التعريف بالإمام عيسى بن أبان وكتابه (الحُجج الصغير)و(الكبير):(1)
جاء بعد الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة، أبو يوسف، محمد) الإمام، القاضي، الحافظ، العفيف عيسى بن أبان بن صدقه، المتوفى سنة 221 هجرية رحمه الله تعالى. وقد روى الحافظ الصَّيمَري في (أخباره) بسنده عن هلال بن يحيى، قال: “ما وَلي البصرة منذ كان الإسلام وإلى وقتنا هذا قاضٍ أفقه من عيسى بن أبان” ، وقد روى الحافظ ابن أبي العَوّام في (مناقبه) بسنده عن بَكّار ابنِ قُتَيبَة، قال: كان لنا قاضيان لا مثل لهما، إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة، وعيسى بن أبان” . وقد كان حسن الوجه لأنه يكثر الصلاة في الليل، حسن الحفظ للحديث، وكان سخياً جدّاً، وله كتاب (الحج)، وكان قاضياً بالبصرة.
رتب الإمام عيسى بن أبان كتاباً خاصّاً في أصول الحديث، تكلم فيه على أصول الأخبار من المتواتر، والمشهور، والآحاد، وحُكم كل واحد منها، وما يُترك وما يُؤخذ منها، كما تحدث عن العلل في متن الأحاديث – وهي شرائط العمل بأخبار الآحاد في الأحكام – ببسط وتفصيل لم يُسبق إليه، مع بيان الأمثلة لذلك وحُجة أبي حنيفة في كل باب، كما تكلم على الرواة المعروفين بالفقه والحفظ وغيره، والمستورين والمجهولين، وتكلم على المُرسَل وأحكامه، وماذا يجب علينا إذا تعارضت الأخبار؛ فجاء الكتاب حافلاً شاملاً لما يُحتاج إليه لأصول الأخذ بالأخبار في باب الأحكام، وسمّاه (الحُجج الصغير).
وسببُ تأليف الكتاب على ما رواه الحافظ ابن أبي العوام في (مناقبه)، والحافظ الصَّيمَري في (أخباره)، عن الطحاوي، قال: حدّثني أبو حازم القاضي، قال: حدّثني شُعيب بن أيوب، قال: لمّا أتى عيسى بنُ هارون إلى المأمون بتلك الأحاديث التي أخرجها على أصحابنا، وزعم أنهم خالفوها، قال المأمون لإسماعيل ابن حمّاد بن أبي حنيفة، وبِشْرٍ، وليحيى بن أكْثَم، ولمحمد بن سَمَاعة: إن لم تثبتوا الحجة لأصحابكم على هذه الأقوال بمثل هذه الأخبار وإلا منعتُكم من الفتوى بهذا القول.
فوضع اسماعيل بن حمّاد كتاباً كان سباباً كله، وتكلف يحيى فلم يعمل شيئاً، وتكلف بِشرٌ فلم يعمل شيئاً فبلغ ذلك عيسى بن أبان، ولم يكن يدخل على المأمون قبل ذلك، فوضع كتابه (الحُجّة الصغير)، فابتدأ فيه بوجوه الأخبار، وكيف نُقل، وما يجب قبوله منها، وما يجب ردُّه، وما يجب علينا، وما إذا سمعنا المُتضادَّ منها، وكشف الأحوال في ذلك.
ثم وضع لتلك الأحاديث أبواباً، وذكر في كل باب حُجّة أبي حنيفة ومذهبه، وماله فيه من الأخبار، وماله فيه من القياس حتى استقصى ذلك استقصاءً حسناً، وعمل في كتابه حتى صار إلى يد المأمون، فلمّا قرأ قال: هذا جواب القوم اللازم لهم، ثم أنشأ يقول:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سَعيَه فالقوم أعداءٌ له وخُصوم
كضَرائر الحسناء قُلن لوجهها حَسداً وبغياً إنه لدميم
ثم سأل عن واضع ذلك الكتاب، عن أحواله، فأخبِرَ به، فأمر به منذ يومئذٍ، فصار يحضر مع الفقهاء. وقد أشار إلى هذه القصة الحافظ القُرَشي في ((الجواهر المضيئة))، وطاش كبرى زاده في ((طبقات الفقهاء)).
