منذ اللحظة الأولى لقدوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مهاجره في الواحة الخصيبة (يثرب) التي تراءت له في النوم [صحيح مسلم[ – (عَنْ أَبِى بُرْدَةَ جَدِّهِ عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ) – والتي لم يكن عبثا أن اختارها الله لرسوله مهجرا خصيبا تتحقق فيه كل عوامل الحضارة والاستقرار والنماء. فهي منذ غابر الأزمان ذات ثمار وبساتين وغلال وأسواق وتجارات وطريق للقوافل التجارية, تزاحمت في أسواقها العير المحملة بالبضائع وتصافقت في ثناياها أكف العقود والبياعات- أسس عليه الصلاة والسلام مسجده الشريف لعلمه أن استقرار الإيمان ينبثق من هذا الجانب وتشرق شمسه من هنا. فكان منطلقا للتربية الإسلامية ورعاية شئون المسلمين في جميع المجالات، ثم أسس المجتمع الإسلامي على أسس العقيدة والعبادة الصحيحة والأخوة والحب في الله؛ ليكوِّن منه القيادة المسلمة المنضبطة بشرع الله، وهذا ما يُسمَّى في الوقت المعاصر “الجبهة الداخلية”. وعندما استقر المجتمع المدني للمسلمين في المدينة المنورة وتوطدت دعائم المدنية فيه دعت الحاجة إلى سوق مستقرة تواكب استقرار المجتمع وتساير متطلباته. عندئذ كان لابد من البحث عن سوق تتوافق في ضوابطها وتعاملاتها مع أسس ومبادئ الدين الجديد وحضارة التعاليم النبوية التي لا غش فيها ولا خداع. فكان أقرب النظر إلى العين سوق رائجة ناشطة في صفقها ومبايعاتها اضطرت الظروف المسلمين للتبايع فيها ومزاولة أنشطة التجارة فيها لكن وفق أحكام الدين الجديد وشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد تبايعوا فيها إلى حين, على اعتبار أن اليهود أنشئوها وفق شروطهم وكانت لليهود فيها اليد العليا فهم أرباب المال وأباطرة الذهب ولهم خبرتهم الطويلة في فنون التجارة واحتراف البيع والشراء.
وبعد مدة أخذت أنشطة المسلمين التجارية تزداد شيئاً فشيئاً بالتزامن مع استقرار المعاش وتزايد عدد سكان المدينة المنورة وزيادة الوافدين الجدد إلى هذا الدين الجديد, وأمام مضايقات وخداع اليهود للمسلمين عموما وللتجار منهم خصوصا وبسبب التباين في المبادئ التي تقوم عليها تجارة كل من الفريقين (تجارة تقوم على السحت والربا وهي تجارة اليهود, وأخرى تقوم على تقصي أقصى درجات الطهر والنقاء والبعد عن دنس الشبهات والمحرمات وهي تجارة المسلمين)كان لابد من أن ينحى النبي في رؤيته الإصلاحية للنشاط التجاري الإسلامي الناشئ منحاً جديدا فيه تصحيح لمسار النشاط التجاري عموماً ووفق خطوات إصلاحية ذات طابع استقلالي عن الروح التجارية الخائنة التي كانت تشوب تجارات ومبايعات اليهود في سوقهم فأنشأ السوق الإسلامية ليحرر مال المسلمين من الخبائث والمعاملات الظالمة، وهذا ما يطلق عليه في الاقتصاد بـ”البنية الاقتصادية الأساسية”، وحتى يؤكِّد للناس شمولية الإسلام؛ فهو دين ودنيا يعطي للنفس حظوظها من الدين كما يعطيها حظها من الدنيا.
فكانت خطوته تلك فيها معالم كثيرة يجب على المسلمين عامةً وأرباب التجارات خاصةً أن يعوها وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما أسس مجتمعه الجديد أسس أول ما أسس فيه مسجداً ثم سوقاً ؟ وهذا يعني لنا أموراً ومدلولات كثيرة ، منها أن العبادة وحدها لا تكفي فالدين الإسلامي ليس مجرد طقوس ونسك ورهبانية فقط وانقطاع عن الناسفلابد من تلبية حاجات المجتمع الاقتصادية فكان انتشاء السوق.
