طبقات الكتب والمسائل في المذهب الحنفي
وكما قسموا العلماء على طبقات، كذلك قسموا المسائل على درجات…
إذ لا بد للمفتي المقلد أن يعلم الكتب المعتمدة في نقل المذهب، ليختار عند التعارض ما هو من الدرجة الأعلى ولا يرجح الأدنى، ولا ثقة بما يفتى به بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة خصوصاً غير المحررة، قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى: “وقد يتفق نقل قول في نحو عشرين كتاباً من كتب المتأخرين ويكون القول خطأً أخطأ به أول واضع له، فيأتي مَن بعده وينقله عنه وهكذا ينقل بعضهم عن بعض…”.
قال العلماء: مسائل المذهب على ثلاث طبقات:
الاولى: الكتب التي رويت عن محمد بن الحسن رواية ظاهرة وتسمى مسائل الأصول وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب وهم الأئمة أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى، ويقال لهم العلماء الثلاثة وقد يلحق بهم زفر والحسن وغيرهما ممن أخذ الفقه عن الإمام أبي حنيفة، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة أو قول بعضهم.
ثم هذه المسائل هي ما وجد في كتب محمد التي هي: ”المبسوط”، و“الزيادات”، و“الجامع الصغير”، و“السِّيَر الصغير”، و“الجامع الكبير”، و“السِّيَر الكبير”، وإنما سميت بظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات فهي ثابتة عنه إما متواترة أو مشهورة عنه.
والفتوى عليها في المذهب وإن لم يصرحوا بالتصحيح، نعم لو صححوا رواية أخرى من غير كتب ظاهر الرواية يتبع ما صححوه، قال العلامة الطرسوسي في “أنفع الوسائل” في مسألة الكفالة إلى شهر: إن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر الرواية لا بالرواية الشاذة، إلا أن ينصوا على أن الفتوى عليها.
الثاني: مسائل النوادر، أو مسائل غير ظاهر الرواية، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب المذكورين لكنْ لا في الكتب المذكورة، بل إما في كتب أُخَر لمحمد بن الحسن كـ”الكيسانيات”، و”الهارونيات”، و”الجرجانيات”، و”الرَّقيات” .. وإنما قيل لها غير ظاهر الرواية لأنها لم تُروَ عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى. وإما في كتب غير محمد ككتاب “المجرَّد” للحسن بن زياد وغيرها، ومنها كتب “الآمالي” لأبي يوسف، وإما برواية مفردة مثل رواية ابن سماعة، ومعلّى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة.
الثالثة: الفتاوى، وتسمى أيضاً: الواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما وهَلُمَّ جَرّا، وهم كثيرون .. وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم.
يقول العلامة ابن عابدين: “ وأول كتاب جمع في فتواهم فيما بلغنا كتاب “النوازل” للفقيه أبي الليث السمرقندي ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخر .. ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة كما في “فتاوى قاضي خان” و“الخلاصة” وغيرهما، وميّز بعضهم كما في كتاب “المحيط” لرضي الدين السرخسي فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول ثم النوادر ثم الفتاوى، ونِعْم ما فعل”.
وذكر ولي بن عبد الرحيم الدهلوي في رسالته: “عِقْد الجِيد في أحكام الإجتهاد والتقليد”، تقسيم المسائل بوجه آخر فقال: “ إعلم أن القاعدة عند محققي الفقهاء أن المسائل على أربعة أقسام:
١- قسم تقرر في ظاهر المذهب، وحكمه أنهم يقبلونه في كل حال، وافقت الأصول أو خالفت
٢- وقسم هو رواية شاذة عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، وحكمه أنهم لا يقبلونه إلا إذا وافق الأصول
٣- وقسم هو تخريج المتأخرين اتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه أنهم يفتون به على كل حال
٤- وقسم هو تخريج منهم لم يتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه أن يعرضه المفتي على الأصول والنظائر من كلام السلف، فإن
وجده موافقاً لها أخذ به وإلا تركه.
ومن الكتب الملحقة بمسائل الأصول، والمعتمدة في نقل المذهب: كتاب “الكافي” للحاكم الشهيد، و“المبسوط” للإمام السرخسي، قال ابن عابدين رحمه الله: “قال في فتح القدير وغيره: إن كتاب الكافي هو جمع كلام محمد في كتبه الست التي هي كتب ظاهر الرواية أهـ، وفي شرح الأشباه للعلامة البيري: إعلم أن من كتب مسائل الأصول كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب شرحه جماعة من المشايخ منهم: شمس الأئمة السرخسي وهو المشهور بمبسوط السرخسي أهـ، قال الشيخ إسماعيل النابلسي قال العلامة الطرسوسي: مبسوط السرخسي لا يعمل بما يخالفه ولا يركن إلا إليه ولا يفتى ولا يعول إلا عليه”.
ويلحق بكتب الأصول أيضاً مختصرات المشايخ الكبار، جاء في مقدمة كتاب “المتانة”: “وأما المختصرات التي صنفها حذاق الأئمة وكبار الفقهاء المعروفين بالعلم، والزهد، والفقاهة، والعدالة في الرواية؛ كالإمام أبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، والحاكم الشهيد المروزي، وأبي الحسين القدوري، ومن في هذه الطبقة من علمائنا الكبار فهي موضوعة لضبط أقوال صاحب المذهب وجمع فتاواه المروية عنه، فمسائلها ملحقة بمسائل الأصول وظواهر الروايات في صحتها وعدالة رواتها وما فيها دائر بين متواتر ومشهور وآحاد صحيحة الإسناد، وقد تواترت هذه المختصرات عن مصنفيها وتلقاها علماء المذهب بالقبول منهم”.
وهذه المختصرات أو المتون التي ذكرها صاحب “المتانة في مرمة الخزانة” كانت معتمد المتقدمين .. وهناك متون أخرى اعتمدها المتأخرون، إلتزم أصحابها ذكر الراجح والمقبول والقوي كذلك. يقول الإمام اللكنوي رحمه الله تعالى: “ واعلم أن المتأخرين قد اعتمدوا على المتون الثلاثة: “الوقاية”، “مختصر القدوري”، “الكنز”، ومنهم من اعتمد على الأربعة: “الوقاية”، “الكنز”، “المختار”، و”مجمع البحرين”، وقالوا: العبرة لما فيها عند تعارض ما فيها وما في غيرها، لما عرفوا من جلالة قدر مؤلفيها والتزامهم إيراد مسائل ظاهر الرواية والمسائل التي اعتمد عليها المشايخ”.
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله بعدما ذكر قول المصنف في “تصحيحه” (إن ما في المتون مصحح تصحيحاً التزامياً) قال: “لا يخفى أن المراد بالمتون المتون المعتبرة كـ “البداية”، و “مختصر القدوري”، و”المختار”، و”النقاية”، و”الوقاية”، و”الكنز”، و”الملتقى”، فإنها الموضوعة لنقل المذهب مما هو ظاهر الرواية”.
المؤلف: ضياء يونس