غالبًا ما يرتبط اسم المدرسة الماتريديّة بعلم الكلام وبعلم أصول الدين في الإسلام بأبي منصور الماتريديّ ، استنادًا الى ما ذكره سعد الدين التفتازاني (ت، 729/1390)، الذي أراد من ذلك الأمر موازاة ابي منصور الماتريديّ بأبي الحسن الأشعريّ، المؤسِّسين لعلم الكلام عند أهل السُّنّة والجماعة. وفي حين أنّ أبا الحسن الأشعريّ جاء تائبًا من عند أهل الاعتزال بإرادة تقويض مذهب أهل التوحيد والعدل، حتى انّه اعتمد ابن حنبل رئيسًا على فكره، الا أنّ الحنابلة نبذوه ولم يعترفوا به واحدًا منهم. اما أبو منصور الماتريديّ فكان واحدًا من مدرسة علماء سمرقند وما وراء النهر، التي كانت تجاهر بتعليم أبي حنيفه وعقيدته في أصول الدين والفقه وتعدّ نفسها جزءًا لا يتجزأ من أهل السُّنّة والجماعة وعنصرًا اساسيًّا من السواد الأعظم للمسلمين.
إلا أنّ اهتمام المدرسة الماتريديّة لم يقتصر على علوم الدين وأصوله ، وان كان ذلك العلم هو الأساسي في كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريديّ وفي كتب أخرى كثيرة مثل مؤلّفات البزدويّ والنسفي وغيرهما. كما أنّ العقيدة الحنفيّة لأهل سمرقند وبالتالي لأبي منصور الماتريديّ كانت انتشرت في القرنين الرابع والخامس هجري )العاشر والحادي عشر ميلادي(، في بلاد ما وراء النهر وفي شرقي خوراسان وفي بلخ وعند الأتراك في آسيا الوسطى بعد أن دخلوا الاسلام مباشرة. الا أن العقيدة الحنفيّة الماتريديّة الكلامية لم تدخل غربي خراسان وما بعدها التي كانت تتبع التعاليم الاعتزالية، إلا بعد وصول السلجوقيين إلى السلطة وتمدّدهم إلى الأصقاع الإسلامية في منتصف القرن الحادي عشر. وما تجدر الإشارة إليه أنّ انتشار العقيدة في الكلام وأصول الدين جاء موازيًا لاهتمام أساسي لموضوع العلوم الفقهية، وذلك يؤكِّد أنّ هذه المدرسة لم تهتم فقط بموضوع علم الكلام، بل إنّ الفقه في أصوله وفروعه، وذلك بَيّن حتى في مؤلفات أبي منصور الماتريديّ، كان شأنًا اساسيًّا لا هامشيًّا، ممَّا يجعل من الفقه علمًا أساسيًّا في الخط الماتريديّ كما سنرى لاحقًا.
ومن علامات اوليّة علم الفقه في المجال الحنفيّ والماتريديّ هو صدور نصّ اساسي في هذا العلم وضعه الإمام سيف السنّة والدين أبو اليسر البزدويّ من القرن الحادي عشر ميلادي (ت 1099 م) كانت باشرت بتحقيق مخطوطه ونشره العالمة ماري برنارد، ثم أكمله، إثر وفاتها في السنة 1994، العالم إريك شومون. ولقد وجدنا تحقيقًا آخر للكتاب نفسه مع الغزير من الحواشي والفهارس المختلفة التي تعزِّز محتوى الكتاب وفائدته، وهو من وضع عبد القادر بن ياسين بن ناصر الخطيب. فهذا الكتاب، كتاب فيه معرفة الحجج الشرعية، هو نموذج مثالي لأهميَّة علم الفقه في حياة المجتمع الإسلامي وحتى على مستوى علماء أصول الدين، مثل ابي اليُسر البزدويّ .
