لا بد للمفتي المقلد أن يعلم حال من يفتي بقوله، حتى يكون على بصيرة وافية تمكنه من التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين، “ولحاجته إلى معرفة من اعتبر قوله في انعقاد الإجماع في محل الإتفاق والإجتماع، ويعتد به في الخلاف في محل الإتراق والإختلاف، وافتقاره إليه في الترجيح والإعمال عند تعارض الأقوال بقول أعلمهم وأورعهم في الأحوال (طبقات الحنفية للحنائي)، إلا انه لم ينقل عن المتقدمين تقسيم الفقهاء إلى مراتب وطبقات، وإن كان البعض قد وُصف بالإجتهاد في المذهب، أو بأن له تخريجات أو ترجيحات ..
والتقسيم الذي شاع وتداولته كتب الحنفية هو الذي وضعه أحمد بن سليمان الشهير بإبن كمال باشا في القرن العاشر الهجري، وتبعه الحنّائي علي بن أمر الله في كتابه “طبقات الحنفية” وقال فيه: “كذا حققه بعض الفضلاء من المتأخرين”، ثم اعتمده غير واحد من بعد، من أبرزهم العلامة ابن عابدين رحمه الله في رسالته في رسم المفتي ..
إلا أن التقسيم لن يسلم من النقد فقد اعترض عليه من وجوه، وسنذكر أولا كلام ابن كمال باشا بحروفه ثم نرد بعض ما تعقب به عليه.
قال رحمه الله: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، إعلم أن الفقهاء على سبع طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع من الأدلة الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس على حسب تلك القواعد من غير تقليد أحد في الفروع والأصول.
الطبقة الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف ومحمد وسائر أصحاب أبي حنيفة -رحمهم الله- القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة رحمة الله عليه وعيَّنها، فإنهم وإن خالفوه في بعض الأحكام الفرعية لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب ويفارقونهم كالشافعي ونظرائه المخالفين لأبي حنيفة رحمة الله عليه في الأحكام غير المقلدين له في الأصول.
الطبقة الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب كالخصاف، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضي خان وغيرهم، فإنهم لا يقدرون على المخالفة للشيخ لا في الفروع ولا في الأصول لكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص فيها عنه، على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.
الطبقة الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كالرازي وأصحابه، فإنهم لا يقدرون على الإجتهاد أصلاً لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المآخذ يقدرون على تفضيل مجمل ذي وجهين وحكم مبهم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب أو واحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظرائه من الفروع وما وقع في بعض المواضع من الهدية من قوله: كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل.
الطبقة الخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحسين القدروري وصاحب الهداية وأمثالهما وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر، بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح دراية، وهذا أصح رواية، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.
الطبقة السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي، والضعيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرواية والروايات النادرة، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين كصاحب “الكنز”، وصاحب “المختار”، وصاحب “الوقاية”، وصاحب “المجمع”، وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
الطبقة السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذُكر ولا يفرقون بين العجاف والسمين والشمال واليمين، بل يجمعون ما يجدون وهم كحاطب ليل فالويل لهم ولمن قلدهم كل الويل والحمد لله أولا وآخراً.
قال الإمام الكوثري رحمه الله (حسن التقاضي ص ٢٤،٢٥): ولم يصب ابن الكمال الوزير في ترتيب الطبقات ولا في توزيع الفقهاء عليها، وإن لقي استحساناً من المقلدة بعده، وقد تعقبه الناقد العصامي الشهاب المَرْجاني في كتابه: “ناظورة الحق”، بهدم الأمرين -الترتيب والتوزيع معا- فعاد الأمر إلى نصابه بتحقيقه فجزاه الله عن العلم خيرا”.
ومما قاله الشيخ شهاب الدين المرجاني في رده رحمه الله: “ .. ومهما تسامحنا معهم – ابن الكمال ومن تبعه – في عد الفقهاء والمتفقهة على هذه المراتب السبع -وهو غير مسلم لهم- فلا يتخلصون من فحش الغلط والوقوع في الخطأ المفرط في تعيين رجال الطبقات وترتيبهم على هذه الدرجات (حسن التقاضي ص ٨٥). ثم أخذ يبين درجة العلماء الثلاثة أبي يوسف، ومحمد، وزفر في الإجتهاد وأنهم قد يخالفون أبا حنيفة في قواعد الأصول، وأن حالهم في الفقه إن لم يكن أرفع من مالك، والشافعي، وأمثالهما فليسوا بدونهما، وقال: غير أنهم لحسن تعظيمهم للأستاذ وفرط إجلالهم لمحله ورعايتهم لحقه، تشمروا على تنويه شأنه، وتوغلوا في انتصاره، والإحتجاج لأقواله، وروايتها للناس لإعتقادهم أنه أعلم وأورع وأحق بالإقتداء به والأخذ بقوله وأوثق للمفتي وأرفق للمستفتي .. ومن ذلك الوجه امتازوا عن المخالفين كالأئمة الثلاثة، والأوزاعي، وسفيان، وأمثالهم، لا لأنهم لم يبلغوا رتبة الإجتهاد المطلق في الشرع ولو أنهم أولعوا بنشر آرائهم بين الخلق وبثها في الناس والإحتجاج لها بالنص والقياس لكان كل ذلك مذهباً منفرداً عن مذهب الإمام أبي حنيفة مخالفاً له. (حسن التقاضي ص ٨٨).