وهذا الكتاب (الحُجج الصغير)، ينقل عنه بلفظه الإمام الجصّاص، كما ينقل عن كتابين آخرين له، وهما: (الحُجج الكبير)، و(الرد على على بشر المَريسي) نصوصهما باللفظ في كتابه النافع العُجاب (الفصول في الأصول) في (باب السنة)، وملأ كتابه هذا في باب السنة بأقوال عيسى بن أبان، وأكبر ظني أنه لم يترك شيئاً ممَّا كتبه عيسى بن أبان في كتبه من الأصول والقواعد الكبيرة في الأخذ بالأخبار.
ومَن طالع كتاب (الفصول في الأصول) يتبيَّن له كالشمس في رابعة النهار أن الجصّاص أكثر ما يذكر في أوّل كل فصل وباب من أبواب السنة القاعدة والأصل الذي بناه عيسى بنُ أبان مع شيئٍ ممّا ذكره من الأمثلة، ثم يشرح تلك القاعدة، ويزيد عليه من الأمثلة، ويأتي ببعض القيود، وكيفية تطبيق هذه القاعدة، ويُجيب عمّا يردُ من الإيرادات على القاعدة مع بحثٍ وتدقيقٍ بحيث يشفي غُلَّة الباحث.
والحقيقة أن القواعد والأصول التي نجدها اليوم في كتب أئمة الحفية في أصول الفقه (باب السُّنّة) منه، والتي عليها مدار أصولهم أكثرها من صنع الإمام الحافظ القاضي عيسى بن أبان رحمه الله تعالى، وقد أيد هذا الكلام الإمام الكوثري رحمه الله وهو يردّ قول الإمام المحدّث شاه ولي الله الدَّهلَوي رحمه الله تعالى في (حجة الله البالغة) من أن أصول مذهب الحنفية أكثرها من صنع يد المتأخرين كالبَزدَوي: “ومنها: تحكُّمه في أصول المذهب، وتقوُّله أنها من صنع يد المتأخرين… فأين هو من الاطلاع على كتاب (الحجج الكبير) أو (الصغير) و(فصول الرازي)!…” انتهى كلام الكوثري.
ثم أتى بعد الإمام عيسى بن أبان الإمام الجصّاص، وعمل في كتبه كما ذكر آنفاً؛ وهو أن الجصاص يذكر نصوصه في أول الباب ويشرحه مع زيادة الأمثلة، ولا بأس هنا أن نسرد بعض النقول التي تدل على هذا الأمر. قال الجصاص في أول (باب ذكر وجوه الأخبار، ومراتبها، وأحكامها) من (فصوله) (الجزء الأول، ص504): “قد ذكر أبو موسى عيسى بنُ أبان رحمه الله جملةً في ترتيب الأخبار وأحكامها في كتابه في (الرّدّ على بِشْر المَريسي) في الأخبار، وأنا أذكر معانيها مختصرةً دون سياقة ألفاظها؛ فقول الجصّاص هذا يدل على أن ابنَ أبان قد استوعب الأخبار وأحكامها استيعاباً تامّاً، وأنه نقل كلامه مختصراً، ومع هذا الاختصار استوعب كلام الجصَّاص في الأخبار أكثر من 70 صفحة، في الجزء الأول من ص704 إلى ص576 من طبعة تدمر، ففي هذه الصفحات تكلّم عن المتواتر، والمشهور، والآحاد، وأحكامها، ثم عن حُجّيّة أخبار الآحاد ببسطٍ وتفصيل، وحَشَدَها بنقول ابنِ أبان، تارةً بلفظه وتارةً بمعناه.
ولا يذهل عنك أن ابنَ أبان من أخصّ أصحاب الإمام محمد، لزمه لزوماً شديداً حتى تفقّه به وتخرّج عليه كما في أخبار الصَّيْمَري، وتاريخ الخطيب، فما وضعه في الأصول والقواعد في كتبه أخذها عن شيخه محمد كما يعلم من مطالعة كتبه من ظاهر الرواية وغيره، والآثار، و(كتاب الحجة)، فإنه يشير في كتبه إلى تلك القواعد والأصول، أو هو نتيجة تفقُّهه على محمد.