ومن المفارقات التي يجدر الإشارة إليها، أنّ أبي اليُسر البزدويّ يشير في مقدِّمة كتابه أُصول الدِّين إلى أَنَّه وجَدَ للشَّيخ الإمام الزَّاهد أَبي منصور الماتريديّ السَّمرقنديّ كتابًا في علم التَّوحيد على مذهب أَهل السُّنَّة والجماعة « وكان من رؤساء أَهل السُّنَّة والجماعة صاحب كرامات » . ويضيف البزدويّ قائلاً إنَّه ورث عن جدِّه عبد الكريم بن موسى كتابَي أَبي منصور الماتريديّ ، كتاب التَّوحيد وكتاب تأْويلات أَهل القرآن ، وهما الكتابان الوحيدان اللَّذان حفظتهما المكتبة التُّراثيَّة الإسلاميَّة من أَدبيَّات أَبي منصور . إلاَّ أَنَّ البزدويّ يعلِّق في مقدِّمة كتاب أُصول الدِّين فيقول إنَّه أَراد أَن « يضيف في هذا العلم كتابًا مختصرًا على طريقة أَهل السُّنَّة والجماعة » وهنا بالإشارة إلى الماتريديّ « ليقف عليه العامَّة كما يقف عليه الخاصَّة » أَي لجميع القرَّاء من أَهل الاهتمام والاختصاص ، والسَّبب الَّذي دفعه إلى تصنيف الكتاب « ما ظهر في بلادنا من أَحوال أَهل الزِّيغ والبدع وميل الفقهاء إلى التَّعمُّق في معاني الفِقه والخوض في ميادين التَّحقيق ليتشبَّثَ به أَهل السُّنَّة والجماعة فلا يزلُّوا عن الطَّريق الجادَّة فيضلُّوا عن الهدى ».
هذه النَّبذة من كتاب أُصول الدِّين لأَبي اليُسر البزدويّ تؤكِّد على أَنَّ ميل العلماء الطَّبيعيِّ من أَهل السُّنَّة والجماعة في بلاد ما وراء النَّهر وفي خُراسان لم يكن علم أُصول الدِّين أَو علم الكلام أَو علم التَّوحيد بل كان بالأَحرى علم الفِقه ، حتَّى إنَّ أَبا اليُسر البزدويّ الحنفيّ وإن كتب في أُصول الدِّين فهو لم يشذَّ عن القاعدة حيث أنَّه كتب في الفِقه وأُصوله كتبًا ثلاثة على الأَقلّ ، مقلِّدًا بذلك إمام مدرسته في أُصول الدِّين الإمام النُّعمان بن ثابت الملقَّب بأَبي حنيفة الَّذي وضع أُصول الفِقه من ناحية وكتب في أُصول الدِّين من ناحية أُخرى ، كما هو معروف .
يقول الدكتور محمد وفاريشي في مقالة في الفقه الحنفي: » لقد كان أبو حنيفه متكلّمًا ولقد رويت في تحوّله من علم الكلام إلى الفقه عدّة روايات. ونها أنّه كان يجلس للكلام بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان حيث جاءته امرأة يومًا تسأله عن طلاق أمة، فحوّلها إلى حماد على أن تعود إليع ليسمع جوابه. وعندما عادت وأعطته الجواب الشافي، قام لتوِّه ولحق بحلقة حماد وحلّ مكانه إثر وفاته رئيسًا للحنفة. وهذه الرواية ربما تركت أثرها على اتباع المذهب الحنفي حيث إنّ الكلام كان التزامًا ظرفيًا في حين أنّ الفقه كان العلم الدائم.
فعِلمْ الفِقه في معانيه وأُصوله وفي ميادين التَّحقيق فيه هو الَّذي يمكِّن أَهل السُّنَّة والجماعة أَن يظلُّوا محافظين على الطَّريق السَّويّ ، حيث إنَّ الفِقه يبدو عنصرًا مثبِّتًا للدِّين وعامل الوحدة بين المسلمين ، والمقصود هنا هو الفِقه الحنفيّ . أَمَّا علم أُصول الدِّين في منظور البزدويّ ، فهو لا يحيد عن طريقة أَهل السُّنَّة والجماعة » وهي الطَّريقة الَّتي كان عليها نبيّ الإسلام وأَصحابه والصَّالحون » كما يقول .