الهدف الاقتصادي من الهجرة إلى يثرب
إن اختيار الرسول لـ يثرب إنما كان بتأييد وتوفيق من الله تعالى روعيت فيه اعتبارات دقيقة، كيف لا والهجرة لم تكن فقط موقفا تعبديا ينتظر منه الحماية للمسلمين فحسب، بل كان حكما ربانيا بإنشاء مجتمع إسلامي متكامل اقتصاديا واجتماعيا يتطلع فيه المسلمون إلى مستقبل واعد مشرق خلال المراحل المقبلة، لم يقع اختياره صلى الله عليه وسلم على يثرب بالصدفة، هو الذي كانت له تجارب مع مواقف أخرى داخل وخارج الجزيرة العربية: بني حنيفة، الطائف، الحبشة بل لاشك أنه وفق لهذا الاختيار بتأييد من ربه لاعتبارات يمكن أن نجملها بما يلي:
أولاً: الموقع الجغرافي للمدينة:
إن الموقع الجغرافي لأية مدينة يعتبر من أهم العوامل التي تحدد مدى تطورها وازدهارها، بل إن نشأة وتطور كثير من المدن والحواضر يرجع في المقام الأول إلى الخصائص الجغرافية التي تميز موقعها، ويثربتمتاز بموقعها الجغرافي على طريق تجارة الشام عصب الاقتصاد القرشي ومتاخمتها لمنطقة حضارية عريقة في الشمال.
ثانياً: توافر بنية اقتصادية مهمة من خلال تنوعها ومستوى تطورها.
فهناك الزراعة التي تعتبر يثرب إحدى أهم واحاتها في الجزيرة العربية إلى جانب الطائف وعسير وحضرموت. فهذه المناطق كانت تمتاز بخصوبة أراضيها ووفرة مياهها وكثرة وتنوع أغراسها . وقد كان التطور الزراعي في يثربحصيلة الخبرة الزراعية التي أتى بها اليهود من بلاد الشام من جهة – رغم تحفظ بعض الباحثين على إطلاق هذه الفكرة وأنها غير مسم بها مطلقاً فأهل المدينة لا تنكر خبرتهم في شؤون الزراعة- والعرب التي هاجرت من بلاد اليمن من جهة ثانية . أما فيما يخص النشاط الصناعي والحرفي فقد قامت في يثربمجموعة من الصناعات الخاصة التي تعتمد على الإنتاج الزراعي المحلي· كما عرفت بعض الصناعات التعدينية كصناعة الأسلحة والآلات المستخدمة في الري والزراعة·
فضلا على أن فائض الإنتاج الزراعي والصناعي يقتضي تطوير أساليب التجارة لصرفه نحو الخارج·
الأهمية الاقتصادية لإنشاء السوق الإسلامية التي أسسها رسول الله
إن أهمية السوق الإسلامية للمسلمين في المدينة المنورة تأتي من ضرورة وجود كيانٍ اقتصادي قوي للمسلمين في مواجهة الكيانات الاقتصادية المعاصرة سواء على مستوى المدينة نفسها في مواجهة اليهود أم على مستوى الدول والممالك المجاورة نظرا لمنافسة الممالك المجاورة للمسلمين خاصة والعرب عامة وكونهم إلى حد كبير يشكلون سوقا لتصريف الكثير من بضائع ومنتجات تلك الممالك.
