المذهب السائد في الأحكام المعمول بها في المحاكم الشرعية السنية في لبنان هو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
هو الإمام أبو حنيفة النعمان إمام المذهب الحنفيّ النعمان بن ثابت بن زُوطَى مولى تيم الله بن ثعلبة، كنيته: (أبو حنيفة)، ولقبه: (الإمام الأعظم)، ونسبته: (الكوفي) لأنه نشأ في الكوفة، وهو من أتباع التابعين.
وأغلب المؤرخين على أن الإمام أبا حنيفة ولد بالكوفة سنة (80) هجرية، وتوفي ببغداد سنة (150) هجرية، وعاش نحو سبعين سنة، منها (52) سنة في العصر الأموي ونحو (18) سنة في العصر العباسي، وهو إمام أصحاب الرأي وفقيه أهل العراق ويُنسب إليه المذهب الحنفي.
التأثر السياسي للإمام أبي حنيفة في حقبة حياته
نشأ الإمام أبو حنيفة في ولاية الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على العراق، فقد توفي الحجّاج وعُمْرُ أبي حنيفة خمسة عشر عاماً، فرأى قسوته ومعاملته للثائرين وحروبه وتسلطه على العراقيين، وكان شاباً أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز، سمع بعدله وشاهد آثاره، ورأى تدهور الأمويين، وشاهد بدء الدعوة وسايرها حتى تمت لهم، وقد كان العراق وما إليه مهداً لهذه الدعوة، وكان مساهماً في حرب الأمويين، وشاهد بعد الحجّاج يزيد بن الملهب أميراً على العراق يحكم الناس حكماً عربياً عصبياً، كما شاهد إمارة خالد بن عبد الله القسريّ ونصر بن يسار وما كان فيهما من فتن.
ورأى انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين على يد قومه من الفرس، ورأى خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب على المنصور، وقالوا إنه عطف على محمد وكان ميله معه.
ورأى استقرار الأمر في يد العباسيين، وبناء المنصور لبغداد، وتحول أبهة الدنيا وحضارتها وجمالها إليها لتكون عاصمة الدولة الإسلامية، وتوفي رحمه الله تعالى في خلافة المنصور ….، كل هذه الأحداث مرت على أبي حنيفة وأعمل فيها فكره، وأثرت في نفسه آثارُها المختلفة، وساهم في بعضها، وكان خريجها والناشئ في أحضانها والمنصهر بتجاربها.
بدأ الإمام أبو حنيفة في نشأته الأولى بالاشتغال بعلم الكلام، وكان يجلس في حلقة المتكلمين بمسجد الكوفة، ولما بلغ في ذلك مبلغاً كبيراً تحول إلى الفقه، وقد أكسبه علم الكلام قوة في المناظرة وقدرة على المنطق ومراناً على الأسلوب العقليّ في التفكير غير أسلوب المحدثين، فإذا كان المحدثون يكتفون في الحديث ببحث الرواة، فالمتكلمون يتجاوزون ذلك أيضاً إلى النقد الخارجي وهو موافقة الحديث لمبادئ الإسلام العامة وأصوله الكلية، يروى عنه أنه قال: (كنت رجلاً أعطيت جدلاً في الكلام، فمضى دهر فيه أتردد وبه أخاصم وعنه أناضل، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرها بالبصرة، فدخلت البصرة نيفاً وعشرين مرة، منها ما أقيم سنة أو أكثر أو أقل، وكنت قد نازعت طبقات الخوارج والصفرية وغيرهم، وكنت أعد الكلام أفضل العلوم، ثم علمت أنه لو كان فيه خير لتعاطاه السلف الصالح فهجرته).