وفي ختام الكتاب حيث يختصر البزدويّ مواقف مختلف الفرق في بيان المذاهب ، يذكر مرَّة ثانية موقف قومه من علم الكلام فيقول : « إنِّي ذكرت شيئًا قليلاً من المسائل في أُصول الدِّين لأَنَّ أَهل ديارنا كانوا معْرضين عن هذا العلم وكان الغالب فيهم الفِقه وكانوا ينكرون على من يخوض في هذا العلم ، ) أَي علم الكلام( ، ويهجرونه ويستخفُّون به فقلَّ هذا العلم في ديارنا لهذا ، وكان غرضهم (رحمهم الله !) تقوية مذهب أَهل السُّنَّة والجماعة لكي لا يظهر أَهل البِدَع في هذه الدِّيار فإنَّه عسى يشكِّل على غليظ الفهم دلائل مذهب أَهل السُّنَّة والجماعة فيقع في البدعة، فلو أَكثرت من هذا العلم ملَّ النَّاس ، فهجروه ، مقيمًا أَنَّه كان عندي من هذا العلم كثير لا يبلغ كلُّ أَحدٍ منتهاه حتَّى إنَّ الفضلاء من المبتدعة من هذا العلم لو اجتمعوا بأَسرهم فخاصموني خصمتهم بتوفيق الله تعالى وقد أَلزمت كثيرًا من الأشعريّة في مسأَلة التَّكوين والمكوَّن حتَّى تحيَّروا وكانوا من علِّيَّة أَصحاب أَبي الحسن الأشعريّ« . والمعروف أَنَّ للماتريديَّة موقف خاصٌّ بمسأَلة التَّكوين والمكوَّن حيث إنَّ التَّكوين صفة أَزليَّة في الله في حين أَنَّ الأشعريّة تعتبره صفة تابعةً أَو مضافة إلى فعل الخلق ، فالاختلاف في صفة التَّكوين اختلاف في صفة القدرة ووظيفتِها وهذا الاختلاف هو في التَّفاريع ليس إلاَّ . فما يهمُّنا هو هذه الأَوَّليَّة الَّتي يسندها أَهل السُّنَّة والجماعة إلى الفِقه كأَداة لتقوية مذهب أَهل السُّنَّة ولإبعاد البدع عنهم في حين أَنَّ علم أُصول الدِّين والكلام فيه يفتحان الطَّريق أَمام ظهور أَهل البدع . ولا شكَّ أَنَّ الزَّمن الَّذي كان يعيش فيه البزدويّ في القرن الحادي عشر كان يختلف بعض الشَّيء عن زمن الماتريديّ ومعاركه مع أَهل الاعتزال كالكعبيّ وغيره والدَّهريَّة والفلاسفة والقرامطة وأَهل الأَديان بمختلف رُتبهم ، وكلُّ هؤلاء وغيرهم كان لهم الوجود الفعليُّ والقويُّ في بلاد ما وراء النَّهر وخُراسان .
إنّ كلام البزدويّ عن أولويّة علم الفقه في زمنه وعن اهتمام معلميّه بأصول الدين لن يخفي الدور الذي قام به الماتريدي بشكل أوَّلي في مجال العلوم الفقهية، وذلك ظاهر في اكثر من مكان ، ونوجزه كالتالي:
أَوَّلاً : إنَّ الماتريديّ في « كتاب التَّوحيد » وفي « تأْويلات أَهل السُّنَّة » كان مدافعًا وناقدًا وناقضًا في ردوده على أهل الاعتزال والفلاسفة والدهرية وغيرهم، إلاَّ أَنَّه وإن استفاض في علم التَّوحيد فهو قد اشتغل في الفِقه وأُصوله وإن لم تصل إلينا الكتب أَو الكتابان اللَّذان وضعهما في هذا المجال . فالماتريديّ وضع كتاب الجدل في أُصول الفقه ، حيث يبيِّن كيفيَّة استخدام أُصول الفِقه لوضع فروعه ، ممَّا أَثار الكعبيّ المعتزليّ الَّذي وضع كتاب تهذيب الجدل ودفع بالتَّالي الماتريديّ إلى الرَّدِّ عليه في كتاب الرَّدّ على كتاب تهذيب الجدل . أَمَّا الكتاب الثَّاني فهو كتاب مأْخذ الشَّرائع المصنَّف في عداد كتب أُصول الفِقه والَّذي يعود إليه بعض الماتريديّة لاحقًا من دون أَن يبقى أَثر لهذا المصنَّف.