وتروي كتب السيرة أنه كانت في المدينة المنورة سوقٌ تُسمَّى “سوق بني قينقاع” في حيٍّ من أحياء اليهود، وكانوا يتعاملون بالربا والمقامرة، والتدليس والغش، والغرر والسحت والاحتكار، ويفرض على المتعاملين فيها الإتاوات، وهذا كله لا يتفق مع القواعد والضوابط الإسلامية للمعاملات، فرأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن ينشئ سوقًا جديدةً للمسلمين، فذهب إلى مكانٍ قريبٍ من سوق بني قينقاع وضرب قبَّةً- خيمة- كبيرة لتكون رمزًا وعلامةً يتجمع حولها المسلمون للبيع والشراء، فاغتاظ اليهود من ذلك وقام كعب بن الأشرف- زعيم اليهود وعدو المسلمين- فهدم الخيمة وقوَّضها وقطع أطنابها، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجعل لهذا التصرُّف قيمةً ولم يلتفت إلى هذا السلوك الاستفزازي، وهذه المحاولة اليائسه من قبل عناصر اليهود المتعصبة، بل رد عليها عمليا فقال متحدثا عن كعب بن الأشرف وفعلته: “والله لأضربن له سوقًا أغيظ له من هذا” وفي رواية أخرى: “لأنقلها إلى موضع هو أغيظ له من هذا”. واختار مكانا فسيحا بأطراف المدينة بعيدا عن المحال السكنية وذلك باقتراح من أحد الصحابة الذي قال للنبي إني نظرت موضعا للسوق، أفلا تنظرون إليه؟ قال: بلىفقام معه فلما رآه أعجبه وركض برجله عليه السلام وقال: نعم سوقكم هذا ، فلا ينقصن ولا يضربن عليكم بخراج وفي رواية وقال: “هذه سوقكم؛ لا تتحجروا ولا يضرب عليه الخراج” ويقصد بذلك: لا بد وأن تكون السوق واسعةً ولا يضيِّق التجار بعضهم على بعض في الأماكن، كما لا يجوز لولي الأمر أن يفرض على المتعاملين فيها إتاوات أو رسومًا أو ضرائب خلافَ زكاة المال المقررة شرعًا. وقد ظلت هذه السوق طيلة عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين عبارة عن فضاء حر من دون بناء، يخضع في تدبيره لنظام سنة المساجدكما كان يقول الخليفة عمر]: الأسواق على سنة المساجد، من سبق إلى مقعده فهو له حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه]ولم يبدأ البناء في الأسواق إلا على عهد معاوية بن أبي سفيان الذي سن تأجير أماكن السوق ثم إن قيام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهذا فيه معالم كثيرة وهدي اقتصادي نبوي يجب على المسلمين عامةً وأرباب التجارات خاصةً أن يعوها، منها:
أولاً: الإيمان بأن معاملات اليهود تقوم على السحت والربا، والغش والتدليس والاحتكار، وهذا مُحرَّم في الشريعة الإسلامية، ومن ثَمَّ يصعب أن تكون هناك سوق يهيمن عليها اليهود وتلتزم بقواعد وأحكام الشريعة الإسلامية ويتعامل فيها المسلمون إلا وقعوا في الحرام؛ لذلك يجب أن تكون للمسلمين سوق حرة نظيفة طاهرة.
ثانيًا: أن فرض الإتاوات- الضرائب والرسوم وما في حكمهما- بدون ضوابط على المعاملات في الأسواق يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وغيرها، وهذا لم يقره رسول الله؛ ولذلك نهى عن فرض الخراج على المعاملات في الأسواق، وهذا واضح من قوله: “ولا يضرب عليها الخراج”.
ثالثاً: يجب أن يكون للمسلمين قوةٌ اقتصاديةٌ تستطيع بها المحافظة على أموال المسلمين وتنميتها بالحق، وأن تكون لهم سوقٌ خالية من كل صور السحت والربا وأكل أموال الناس بالباطل، سوق تقوم على الطيبات والحلال، والصدق والأمانة، والتسامح والقناعة، وخالية من الاحتكار .[من معالم الحج إنشاء السوق الإسلامية المشتركة- بحث للدكتور: حسين شحاته. من سلسلة بحوث ودراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي.ص2]
وصف السوق النبوي وتسميته التاريخية
كان في المدينة المنورة قبل الإسلام عدة أسواق متناثرة يقع بعضها بعيداً عن المركز الحالي
للمدينة المنورة وقد ارتبطت هذه الأسواق بتوزع مناطق استقرار العشائر المختلفة في المدينة
المنورة ولم تكن في هذه الأسواق أية أبنية ثابتة أو أماكن محددة لكل تاجر.