درس الإمام أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وكانت مدرسة لها رجالها ولها رأيها، فإمام هذه المدرسة ابن مسعود وهو فقيه جليل تأثر بعمر بن الخطاب في حريته وبعد نظره، وكان لابن مسعود تلاميذ عدة أبرزهم: علقمة بن قيس المتوفى سنة (62) هجرية، وهو الذي حمل علمه وفقهه، ومسروق بن الأجدع المتوفى سنة (63) هجرية، الذي خلف لأهل العراق فتاوى كثيرة كان يستفتى فيها، وشريح الذي مارس القضاء نحو ستين سنة في العصر وتوفي سنة (78) هجرية، وعن هؤلاء الأعلام تلقى إبراهيم النخعيّ المتوفى سنة (95) هجرية، وعامر بن شراحبيل الشعبيّ المتوفى سنة (104) هجرية، فقه العراق مدعماً بأقوى دعامتين: إبراهيم بالرأي السديد والنظر الدقيق، والشعبيّ بما حفظه من أحاديث وآثار، ثم جاء حماد بن سليمان المتوفى سنة (120) هجرية، فجمع ذلك كله في صدره وأسلمه لأبي حنيفة فصاغه مذهباً.
أخذ الأمام أبو حنيفة الفقه عن كثير من العلماء:
فسمع من عطاء بن أبي رباح وهشام بن عروة ونافع مولى ابن عمر، ولكن أستاذه الذي تلقى عنه علمه وأخذ عنه طريقته هو حماد بن أبي سليمان الذي لازمة ثماني عشرة سنة، ثم جلس مكانه في حلقة الدرس بعد وفاته سنة (120) هجرية، كما أخذ العلم أبي إسحاق السبيعيّ، ومحارب بن دثار، والهيثم بن حبيب العراف، وقيس بن مسلم، ومحمد بن المنكدر، وأخذ أيضاً عن نافع مولى عبد الله بن عمر، وهشام بن عروة، ويزيد الفقير، وسماك بن حرب، وعلقمة بن مرثد، وعطية العوفي، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم أبي أمية … وغيرهم.
وروى عنه: أبو يحي الحمانيّ، وهشيم بن بشر، وعباد بن العوام، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون، وعليّ بن عاصم، ويحي بن نصر، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وعمرو بن محمد، وهودة بن خليفة، وأبو عبد الرحمن المقريّ، وعبد الرزاق بن همام … وآخرون.
وأبو حنيفة إلى جانب حياته العلمية كان يحترف التجارة، فكان خزازاً يبيع الخز ويجلس في السوق، وقد أكسبه هذا فائدة كبيرة إذ جعله يتصل بالحياة المالية العملية ويعرف ما يجري في الأسواق ومعاملات الناس في البيع والشراء، فإذا تكلم عن علم وخبرة ونظر وممارسة، وقد عرض عليه ابن هبيرة العامل على العراق في زمن بني أميّة على أبي حنيفة أن يتولى قضاء الكوفة فأبى ذلك، فضربه مائة سوط في كل يوم عشرة أسواط وهو على امتناعه، فلما رأى منه ابن هبيرة ذلك خلَّى سبيلَه.
الأدلة السبعة في بناء الأحكام على مذهب الإمام أبي حنيفة
أقام الإمام أبو حنيفة مذهبه في بناء الأحكام على سبعة من الأدلة هي: (القرآن الكريم والسنة وأقوال الصحابة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف)، وروي عنه قوله: (إني آخذ بكتاب الله ، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله، فإن لم أجد أخذت بقول أصحابه- آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج إلى قول غيرهم – فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم النخعيّ وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيِّب فلي أن أجتهد، فهم رجال ونحن رجال).
فالقرآن الكريم: هو الأصل في التشريع وهو قطعيّ الثبوت، فإن وجد الحكم فيه فلا يبحث عنه في غيره، فهو حجة لا يجوز العدول عنها بحال، وهو مقدم على غيره من الأدلة، مسلك كل الأئمة، وإن اختلفوا في شيء فيه فهو اختلاف في فهم مدلوله وإشارته وطرق الاستنباط منه.
وأما السنة النبوية: فهي تَلِي عند ألإمام أبي حنيفة القرآن الكريم في الاحتجاج، إلا أن مسلكه في الأخذ بالسُنَّة يختلف عن باقي الأئمة وذلك بالتشدد في قبول الحديث والتحرّي عنه وعن رجاله، والسبب في هذا هو وضع الحديث في العراق، فكان لا يقبل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه جماعة عن جماعة وهو (المتواتر)، أو رواه واحد في العصر الأول ثم اشتهر في العصر الثاني والعصر الثالث وتلقاه العلماء بالقبول وهو (المشهور).