ثانيًا : ليس من النَّادر أَن نجد في كتاب التَّوحيد أَو تأْويلات أَهل السُّنَّة عبارة قال الفقيه : وقد وجدت في كتاب التَّوحيد ستَّة عشر مرَّة عبارة قال الفقيه بالإشارة إلى الماتريديّ . ويعطي الماتريديّ مشروعيَّة لهذه العبارة حيث يميِّز بين التَّأْويل والتَّفسير فيقول في مقدِّمة تأْويلاته إنَّ الفرق بين التَّأْويل والتَّفسير هو التَّالي . فالتَّفسير هو عمل أَصحاب النَّبيّ في حين أَنَّ التَّأْويل ، بما فيه من حُجج عقليَّة ، هو من عمل الفقهاء ، وهذا مردُّه إلى أَنَّ أَصحاب النَّبيّ شاهدوا المشاهد وعرفوا كيف نزل القرآن . فلهذا السَّبب ، إنَّ التَّفسير ، أَي تفسير الآية ، هو أَهمُّ من التَّأْويل لأَنَّ الأَصحاب عاينوا وشاهدوا ولأَنَّ التَّفسير يأْخذ بالواقع كلِّه . أَمَّا التَّأْويل فهو يقوم بشرح ما يبقى مبهمًا . فالتَّأْويل يقضي بتوجيه الكلام نحو الوجهة الممكنة . والتَّأْويل بالتَّالي هو مهمَّة الفقيه ، وهي مهمَّةٌ تقوم على النَّظر وليس له الوقع كما هو الأَمر على صعيد التَّفسير» [14]. نلحظ في كتاب تأْويلات أَهل السُّنَّة ، أَي تفسير القرآن للماتريديّ ، نشاطًا فقهيًّا واضحًا يستند إلى الأُصول . فعند تأْويله الآية السَّادسة عشر من سورة البقرة : « بئسمًا اشتروا به أَنْفُسَهُم » ، يصل الماتريديّ إلى رأْي فقهيٍّ في البيع فيقول : « كلُّ من ترك لآخر شيئًا له ببذلٍ يأْخذه منه فهو بيع ، وإن لم يتكلَّموا بكلام البيع » وعند تأْويله الآية الرَّابعة والثَّلاثين « وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ، إلاَّ إبليس أَبى » ، يعود الماتريديّ إلى سنَّة النَّبيّ حيث ثبُتَ نسخ السُّجود للخلق بما روي عن النَّبيّ : « لو كان يحلُّ لأَحدٍ أَن يسجد لأَحد لأُمرت المرأَة أَن تسجد لزوجها ، وبالتَّالي السُّجود لآدم » تمَّ نسخه بالسُّنَّة حيث نهى الرَّسول عن ذلك وحرَّم فدلَّ أَنَّ السُّنَّة تنسخ الكتاب .
وكذلك عند ذكره الآية الثَّامنة والأَربعين من السُّورة نفسها : واتَّقوا يومًا لا تُجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا ، تفسيرُه أَنَّ الله (عزَّ وجلَّ !) يذكِّر النَّاس عظمَ نعمه عليهم ليشكروا له ، وهو استعادة لما استخرجه أَبو حنيفة في مجال الفِقه : « إنَّ الولد يصير مشتومًا مقذوفًا ، بشتم والديه » . وهذه الآراء الفقهيَّة ليست سوى نموذجًا محدودًا لما يحتويه كتاب التَّأْويلات من عملٍ فكريٍّ يدخل في إطار الفِقه عبادةً ومعاملة .
ثالثًا: وإن نظرنا نظرة فاحصة على تفسير الماتريديّ في جزئه الأول، لوجدنا أنّ اهتمام الماتريديّ في هذا التفسير يتناول مواضيع متفرِّقة، إلا أنّ العلوم الفقهية لها مكانها ومكانتها في هذا المؤلِّف، حيث أنّ مجموع الاراء الفقهية في هذا الجزء من تفسير الفاتحة وسورة البقرة الآيات 1 الى141 لا تقل عن ثلاثين رأيًا، ممَّا يؤكِّد الرأي أنّ الماتريدي بنفسه كان فقيهًا وذلك من ألقابه القديمة، عاملاً في الفقه وحاكمًا وعارفًًا فيه. ومن الآراء الفقهية اخترنا بعضها لتأكيد دوره في هذا المجال : الجهر بالبسملة في الصلاة (ص6)، حكم قراءة الفاتحة في الصلاة (ص7)، حكم الجهر في الاعراف (ص10)، الاستقلال على جواز البيع بغير لفظ البيع (ص52،136)، النهي عن السجود لأحد من دون الله وان لم يكن بنفسه عبادة (98)، السّنّة تنسخ الكتاب (ص98)،الاستدلال على ان الولد يصير مشتومًا بشتم والديه (147)، الاستدلال على أنّ المواريث لا تصرف إلى غير الآباء إلا بعد انقطاع أهل الاتصال بالآباء (ص171)، فعل الحسن فرض واجب على كل احد (207)،صلة القرابة والمحارم والإنفاق عليهم لازم (ص207)،إبطال خبر الخاص فيما يبلى به العام (ص 234)، السحر على قسمين، قسم يكذِّبه صاحبه وقسم لا يكذِّبه (ص 237)، حكم قتل الساحرة وقتل الساحر (ص 238)،آراء العلماء في النسخ (ص 244)، الاستدلال على لزوم الدليل على النافى (ص255)، نقض قول الشافعي في جهة القبلة (ص262)، من قَتَل قتيلا ثمَّ التجأ إلى الحرم فإنّه لا يقتل ما دام فيه (ص282)، حكم الطواف للقادم إلى البيت (ص 285)، حكم بيع الطعام من الكفرة (ص 287)، جواز تأخير البيان عن وقت قرع السمع الخطاب (ص 291)،الحكمة في الرمل (ص292)، الأصل في فرض العبادة على الإنسان (ص 293)، الاستدلال على أنّ العبد قد يُسأل عن زّلة لم يتعمَّدها ولم يقصدها (ص300)، علل تسمية بعض مناسك الحج (ص 304) الفرق بين الصلاة والحج (ص305).