ثم انتقل المرجاني لمناقشة ابن كمال في تعيين رجال الطبقات على هذه الدرجات فقال: ثم إن قوله في الخصاف والطحاوي والكرخي إنهم لا يقدرون على مخالفة أبي حنيفة لا في الأصول ولا في الفروع ليس بشيء، فإن ما خالفوه فيه من المسائل لا يعد ولا يحصى ولهم اختيارات في الأصول والفروع، وأقوال مستنبطة بالقياس والمسموع، واحتجاجات بالمنقول والمعقول على ما لا يخفى على من تتبع كتب الفقه والخلافيات والأصول ..
ثم إنه عدَّ أبا بكر الرازي الجصاص من المقلدين الذين لا يقدرون على الإجتهاد أصلاً وهو ظلم عظيم في حقه وتنزيل له عن رفيع محله وغض منه وجهل بيِّن بجلالة شأنه في العلم .. ومن تتبع تصانيفه والأقوال المنقولة عنه علم أن الذين عدهم من المجتهدين من شمس الأئمة ومن بعده كلهم عيال لأبي بكر الرازي.
ثم إنه جعل القدوري وصاحب الهداية من أصحاب الترجيح، وقاضي خان من المجتهدين، مع تقدم القدوري على شمس الأئمة زماناً وكونه أعلى منه كعباً وأطول باعاً .. وأنا صاحب الهداية فكيف ينزل شأنه عن قاضي خان بمراتب؟ بل هو أحق منه بالإجتهاد وأثبت في أسبابه وألزم لأبوابه. وهذا لم يحصل من بيانه فرق بين أهل الطبقة الخامسة والسادسة وليت شعري بأي قياس قاسهم ووجد هذا التفاوت بينهم؟ والحال أن العلم بهذه الكلية كالمتعذر بالنسبة إلى أجلّة الفقهاء وأئمة العلماء فإنهم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها (حسن التقاضي ص ٨٩-٩٢).
ونقل الإمام اللكنوي في مقدمة شرحهعلى الجامع الصغير تقسيم ابن كمال باشا وأعقبه بقوله:” وكذا ذكره ابن عمر الأزهري المصري المتوفى سنة تسع وسبعين وألف، في آخر كتابه:” الجواهر النفيسة شرح الدرة المنيفة في مذهب أبي حنيفة”، وكذا ذكره من جاء بعده مقلداً له، إلا أن فيه أنظاراً شتى من جهة إدخال من في الطبقة الأعلى والأدنى”، ثم نقل بعض كلام المرجاني في الرد عليه.
وناقش الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تقسيم ابن كمال لفقهاء الحنفية واعترض عليه في عدد من النقاط، وقرر ما يلي:
١- إن أبا يوسف ومحمداً والأصحاب من طبقة المجتهد المطلق، وعليه فليس لهذه الطبقة التي مثلت بهم من وجود في المذهب الحنفي.
٢- إن الفرق بين الطبقتين الثالثة والرابعة فرق دقيق لا يكاد يستبين، ومن عدهما طبقة واحدة لا يعدو الحقيقة.
٣- إن التفرقة بين الطبقة الخامسة (طبقة المرجحين) وسابقتها، ليست واضحة وإنه لكي تكون الأقسام متميزة غير متداخلة يجب حذف طبقة من هذه الطبقات الثلاث؛ الثالثة، والرابعة، والخامسة واعتبارهما طبقتين اثنتين؛ إحداهما طبقة المخرجين الذين يستخرجون أحكاماً لمسائل لم تؤثر أحكام لها عن أصحاب المذهب الأولين بالبناء على قواعد المذهب. والثانية: طبقة المرجحين الذين يرجحون بين الروايات المختلفة والأقوال المختلفة.
٤- إن عمل الطبقة السادسة ليس الترجيح، ولكن معرفةما رُجِّحَ وترتيب درجات الترجيح، وقد يؤدي ذلك إلى الحكم بين المرجحين فيختار من أقوالهم أقواها ترجيحاً، وأكثرها إعتماداً في الترجيح على أصول المذهب، أو ما يكون أكثر عدداً وأعز ناصراً …
٥- ويتساءل أبو زهرة أخيراً: أما الطبقة السابعة فكيف يعدون من الفقهاء؟ إنهم نقلة إن اردنا أن نرفق بهم في الإسم” (أبو حنيفة لمحمد زهرة ص ٤٤٠-٤٤٥).
إن التقسيم الذي اشتهر عن ابن كمال باشا رحمه الله تعالى في جعل فقهاء المذهب الحنفي على سبع طبقات وإن لقي رواجاً وقبولاً عند بعض العلماء إذ قد يكون هو أول من حاول وضع قاعدة في هذا الشأن إلا أنه انتقد عليه بإجابات مقنعة سواء في أصل القسمة وجعلها سبع طبقات أو في توزيع الفقهاء على هذه الطبقات كما يتبين من كلام المرجاني واللكنوي والكوثري وأبي زهرة عليهم رحمة الله تعالى.
المؤلف: ضياء يونس