أما أخبار الآحاد التي رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدد لا يبلغ حدّ التواتر والشهرة فلا يأخذ منها إلا ما يكون راويه ثقة تطمئن النفس إليه، وزيادة في التثبت وضماناً لصحة الحديث ونسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اشترط الحنفيّة للعمل بخبر الواحد بعض الشروط التي لم يذهب إليها غيرهم، ولذلك لم يعملوا بجملة من أخبار الآحاد التي عمل بها غيرهم من الأئمة، إما لأنها لم تصحّ عندهم وإما لعدم الثقة بالراوي أو لمخالفتها للقواعد والمبادئ الكلية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
هذا هو مسلك الإمام أبي حنيفة في الأخذ بالسُنَّة، وقد عرف رحمه الله تعالى بالمهارة في فقه الحديث، فمتى صح الحديث عنده استطاع أن يفرع منه الفروع ويستخرج الأحكام الفقهية بدقة ومهارة، وفي ذلك يقول تلميذه أبو يوسف: (ما رأيت أحداً أعلم بتفسير الحديث ومواضع النكت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة، وكان أبصر بالحديث الصحيح مني).
وأما الإجماع: فإن الإمام أبا حنيفة كان يعتمده – إن وجد ونقل نقلاً صحيحاً – إذا لم يكن هناك نصّ على المسألة في القرآن أو السُنَّة النبوية، وأما المسائل التي اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم فكان أبو حنيفة يتخير من بينها ما يوافق اجتهاده ولا يخرج عن جملتهم، وأما أقوال التابعين فإنه لم يكن يأخذ منها إلا ما وافق اجتهاده، وقد يرى رأياً لم يقل به أحد منهم.
وأما القياس: فقد سلك الإمام أبو حنيفة طريق القياس عند عدم توفر نصّ على المسألة في القرآن أو السُنَّة أو الإجماع، وقد فاق بذلك كل من سبقه وقد أعانه علة ذلك ما كان له من دقة نظر وسرعة خاطر في إدراك ما بين الأشياء من تماثل واختلاف، وكان لتشدده في قبول الحديث وحريته في وزن أقوال الصحابة والتابعين أثر كبير في جعل القياس أساساً كبيراً من أسس التشريع في مذهبه الفقهيّ.
وقد حمل بعض الباحثين على الإمام أبي حنيفة منهجه هذا ونسبوا إليه ردّه الأحاديث الصحيحة، وقد أورد الخطيب البغداديّ في تاريخه ذلك، وقد دافع عن أبي حنيفة كثير من العلماء واستدلوا بقول الإمام عن نفسه: (إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم نحل عنه إلى غيره وأخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم)، ويقول تلميذه زفر: (لا تلتفوا إلى كلام المخالفين، فإن الإمام أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسُنَّة والأقاويل الصحيحة ثم قاموا بعد عليها)، ويقول ابن خلدون عن الإمام: (والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقينيّ إذا عارضها الفعل النفسيّ وقلت من أجلها روايته فقل حديثه، إلا أنه ترك رواية الحديث فحاشاه من ذلك)، ولما قيل للإمام أبي حنيفة: أتخالف النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: (لعن الله من يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، به أكرمنا الله وبه استنقذنا).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنه لا يُتصور أن يترك الإمام أبو حنيفة عامداً ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ بالرأي.
وأما الاستحسان: اشتهر الإمام أبو حنيفة أنه كان يترك القياس أو أثر أو يقدم عليه الأخذ بأصل عام أو قياس أرجح منه، والعدول عن القياس يسمى استحساناً، ولقد فاق الإمام رحمه الله تعالى الفقهاء في الاستحسان، وقد كان أبو حنيفة يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون ويعارضونه، حتى إذا قال استحسن لم يلحقه أحد لكثرة ما يورد في الاستحسان من الوجوه، فيذعنون جميعاً ويسلمون له.
وأما العرف: فقد جعله الإمام أبو حنيفة قاعدة لاستنباط الفروع، وبنى عليه كثيراً من الأحكام الشرعية، إلا أن حجيّة العُرْف عنده ليست على إطلاقها بل هي مقيدة بقيود ومشروطة بشروط نصّ عليها علماء الأصول.