رابعًا: يقول الحنفيّان الماتريديَّان الإمام أَبو اللَّيث السَّمرقنديّ من القرن العاشر وعبيد الله المحبوبيّ من القرن الرَّابع عشر استنادًا إلى سعد الدِّين التَّفتزانيّ في كتابه شرح التَّلويح على التوضيح لمتن التنقيح أَنَّ أَبا منصور الماتريديّ أَسهم إسهامًا أَساسيًّا في صياغة أُصول الفِقه من منظور أَبي حنيفة ، وهذا ما يُظهر أَنَّ نصَّي أَبي منصور كان لهما الوقع في إطار إعادة تجديد صياغة المنظومة الفقهيَّة الحنفيّة .
خامسًا: يؤكِّد لنا موقع أَبي منصور الماتريديّ صاحب المدرسة الوسطيَّة في علم أُصول الدِّين أَبو اليُسر البزدويّ في مؤلَّفه الَّذي ذكرناه ذي العنوان كتابٌ فيه معرفة الحجج الشَّرعيَّة. ففي هذا المؤلَّف في أُصول الفِقه في بُعْده الحنفيّ يذكر أَبو اليُسر البزدويّ أَبا منصور الماتريديّ مرَّتين إن لم يكن أَكثر في متن نصِّه. ففي الفصل الثَّالث وهو في معنى اللَّفظ أَو البيان أَو الحكم القرآنيّ العام، هل يوجب العمل فيه بطريق الإحاطة واليقين أَم يوجب العمل بعمومه بغالب الرَّأْي والظَّنِّ لا بطريقة الإحاطة واليقين ؟ فأَبو منصور الماتريديّ، يقول البزدويّ ، هو من القائلين بالعمل بعمومه بغالب الرَّأْي والظَّنِّ لا بطريقة الإحاطة واليقين . فعلى سبيل المثال إذا تحدَّث القرآن عن أَهل الذمّة كمشركين فإنَّ المقصود هو المحاربين من المشركين ليس إلاَّ بحسب البزدويّ وهنا يخالف كتاب الحجج رأْي الماتريديّ الَّذي يرى في ذلك القول قولاً عامًّا يطال المشركين جميعًا وذلك بغالب الرَّأْي والظَّنِّ أَي انطلاقًا من موقف الجماعة لا موقف الإحاطة الفرديَّة واليقين المبنيّ على التَّأْويل. وهكذا يقف البزدويّ معارضًا الفقيه الماتريديّ وفي المرَّة الثَّانية ، يتَّفق البزدويّ مع الماتريديّ في موضوع تخصيص العلَّة حيث يقول في الفصل الثَّالث من الكلام في القياس : « وجماعة من أَصحابنا (رحمهم الله !) قالوا إنَّ القول بتخصيص العلَّة سفه » . وفي هذا الإطار ، يرجع البزدويّ إلى أَبي منصور الماتريديّ بوصفه رئيسًا لهؤلاء الأَصحاب فيقول : والشَّيخ الإمام الزَّاهد أَبو منصور الماتريديّ رئيس هؤلاء قد قال : من قال بتخصيص العلَّة فقد وصف أَفعال الله تعالى وأَحكامه بالتَّناقض لأَنَّ العلَّة الشَّرعيَّة لا تصير علَّةً إلاَّ بجعل الله تعالى إيَّاها علَّةً والله تعالى يجعلها علَّة الحُكم ، وما لم يجعله صاحب الشَّرع علَّة لا يجوز جعله علَّة . والموضوع هنا هو غاية في الأَهميَّة إذ إنَّ السُّؤال الَّذي يكمن وراء القضيَّة هو التَّالي : هل يفسَّر صوم النَّاسي أَن يكون صومَه صحيحًا؟
فالبزدويّ بالعودة إلى الماتريديّ يقول : إذا أَعملنا التَّخصيص : يكون صوم النَّاسي فاسدًا لأَنَّه أَكل ، أَمَّا إن قلنا أَنَّ عامد الأَكل هو الَّذي يكون صومه فاسدًا ، يكون صاحب الشَّرع قد قال بأَنَّ الأَكل المطلق والشُّرب المطلق لا يكون علَّة فساد الصَّوم.