أسواق المدينة قبل الإسلام:
من هذه الأسواق سوق بني قينقاع وسوق زبالة وسوق العصبة وسوق بني الخيل وسوق بقيع الزبير وقد استخدم المسلمون هذه الأسواق في بداية عهد استقرارهم في المدينة المنورة وخاصة سوق بني قينقاع حتى ضمت هذه الأسواق في سوق بقيع الزبير في عهد النبي صلى الله عله وسلم ثم نقل
السوق في تلك الفترة إلى المكان الذي كان يعرف باسم البطحاء ويعرف الآن باسم(المناخة)[مقال بعنوان (سوق المدينة (المناخة) أسسه رسول الله صلى الله عليه. د. تنيضب الفايدي] وهو سوق المدينة المنورة الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وخطه برجله وهو أول سوق في الأرض يؤسسها نبي. وهو كموقع اقتصادي وتاريخي بنفس الوقت يعتبر أحد الأماكن ذات العبق التاريخي المرتبطة بالعهد النبوي، يقع غربي المسجد النبوي ويبدأ شمال مسجد الغمامة (المصلى) ويمتد إلى القرب من ثنيات الوداع شمال المدينة المنورة قديمًا، أي: يحدّ سوق المدينة من الجنوب مسجد الغمامة (المصلى) ويمتد حتى شرق جبل سُلَيْع (باب الكومة). وقد اشتهرت المناخة كذلك بأن جزءًا منها وهو الجزء الشمالي الأقرب إلى ثنية الوداع كان مركزًا لمسابقة الخيول ،
حدود السوق وموقعه:
بقي هذا السوق صامدًا -كموقع- حتى وقت قريب يعرفه أهل المدينة جيدا. كان فضاء رحبا لا أبنية فيه يحضر التجار إليه صباحًا، ومن سبق إلى موقع وضع بضاعته فيه ويتاجر إلى نهاية اليوم حيث يحمل متاعه ليعود في اليوم الثاني. ولم تذكر المصادر مساحة محددة للسوق بالضبط .كما لا توجد له أبعاد من حيث الطول أو العرض في أول إنشائه, غير أنه محدود بمواقع وأبنية معينه. فقد نقل ابن زبالة: أن عرض سوق المدينة ما بين المصلى أي من القبلة إلى جرار سعد بن عبادة وهي جرار كان يسقى الناس فيها الماء بعد موت أمه أي أن الجرار كانت في حده من جهة الشام قرب ثنية الوداع [السمهودي خلاصة الوفا بأخبار].
وورد عن عبدالله بن محمد قال: «كان الراكب ينزل سوق المدينة فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره لا يغيبه عنه شيء»[السمهودي خلاصة الوفا بأخبار]. ويظهر من هذا بأن مساحة السوق متوسطة بحيث يرى الزائر ركبه. ثم انطلق هذا السوق مع دور السكن في العصر الأموي في عهد هشام بن عبد الملك الذي كانت ولايته مابين عام 65 – 87 ه ، وظهرت الشوارع التجارية لتسهيل حركة الأفراد وحركة البضائع، كما نظمت فيه الدكاكين ليكون سوقًا ثابتًا.
ووسع حتى قرب إلى ثنية الوداع الشمالية وجعل لهذا السوق تسع بوابات تقود إلى منازل ومخيمات سكان المدينة وبنيت في داخل السوق حوانيت في الدور الأرضي ومساكن في الأدوار العلوية ويبدو أن مساحة السوق قد تقلصت في
هذه الفترة بمقارنتها بمساحته في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم , وقد يعلل هذا بأن كثيراً من التجار كانوا يأتون من مناطق مختلفة خارج المدينة المنورة ثم يعودون إلى ديارهم بعد انقضاء تجارتهم دون الحاجة إلى الاستقرار في المدينة المنورة. وخاصة بعد انتقال مركز الحكم من المدينة المنورة إلى دمشق
في بلاد الشام ولهذا كان تأثير الوظيفة التجارية في هذه الفترة المبكرة على المنطقة المبنية محدوداً إذ كان التجار ينصبون رحالهم في السوق أو يقيمون مع أقاربهم أو يستأجرون مبنى لهم لفترة محدودة.
التسميات التاريخية:
أطلق على سوق المدينة الشهير بسوق المناخة أسماء متعددة منها: سوق المدينة، بقيع الخيل، سوق المصلى، سوق البقيع، سوق البطحاء، سوق الزوراء. وكما أنه كانت هناك أسواق متعددة بالمدينة المنورة (يثرب) قبل سوق المدينة أو متزامنة معه أو بعده، منها: سوق بني قينقاع، سوق بالصفاصف، سوق زبالة، سوق مزاحم، سوق النبيط أو النبط، ثم أصبحت هناك أسواق بمسميات مختلفة حسب نوع ما يباع مثل سوق الخيل، سوق الإبل، سوق التمر إلخ.
المؤلف: حسام عبد الله