لقد شكل الإمام أبو حنيفة مذهبه بطريق الشورى مع أصحابه وتلاميذه، فكان يعرض عليهم المسألة ويناظرهم ويحاورهم ويسمع ما عندهم من الأخبار والآثار، ثم يأتي كلّ منهم بجواب، ويقول كلّ واحد ما عنده، ويناظرهم الإمام رحمه الله تعالى، وقد تستمر المناظرة شهراً أو أكثر حتى يستقر آخر الأقوال فيثبته تلميذه الأكبر أبو يوسف، حتى إذا أثبت مذهبه على هذا المنهاج.
لقد أراد الإمام أبو حنيفة بهذه المناظرات وعدم استبداده بالرأي أن يعلم تلاميذه الحريّة معه ليكونوا أحراراً مع غيره، إذ أنهم لن يتعلموا الحريّة في التفكير إلا إذا مارسوها في التعبير، ولن يتعلموا الحريّة مع الناس إلا إذا تعلموها مع أستاذهم، ولذلك كان يقول لتلامذته: (رأينا هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا).
وكان الإمام أبو حنيفة لا يرضى من تلامذته أن يأخذوا كلامه كقضايا مسلمة حتى يفهموه، وكان يقول لهم: (لا يحلّ لمن يُفتي من كتبي أن يَفتي حتى يعلم من أين قلت).
بهذه الحريّة التي كانت لهم مع أنفسهم ومع إمامهم اختلطت ذواتهم بذاته، وتيسر للمذهب الحنفيّ أسباب النجاح، حتى أنّه كثيراً ما نجد في المسألة الواحدة أربعة أقوال لكلّ من الإمام وأصحابه أقوال فيها، وقد ترجح أراؤهم رأيه.
ومع كل ما تقدم لم يكن الإمام أبو حنيفة متعصباً لرأيه، فقد قيل له يوماً: يا أبا حنيفة هذا الذي تُفتي به هو الحقّ الذي لا شك فيه، فقال: (والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شكّ فيه).
إمتيازات المذهب الحنفي عن سائر المذاهب الإسلامية السنية
يمتاز المذهب الحنفيّ بالفقه التقديريّ في مسائل لم تقع ويفرض وقوعها، وقد كثر هذا النوع عند أهل القياس لأنهم عندما يحاولون استخراج العلل للأحكام الثابتة بالكتاب والسُنَّة ويوجهونها، يضطرون إلى فرض وقائع لكي يسيروا بما اقتبسوا من علل الأحكام في مسارها واتجاهها، ويوضّحونها بالتطبيق على وقائع مفروضة.
نشأ مذهب الإمام أبي حنيفة في الكوفة ثم تدارسه العلماء في بغداد، ثم تفرق فقهاء المذهب الحنفيّ في مدن شاسعة من بلاد العرب والعجم، وانتشر المذهب الحنفيّ في أكثر البلاد الإسلامية وبالأخص أيام الخلافة العثمانية عندما حصر القضاء بهذا المذهب، ونحن في لبنان ما زال قضاؤنا الشرعي السنيّ يحكم بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة إلا في المسائل المعدودة المأخوذة من غير هذا المذهب الحنفيّ والتي نصّ عليها في قرار حقوق العائلة العثمانيّ الصادر بتاريخ 25/10/ 1917، وفي تنظيم القضاء الشرعي الصادر بتاريخ 16/7/1962.
إن المؤرخين الذين تناولوا ترجمة حياة الإمام أبي حنيفة (رحمه الله تعالى) يكادون يجمعون على أنه كان وَرِعاً عظيم الخشية لله تعالى، زاهداً في الدنيا، لا ينام الليل ويقضيه بالصلاة وقراءة القرآن، صلباً في الحقّ جريئاً فيه لا يجامل أحداً على حسابه ولو كان الخليفة نفسه، مستهيناً بكل ما يصيبه في سبيله، وكان عظيم الأمانة حسن المواساة لإخوانه، كريماً جواداً ذكياً.
قال النضر بن شميل: (كان النّاس نِياماً عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة).
وقال الإمام الشافعيّ: (الناس عِيَالٌ على أبي حنيفة في الفقه).
وقال وكيع بن الجراح: (ما لقيت أفقه من أبي حنيفة، ولا أحسن صلاة منه).
المؤلف: رئيس المحاكم الشرعية السنية في لبنان سابقا، المفتي القاضي الشيخ عبد اللطيف دريان