إنَّ ذكر الماتريديّ الفقيه في « كتاب فيه معرفة الحجج الشَّرعيَّة » يقودنا إلى الإطِّلاع على هذا المرجع الثَّمين في أُصول الفِقه الحنفيّ ، وأُسرة البزدويّ معروفة كما أَسلفنا القول لارتباطها بإرث الماتريديّ بخصوص أُصول الدِّين . فأَبو اليُسر البزدويّ هو أَخو أَبو العُسر البزدويّ الَّذي توفَّاه الله في السَّنة 1098 م / 730 هـ وواضع كتاب الوصول إلى معرفة الأُصول، وذلك يعني أُصول الفِقه ، وهو من النُّصوص الأَساسيَّة في مكتبة المذهب الحنفيّ ، حتَّى إنَّ التَّقليد يتحدَّث عن أُصول البزدويّ لأَنَّ كتابه تحوَّل إلى مرجعٍ مدرسيٍّ وإلى مرجعٍ في يد الطُّلاَّب والمدافعين عن المذهب . والمعروف أَيضًا سهولة الأُسلوب عند أَبي العُسر في حين أَنَّ أُسلوب أَبو اليُسر هو أُسلوب صعب المنال في كتابة الأُصول كما يتبيَّن لنا في مؤلَّفه الحجج ، إلى أَنَّ لقب أبو اليُسر ذهب إلى من هو شائك صعبُ المنال في حين ذهب لقب العُسر إلى من هو شائقٌ سهل المنال.
كتاب القاضي أَبي اليُسر البزدويّ يؤكِّد لنا أَهمِّيَّة استمراريَّة النَّشاط الفقهيّ الحنفيّ في بلاد ما وراء النَّهر ، وذلك مردُّه إلى حاجة أَهل السُّنَّة والجماعة إليه في معاملاتهم وعباداتهم ، وكذلك لضرورة تكيُّف الفِقه مع الأَوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المستجدَّة ، وإلى النَّظر إلى الفِقه كعنصر جامع وموحِّد للمسلمين عبر الفروع والأَحكام . فتلك الأَسباب دفعت أَبا اليُسر إلى تصنيف كتابٍ صغيرٍ مختصر في أُصول الفِقه ، ثمَّ وضع كتابًا وسطًا : ثمَّ غيَّر إذ رأَى التَّغيُّر ضدَّ الصَّواب ثمَّ بدا له أَن يجمع كتابًا ثالثًا في أُصول الفِقه على قدر حاجة الفقهاء لقِصَر الأَعمال وكثرة الحوادث والأَشغال ، وهذه الأُمور يذكرها أَبو اليُسر في مقدِّمة كتاب الحجج ، كما لو أَنَّ الفِقه يخضع لحركيَّه هامَّة ، مستديمة.
فما يميِّز كتاب الحُجَج بالنِّسبة إلى بعض كتب أُصول الفِقه في زمانه كأُصول أَبو العُسر البزدويّ وغيرهم أَنَّ أَبا اليُسر أَراد أَن يغيِّر علمًا تقليديًّا يأْخذ بآراء السَّلف إلاَّ أَنَّه يفتح الباب أَمام الاجتهاد والجديد . فالكتاب يأْخذ عن مؤسِّسي المدرسة الحنفيّة ويحترم هؤلاء ويجلُّ مكانتهم وسلطتهم أَمثال أَبي حنيفة وأَبي يوسف والحسن الشِّيبانيّ ، إلاَّ أَنَّه لا يستشهد بمعاصريه أَمثال الجصَّاص والكَرخيّ والدَّبوسيّ في الإطار العراقيّ . والكتاب لا يتقيَّد ببنية كتاب أُصول الفِقه التَّقليديَّة ، فيبتعد عنها ويتناول بعض المواضيع الهامَّة المؤقَّتة ، إلاَّ أَنَّه يغرق أَحيانًا في التَّطويل والشَّرح المتستفيض الصَّعب المنال ، في حين أَنَّه يتبع ما يميِّز المذهب الحنفيّ عامَّة حيث إنَّه يربط ربطًا شديدًا بين أُصول الفِقه من ناحية وفروعه وأَحكامه من ناحية أُخرى ، فكلُّ نظرٍ في أُصول الفِقه تتبعه حكمًا آراءُ فقهيَّةٌ عمليَّةٌ لتوضيح ماهيَّة الأُصول ودورها في إنتاج المعرفة. والعكس صحيح حيث إنّ المدرسة الحنفية كانت تستنبط الأصول والمبادئ من الأحكام الفرعية التي كان يطلقها الفقهاء.
