي (هو ابن راشد) عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ضحك في الصلاة: ” أعد وضوءك “. أخرجه ابن عدي. ومحمد الخزاعي هذا هو ابن راشد المكحولي الذي وثقه ابن حنبل ومعين، وقال عبد الرازق: ما رأيت أحداً أورع في الحديث منه، كما جاء في “الجوهر النقي”.
الحديث الخامس: حدثنا ابن جوصاء حدثنا عطية بن بقية حدثني أبي حدثنا عمرو بن قيس السكوني عن عطاء عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من ضحك في صلاته قهقهة فليُعد الوضوء والصلاة “، أخرجه البيهقي في “الجوهر النقي”. أعله ابن الجوزي بأن بقية من عادته التدليس، فلعله سمعه من بعض الضعفاء فحذف اسمه، وأجاب عنه التركماني والزيلعي بأن بقية صدوق، وقد صرح بالتحديث، والمدلس الصدوق إذا صرح بذلك زالت تهمة تدليسه.
فثبت بحمد الله عز وجل نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة بأحاديث صحيحة، وقد تركنا ما ورد فيها من الروايات الضعيفة التي يتقوى بعضها ببعض، فما على الإمام أبي حنيفة من ملام إذا كان متمسكاً بالحديث الصحيح أو الحسن إن خالفه الناس، فافهم والله يتولى هداك (كتاب إعلاء السنن للإمام ظفر أحمد العثماني).
من الجدير بالذكر أن قهقهة الصبي في الصلاة لا تبطل الوضوء بل تبطل الصلاة فقط لأنها ليست بجناية في حقه. إنما قهقهة البالغ في الصلاة تبطل الوضوء والصلاة معاً، ولا فرق بين رجل وامرة، ولا فرق بين أن يقهقه عامداً أو ناسياً فالكل ناقض (حاشية ابن عابدين).
ولو قهقه الإمام والقوم جميعاً: فإن قهقه الإمام أولاً انتقض وضوؤه دون القوم؛ لأنه لما فسدت صلاة الإمام بالقهقهة، فسدت صلاة المؤتمين تلقائيّاً؛ فقهقهتهم لم تصادف تحريمة الصلاة لفساد صلاتهم بفساد صلاة الإمام، فجعلت قهقهتهم خارج الصلاة، والقهقهة خارج الصلاة لا تبطل الوضوء كما علمنا. وإن قهقه القوم أولاً ثم الإمام انتقضت طهارة الكل لأن قهقهتهم حصلت في الصلاة وكذلك لو قهقهوا معاً (كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع).
بين الحنفية والشافعية:
احتج الشافعي بما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الضَّحكُ يُنقِضُ الصَّلاة ولا يُنقِضُ الوُضُوءَ” (أخرجه الدارقطني). ولأنه لم يوجد الحدث حقيقة، ولا ما هو سبب وجوده، والوضوء لا ينتقض إلا بأحد هذين؛ ولهذا لم ينتقض بالقهقهة خارج الصلاة ولا في صلاة الجنازة، ولا ينتقض بالتبسم.
وهذا الحديث محمول على ما دون القهقهة توفيقاً بين الدلائل، مع أنه قيل: إن الضحك ما يُسمع الرجل نفسه ولا يُسمع جيرانه، والقهقهة ما يُسمع جيرانه، والتبسم ما لا يُسمع نفسه ولا جيرانه.
وقال الشافعي: لا ينقض لأنه لو كان حدثاً لما اختُلف فيه بين أن يكون في الصلاة أو خارجها كسائر الأحداث.
قلنا: قال العلامة الشيخ الشلبي في حاشيته على كتاب “تبيين الحقائق شرح كنز الدقاق” ما نصه: “ونحن نقول أن الضحك في غير الصلاة ليس كالضحك في الصلاة، لأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى فتعظُم الجناية منه بالضحك في حالة المناجاة، وصلاة الجنازة ليست بصلاة مطلقة فلا تكون مناجاة، وكذلك سجدة التلاوة، وطبعا المقصود هنا الضحك قهقهة.
ولنا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة المذكورة أعلاه. ومما رُوي في المشاهير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فجاء أعرابي في عينيه سوء، فوقع في بئر عليها خصفة، فضحك بعض من خلفه، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: “مَنْ قَهْقَهَ فَلْيُعِدِ الوُضُوء والصَّلاة، وَمَنْ تَبَسَّمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْه” وهذا الحديث سبق ذِكرُ مثله أعلاه. طعن أصحاب الشافعي في الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه ليس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بئر.
والثاني: أنه لا يُظن بالصحابة الضحك في الصلاة خصوصاً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: هذا الطعن فاسد؛ لأنا ما روينا أن الصلاة كانت في المسجد، علماً أنه كانت في المسجد حفيرة يجمع فيها ماء المطر، ومثلها يُسمّى بئراً، وكذا ما روينا أن الخلفاء الراشدين أو العشرة المُبشَّرين أو المهاجرين الأوَّلين أو فقهاء الصحابة وكبار الأنصار هم الذين ضحكوا، بل كان الضاحك بعض الأحداث أو الأعراب أو بعض المنافقين لغلبة الجهل عليهم، حتى رُوي أن أعرابيّاً بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع).