الاستناد إلى الرأي في تقرير الأحكام الشرعية ثار حوله جدل طويل، ونقاش كبير، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه محسوبين على مدرسة الرَّأي، ولكن ما الرأي الذي جرى الكلام حوله؟ أهو القياس الذي هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم، أم هو أعم من ذلك؟
بدايةً، إن تخصيص الحنفية بهذا الاسم لا يصح إلا بمعنى البراعة البالغة في الاستنباط، فالفقه حيثما كان يصحبه الرأي، سواء كان في المدينة أو في العراق، وطوائف الفقهاء كلهم إنما يختلفون في شروط الاجتهاد، بما لاح لهم من الدليل، وهم متفقون في الأخذ من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا يقتصرون على واحد منها. وأما أهل الحديث فهم الرواة النقلة وهم الصيادلة، كما أن الفقهاء هم الأطباء كما قال الأعمش، وقد رُوي عنه في كتاب المبسوط للإمام السَّرخسي أنه قال للإمام أبي حنيفة: “…يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، وأنت أيها الرجل أخذت بكلا الطرفين”. فإذا اجترأ على الإفتاء أحد الرواة الذين لم يتفقهوا، يقع في مهزلة، كما نص الرامهرمزي في “الفاصل” وابن الجوزي في “التلبيس” و”أخبار الحمقى” والخطيب في “الفقه والمتفقه”، على نماذج من ذلك، فذكر مدرسة للحديث هنا مما لا معنى له. قال سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في “شرح مختصر الروضة” في أصول الحنابلة: “واعلم أن أصحاب الرأي بحسب الإضافة، هم كل من تصرف في الأحكام بالرأي، فيتناول جميع علماء الإسلام، لأن كل واحد من المجتهدين لا يستغني في اجتهاده عن نظر ورأي، ولو بتحقيق المناط، وتنقيحه الذي لا نزاع في صحته، وأما بحسب العلمية فهو في عرف السلف من الرواة بعد محنة خلق القرآن، علم أهل العراق، وهم أهل الكوفة، أبو حنيفة، ومن تابعه منهم… وبالغ بعضهم في التشنيع عليه… وإني والله لا أرى إلا عصمته مما قالوه، وتنزيهه عما إليه نسبوه، وجملة القول فيه: إنه قطعاً لم يخالف السنة عناداً، وإنما خالف فيما خالف منها اجتهاداً، بحجج واضحة، ودلائل لائحة، وحججه بين أيدي الناس موجودة، وقلَّ أن ينتصف منها مخالفوه، وله بتقدير الخطأ أجر، وبتقدير الصواب أجران، والطاعنون عليه إما حُسّاد أو جاهلون بمواقع الاجتهاد، وآخر ما صح عن الإمام أحمد رضي الله عنه إحسان القول فيه، والثناء عليه، ذكره أبو الورد من أصحابنا في كتاب أصول الدين”. (نصب الراية تخريج أحاديث الهداية)
إن المتتبع لمعنى كلمة الرأي في عصر الصحابة والتابعين يجدها عامَّة لا تختص بالقياس وحده، بل تشمله وتشمل ما سواه، ثم إذا نزلنا إلى ابتداء المذاهب نجد فيها هذا العموم أيضاً، ثم إذا توسطنا في عصر المذاهب نجد كل مذهب يختلف في تفسير الرأي الجائز الأخذ به عن المذاهب الأخرى. (حاشية ابن عابدين بتحقيق الشيخ عادل عبد الموجود و الشيخ علي معوّض)
فلقد وُجد من لدن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الفقهاء اشتهروا بالرأي، وجماعة اشتهروا بالرواية فكان من فقهاء الصحابة من اشتهر بالرأي وجماعة منهم اشتهروا بالحديث وروايته، وكذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة المجتهدون أبو حنيفة، ومالك، وفقهاء الأمصار، منهم من اشتهر بالرأي، و منهم من اشتهر بالحديث، ولنبين ذلك بعض التبيين متوخين الإيجاز: يقول الشهرستاني في الملل والنحل: “إن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدد ومعلم قطعاً أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك أيضاً ، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعاً أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد؛ ومن أجل ذلك كان الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أمام حوادث لا تتناهى، ولا تحصر وفي أيديهم كتاب الله عز وجل، والمعروف من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم فلجئوا إلى الكتاب يعرضون عليه ما جد من حوادث، فإن وجدوا حكماً صريحاً حكموا به، وإن لم يجدوا في الكتاب الحكم واضحاً اتجهوا إلى المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثاروا ذاكرات أصحابها ليعلنوا حكم النبي صلى الله عليه وسلم في أمثال قضاياهم، فإن لم يكن بينهم من يحفظ حديثاً اجتهدوا آراءهم، ومثلهم في ذلك مثل القاضي المقيد بنصوص قانون إذا لم يجد في النص ما يحكم به في قضية بين يديه طبق ما يراه عدلاً وإنصافاً”. (المبسوط للسرخسي بتحقيق أبي عبد الله محمد اسماعيل الشافعي)