فبالإضافة إلى هذه العلاقة المتينة بين أُصول الفقه وفروعه وأَحكامه ، يتميَّز كتاب البزدويّ بالكثير من الأَمثلة، فهو يشدِّد على مناصرته واتِّباعه أَصحاب الرَّأْي أَي أَصحاب أَبي حنيفة ، إلاَّ أَنَّه كما يقول ، وإن كانوا يعملون بالرَّأْي والنَّظر فهم يتميَّزون بمعرفة القلوب . يقول : سُمِّي أَصحاب أَبي حنيفة (رحمهم الله !) أَصحاب الرَّأْي وقد حسب بعضهم أَنَّه اسم شَبَه وهو من أَحسن الأَسماء حيث اختصُّوا بمعرفة القلوب . ويدافع عن أَصحاب الرَّأْي الَّذين نعتهم بعض السَّلف أَعداء الدِّين فيقول : » يجب أَن يثبتوا مَنْ هُمّ ومن قال هذا على أَنَّ العقلاء كأَنَّهم أَصحاب الرَّأْي فإنَّ الرَّأْي هو الرُّؤية والمراد منه رؤية القلب وكلُّ من كان عاقلاً كان له رؤيةَ القلب ونحن سُمِّينا بهذا الاسم وهو من أَحسن الأَسماء والله أَعلم ، وربَّما أَنَّ من يشير إليهم البزدويّ من السَّلف هم أَهل الحديث ، وهو ينقض مواقفهم لا فقط عن نظر بل عن معرفة لأَنَّ أَبا اليُسر البزدويّ نفسه كان معلِّمًا للحديث وظروفه ومقاييسه «. وربَّما كان المقصود أَيضًا بملاحظة البزدويّ الشَّافعيِّين في الفِقه وهم كانوا في حالة تقدُّم في تلك الأَيَّام حتَّى إنَّ نيسابور في خراسان كانت انتقلت برمَّتها إلى المدرسة الشَّافعيَّة في نهاية القرن الثَّاني عشر .
والأَمر الثَّاني الَّذي يمتاز به كتاب البزدويّ هو تلك المقدِّمة الَّتي يحدِّد فيها معنى الفِقه وتسمياته . فهو يحدِّد الفِقه كالعلم بما عُلِّقت به الأَحكام الشَّرعيَّة المودعة في كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله وإجماع الأُمَّة فإنَّ أُصول الفِقه هي هذه الأَشياء الثَّلاثة سُمِّيت أُصول الفِقه لأَنَّ الفِقه فيها . وبعد هذا التَّحديد المعروف يستعرض البزدويّ تسميات الفِقه فهو » الحكمة الَّتي هي الفِقه وهو العلم بتحقيق الأَشياء . ومن وقف على هذه المعاني سُمِّي فقيهًا ومن حفظ المسائل والوثائق ولم يقف على معانيها يُسمَّى فقيهًا مجازًا لحفظه ما ثبُت بالفقه ». والفِقه سُمِّي معنى وعلَّة ودليلاً ونظرًا ورأْيًا وقياسًا وحجَّةً وبرهانًا وسببًا ويسمَّى أَيضًا معقولاً لأَنَّه لا يُعرف إلاَّ بالعقل ويسمَّى كذلك نُكتةً لأَنَّه أَثَّر شرعًا حيث يقال: « نَكَتَ الأَرضَ بالعصا » إذا ضربتها في الأَرض على وجهٍ أَثَّر فيها . وهذا النَّوع من العلم يقول البزدويّ يكون علم إحاطة ويقين وقد يكون علم غالب الرَّأْي والظَّنّ.
وإذا نظرنا إلى بنية الكتاب، نرى البزدويّ يقسِّم محتواه إلى أَربعة فصول هي الكلام في كتاب الله تعالى والكلام في السُّنَّة والكلام في الإجماع وأَخيرًا الكلام في القياس وهو المعاني . فالفصلان في كتاب الله والقياس هما طويلان ومتجانسان في الكمِّيَّة في حين أَنَّ الفصل في السُّنَّة هو في الدَّرجة الثَّالثة من ناحية عدد الفصول يليه أَخيرًا الفصل في الإجماع . من تلك الإحاطة ، نجد أَنَّ البزدويّ القاضي يشدِّد على موقع الكتاب كمصدرٍ أَساسيٍّ للفِقه يوازيه الاعتماد على القياس العقليّ بمختلف أَشكاله وضروبه كحجَّة نظريَّةٍ ، فاشتدَّ دور هذا الأَصل بالنِّسبة إلى السُّنَّة وإجماع الأُمَّة في حين أَنَّ الاستحسان العقليَّ كأَصل من أُصول الفِقه على ما أَورده كتاب الفِقه الأَكبر للإمام أَبي حنيفة ، لم يرد ذكره على الإطلاق في حُجج البزدويّ وكأَنَّ القياس العقليَّ الأَرسطيَّ هو الَّذي أَصبح الطَّريق السَّويَّ والأَساسيَّ للوصول إلى اليقين .