سبب تفقه ابنِ أبان على يد الإمام محمد الشيباني:(1)
قصّة تفقه الإمام عيسى بن أبان على يد الإمام محمد لها دلالاتٌ لا تخفى عن عاقل! فسبب تفقهه على يد الإمام محمد يدلُّ على حفظ الإمام عيسى للحديث وسَعَة اطلاعه فيه، كما يدُلُّ على سَعَة باع الإمام المجتهد اللغوي محمد بن الحسن الشيباني في الأحاديث ناسخه ومنسوخه. فقد روى الحافظُ الصيمري في (أخباره)، والخطيب في (تاريخ بغداد) بسندهما عن محمد بن سَمَاعة، قال: “كان عيسى بنُ أبان حسن الوجه، وكان يُصلّي معنا، وكنتُ أدْعوه أن يأتي محمد بن الحسن الشيباني،فيقول: هؤلاء قومٌ يخالفون الحديث!
وكان عيسى حسن الحفظ للحديث، فصلّى معنا يوماً الصبح، فكان يوم مجلس محمد، فلم أفارقه حتى جلس في المجلس، فلمّا فرغ محمدٌ أدنيتُه إليه، وقلتُ له: هذا ابنُ أخيك أبان بن صَدَقة الكاتب، ومعه ذكاءٌ ومعرفة بالحديث، وأنا أدعوه إليك فيأبى ويقول: إنا نخالف الحديث! فأقبل عليه، وقال له: يا بُنَيَّ! ما الذي رأيتنا نخالفه من الحديث! فجعل محمد بنُ الحسن يجيبه عنها، ويُخبره بما فيها من المنسوخ، ويأتي بالشواهد والدلائل!
فالتفت إليّ بعدما خرجنا، فقال: كان بيني بين النور سترٌ، فارتفع عنّي، ماظننتُ أن في ملك الله مثل هذا الرجل يُظهره للناس! ولزم محمد بن الحسن الشيباني لزوماً شديداً حتى تفقه”.
ونقل هذه الحكاية السّمْعانيُّ في (الأنساب)، والقُرَشيُّ في (الجواهر المضُيّة)، واللّكنويُّ في (الفوائد البهية)، والجِهلَميُّ في (حدائق الحنفية).
يقول الشيخ عبد المجيد التركماني عفا الله عنه: هذا الخبر كما يدلُّ على حفظهما للحديث كذلك يدل على أمرٍ ثالث، أمر قد فُقد في هذه الأعصار، وكان ينبغي أن يتزيّن به العلماء، وهو رَحَابة الصَّدر، واللّين عند الكلام مع المخالفين. أنظر إلى جواب محمد: “يا بُنَيَّ!!” ، هذه الكلمة تحمل معانٍ من اللّين والمحبة ورحابة الصدر.
ثم علمه ونَصَحَهُ إلى شرطٍ كبيرٍ، به يرتفع الاختلاف في كثير من الأوقات، وهو قوله: “لا تشهد علينا حتى تسمع منا”.
وليعلم هنا أن ما ذُكر آنفاً هو المشهور في سبب تفقه عيسى بن أبان على الإمام محمد، وقد أسنده الحُفَّاظ كما أسلفناه، وقد ذكر العلامة الفقيه الأصولي علاء الدين الكاساني في كتابه العُجاب الموسوعي (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) سبباً آخر، فقال في صلاة المسافر… بعد ذكر أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوماً لا يصح؛ لأنه لا بُدّ من الخروج إلى عرفات، فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوماً: “وقيل: كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة، وذلك أنه كان مشغولاً بطلب الحديث، قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي، وعزمتُ على الإقامة شهراً، فجعلت أتمّ الصلاة، فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة، فقال: أخطأت، فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلمّا رجعتُ من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمتُ على أن أصاحبه، وجعلت أقصر الصلاة، فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت، فإنك مقيمٌ بمكة فما لم تخرج منها لا تصير مسافراً، فقلتُ: أخطأتُ في مسألة في موضعين، فدخلت مجلس محمد واشغلت بالفقه”.
قيل(1): ويظهر من هذه الحكاية أن نيته الإقامة لم تعمل عملها إلا بعد رجوعه لوجود خمسة عشر يوماً بلا نية خروج في أثنائها، بخلاف ما قبل خروجه إلى عرفات، لأنه لما كان عازماً على الخروج قبل تمام نصف شهر لم يصر مقيماً، ويحتمل أن يكون جدّد نية الإقامة بعد رجوعه…
كانت هذه كلمة لا بُدّ منها عن الإمام الحنفي الكبير القاضي المجتهد عيسى بن أبان… غفر الله لهذا العلم العظيم في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، فرحم الله أئمتنا الجهابذة الكرام ورضي عنهم وأرضاهم وجزاهم عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين…
الكاتب: عبد المجيد تركماني