هكذا كانوا يسيرون، يعرضون القضية على كتاب الله ثم على السنة، وإلا فالرأي، ولقد جاء في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري: “الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب أو سنة، اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك”. (المبسوط للسرخسي)
قيل عن الرأي الذي أثر عن الصحابة والتابعين: “ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات (العلامات)” . وأخذ الصحابة بالرأي، ولكن اختلفوا في مقدار أخذهم، ففريق أكثر منه، وفريق أخذ به قليلاً، وكان يغلب عليه التوقف إن لم يجد نصّاً من كتاب أو سنة مُتبَعة. (حاشية ابن عابدين)
والحق في أمرهم -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يتفقون في الاعتماد على الكتاب والسنة المعروفة إن وُجدت، فإن لم يجدوا سنة معروفة عندهم اتجه المشهورون من فقهائهم إلى الرأي، ولقد كان بعضهم يتشكك في حفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فتواه في الأمر، فيُؤثر أن لا يحدث، وأن يفتي برأيه خشية أن يقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يُروى أن عمران بن حصين كان يقول: “والله إن كنت لأرى أني لو شئت حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين متتابعين، ولكن أبطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويتحدثون أحاديث، ما هي كما يقولون، وأخاف أن يُشبّه لي كما شُبّه لهم”. وقال أبو عمرو الشيباني: “كنت أجلس إلى ابن مسعود حولاً (أي سنة)، لا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استقلته رعدة، وقال هكذا، أو نحو ذا أو قريب من ذا”. وكان عبد الله بن مسعود هذا يؤثر الفتوى برأيه ويتحمل تبعته إن كان خطأً عن أن يقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد قال بعد أن أفتى في مسألة برأيه: “أقول هذا برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان”. ولقد كان يطير فرحاً إذا وافق رأيه حديثاً نقله بعض الصحابة، كما هو المشهور في مسألة المفوضة التي قضى لها بمهر مثلها، فشهد بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بمثل ما قضى به. (المبسوط للسرخسي)
وإن الراجع لفتاوى الصحابة والتابعين، ومن سلك مسلكهم، يفهم من معنى الرأي ما يشمل كل ما يفتي فيه الفقيه في أمر لا يجد فيه نصّاً، ويعتمد في فتواه على ما عُرف من الدين بروحه العام، أو ما يتفق مع أحكامه في جملتها في نظر المفتي، أو ما يكون مشابهاً لأمر منصوص عليه، فيُلحق الشبيه بشبيهه، وعلى ذلك يكون الرأي شاملاً للقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، والعرف. (حاشية ابن عابدين)
وقد كان أبو حنيفة وأصحابه يأخذون بالقياس والاستحسان والعرف، ومالك وأصحابه يأخذون بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ولقد اشتُهر الأخذ بالمصالح المرسلة في ذلك المذهب، ولذلك كانت فيه مرونة، وقابلية لكل ما يجد في شؤون الناس في العصور المختلفة، مع أنه مذهب قد قلَّل من القياس، ولم يأخذ به كثيراً. (حاشية ابن عابدين)
وكذلك الاستحسان قد اتسع له المذهب المالكي، حتى لقد قال فيه مالك: “إنه تسعة أعشار العلم”، ولكن ذلك كله إذا لم يكن نصٌّ، ولا فتوى صحابي، ولا عمل لأهل المدينة. (حاشية ابن عابدين)
جاء الشافعي فوجد ذلك الاستدلال المرسل للأحكام من غير نص يعتمد عليه، فلم يأخذ بذلك الاتجاه غير المُقيد في استنباط الأحكام، ورأى أنه لا رأي في الشريعة إلا إذا كان أساسه القياس، بأن يُلحق الأمر غير المنصوص على حكمه بالأمر الآخر المنصوص على حكمه، والرأي في هذا الحال حمل على النص، وليس بدعاً في الشرع. أما الاستدلال المطلق والتعليل المطلق للأحكام من غير البناء على العلة في الأمر المنصوص على حكمه فهو البدع في الشرع، ولذلك قال من استحسن فقد شرَّع ولقد وضع للقياس ضوابطه وموازينه، ودافع عنه وأيده، حتى فاق الحنفية في تحريره وإثباته، وحتى لقد قال الرازي في ذلك: “والعجيب أن أبا حنيفة كان تعويله على القياس، وخصومه كانوا يذمونه بسبب كثرة القياسات، ولم يُنقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنه صنف في إثبات القياس ورقة، ولا أنه ذكر في تقريره شبهة فضلاً عن حُجّة، ولا أنه أجاب عن دلائل خصومه بإنكار القياس، بل أول من قال في هذه المسألة وأورد فيها الدلائل هو الإمام الشافعي”. (حاشية ابن عابدين)
كتبه: أحمد الأتب