وفي كتاب حجج البزدويّ الكثير من المسائل الفقهية موضوع مناقشة ومحاججة،فاق عددها حججه المئة والخمسين مسألة في مختلف المواضيع كالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والبيوع والضمان والنكاح والطلاق والخلع والعتاق والحدود والصيد والايمان والكفاءات والشهادات والنذر وتصرفات المريض.
في ختام هذه المداخلة ، أَستخرج الملاحظات التَّالية :
أَوَّلاً: لقد ذكرنا أَوليَّة الشَّرع وبالتَّالي العمل الفقهيّ الحنفيّ بالنِّسبة إلى علم الكلام ، الَّذي مع مرِّ الأَيَّام يبدو علمًا عارضًا وجدليًّا في حين أَنّ علم الأُصول أَي أُصول الفِقه هو العلم المستديم الَّذي تحتاج إليه الجماعة . إلاَّ أَنَّ هذا العلم لا يبدو جامدًا على الإطلاق بل هو حركة دائمة ، بين مدٍّ وجزر ، بين تضييق وانفراج ، بين توقيف واجتهاد تبعًا لأَحوال الجماعة على الصُّعد السِّياسيَّة والدِّينيَّة والاقتصاديَّة وضرورة إعادة تخريج الأَحكام في المعاملات والعبادات والسُّلوكيَّات في أَبسط معانيها وأَحوالها على الصَّعيد البشريّ .
ثانيًا: ما يمِّيز الفِقه الحنفيّ أَنَّه وإن كان قد تثبت في نصوصٍ ومؤلَّفات فهو قد تداخل عند الكثير من تابعي المذهب في ثنايا كتب أَصول الدِّين وتفسير القرآن، ونموذج أَبي منصور الماتريديّ هو نموذج بليغ المعنى في هذا المجال. وكذلك فإنَّ النُّصوص النَّقديَّة الحنفيّة وهذا ماثل في عدد منها، لا تغرق في العمل النَّظريِّ من ناحية الأُصول بل إنَّها تستدرج الأُمور العمليَّة والحالات الوضعيَّة الحسِّيَّة للانطلاق منها بغية تثبيت الأُصول والتَّعريف بها، فالعمل القياسيّ هو في الظَّاهر استدلاليّ منطلقًا من الأُصول والمبادئ إلاَّ أَنَّه استقرائيٌّ في الوقت عينه حيث إنَّ الواقع هو الَّذي يدلُّ على استخراج الأَحكام الفروع والحلول العمليَّة في ضوء الأُصول.
ثالثًا وأَخيرًا: إنَّ العودة إلى كتب تاريخ الفِقه تدلُّ على موقع الفقهاء إن كانوا مخرجين للمعاني وإن كانوا على علمٍ بها في التَّاريخ الإسلاميِّ وتدلُّ أَيضًا على عددٍ وفيرٍ من العلماء الَّذين كرَّسوا حياتهم ووقتهم للعلم بأُصول الفِقه وفروعه وكذلك كيف أَنَّ التَّلمذة على الإمام الفقيه هي موقع اجتماعيٌّ بحدِّ عينه وكيف أَنَّ الكثير من التَّلامذة سبقوا معلِّميهم وتجاوزوهم شهرةً وعلمًا ولنا في البزدويّ خير مثال. فلقد اختفت حججه عن العيان لمدَّةٍ طويلةٍ قبل نشرها وطبعها علميًّا في نشرة استشراقيَّة ثمّ في تحقيق أكاديمي، لأَنَّ تلميذيه عمر بن محمَّد النَّسَفيّ (ت 1142-1143) ومحمَّد ابن أَحمد السَّمرقنديّ (ت 1144-1145) ذاعت شهرتهما وأَصبحا مرجعًا لمعاصريهم. إلاَّ أَنَّ القاعدة الَّتي تطبَّق على البزدويّ وتلميذيه تطبَّق أَيضًا على وضعيَّة الفقهاء، جيلاً بعد جيل، فالفِقه وإن كان على أُصول ثابتة كالكتاب والسُّنَّة والقياس، فهو يتطوَّر دومًا للإجابة على ضروريَّات الحياة، وربَّما وصل يومًا إلى تجديد ذاته بذاته في إطار التَّوجُّه نحو المزيد من الإبداع ضمن الاجتهاد.
المصدر: الدكتور سليم دكاش، رئيس جامعة القديس يوسف – بيروت واحد المستشرقين المهتمين بالشأن الإسلامي