من غرائب ما وقع لي قبل سنين متطاولة أنه زارني عالم مغربي الأصل ينتسب هلالياً، ويدّعي أنه أصبح “سلفيا سنيا” بعد أن كان مالكياً تيجانياً، مظهراً كل اغتباط وسرور كأنه انتقل من ضلال الى هدى، وفاجأني بقوله: “إن الأمة ضلت في جميع البلاد بإعراضها عن الأخذ بالحديث واتباعها لآراء الرجال، لكن لا تخلو بلدة من بلاد الإسلام إلا ويوجد فيها من يأخذ بالحديث، رغم ما يلقى من الإضطهاد من قبل المقلدة لأراء الرجال سوى بلدتكم، فإننا لم نسمع من يأخذ بالحديث، ويحييد عن تقليد الرجال فيها، وقد بلغني أنك من أهل الحديث، وممن يأخذ بالحديث فسررت، ورأيت من الواجب زيارتكم”. وأفاض في هذا المعنى بحرارة وتحمس وأنا ساكت، فترددت لحظة. هل نتركه على حسن ظنه بهذا العاجز؟ أم أصارحه برأيي فيما يقول وأشوش خاطر هذا الزائر، فرأيت الأول غشاً يأباه المسلم، والثاني نصحاً، والدين النصيحة، فقلت يا أستاذ أراك تفرط في رمي طوائف السنة بالإعراض عن الحديث، وليس بينهم طائفة – فيما أعلم – لا تتفانى في الأخذ بالحديث، لكن فهم الحديث وإدراك علل الحديث ليسا من الأمور الميسورة لكل أحد، فلا يسوغ رميهم بالإعراض من غير ذكر ما أعرضوا عنه من الأحاديث وأبديت له أني على إستعداد لأناقشه في أية مسألة شاء.
على أي مذهب شاء. في أمر يكون الحديث على خلافه بكل جلاء، وطلبت منه مسألة من مسائل مذاهب السنة تكون مخالفتها للحديث في غاية الوضوح في نظره – وجرت هذه الكلمة على لساني فلتة من غير قصد – لكن صاحبي لم يكن موفقاً في اختيار مسألة تربكني حقاً، فقال: فها هو رفع اليد في الركوع قد صحت فيه أحاديث خالفتها “الحنفية”، فقلت: بل معهم مالك: عالم أهل المدينة، وسفيان الثوري؛ منافس أبي حنيفة في الكوفة، فكل هؤلاء يقولون بعدم الرفع، بل لم يصح حديث مطلقاً في الرفع غير حديث ابن عمر، وعلل الأحاديث الاخرى مشروحة في “الجوهر النقي”، و”نصب الراية” وغيرهما، وأما حديث ابن عمر في الرفع فلم يأخذ هو به في رواية مجاهد وعبد العزيز الحضرمي عنه، وترك الراوي الصحابي العمل بروايته علة قادحة فيها عند سلف النقاد، وليس هذا بمذهب للحنفية فقط كما تجد تفصيل ذلك في شرح علل الترمذي لابن رجب، وأما ابن مسعود فقد اتفق الرواة على انه روى حديث عدم الرفع وعمل به، وهو حديث (الا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، فلم يرفع يديه الا في أول مرة)، كما في سنن النسائي، وأبي داوود، والترمذي والأحاديث كثيرة في هذا المعنى. منها حديث البراء عند أبي داوود (كان الني صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه الى قريب من أذنيه ثم لا يعود)، فقال صاحبي: لكن لفظ (ثم لا يعود) انفرد به يزيد بن أبي زياد وهو مختلط. قلت: يوجد من يقول هذا، لكن تابعه الحكم بن عتيبة، وعيسى ابن أبي ليلى عند أبي داوود، والطحاوي، والبيهقي، وهما ثقتان كما تابع شريكاً الراوي عن يزيد بن هشيم، واسماعيل بن زكريا، ويونس، فيكون إعلال ابي داوود للحديث بالانفراد غلطاً مكشوفاً بما في الجوهر النقي وغيره، وأريته نصوصاً من بناية البدر العيني، ورسالة العلامة الأتقاني في الرد على السبكي وقلت: فيها حجج ظاهرة في عدم الرفع، وإن غالى في الاعتداد برواية شاذة في اللؤلؤيات.
ولعلك عرفت الآن أن عدم الرفع ليس بمخالف للاحاديث الصحيحة الصريحة، بل تكاد تكون الادلة تتكافأ في الجانبين؛ الرفع، وعدم الرفع، كما يميل الى ذلك ابن القيم في بعض كتبه على مغالاته في المسائل فتكون أنت أشد مغالاة منه حيث تعد عدم الرفع من أجلى المسائل في المخالفة مع أن التخيير هو مقتضى الادلة، بل ابن أبي شيبة لم يذكر هذه المسألة في عداد المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة الاحاديث وانت تفرط هذا الافراط، فقال: كنت أنا الساعي في طبع كتاب ابن أبي شيبة في الهند. قلت: لو سعيت في طبع (المصنف) بأكمله بدل طبع باب منه لغاية خاصة لكنت عملت عملاً يذكر، فعلم أني لست من الآخذين بالحديث
أخذ زملائه من أشباه العامة بأول حديث يلقونه من غير استعراض لجميع ما ورد في الموضوع، ولا بحث عنه، ولا نظر الى العمل المتوارث في امصار المسلمين خلفاً عن سلف، فلو كان هذا الداعي الى الأخذ بالحديث وترك الفقه المتوارث انصف في المسألة لقال بالتخيير بين الرفع، وترك الرفع بالنظر الى أدلة الفريقين، وحسم النزاع بدل ان يتحامل على عدم الرفع الذي ربما يكون هو اقوى حجة كما نقول.
ومن الغريب أني علمت فيما بعد أن هذا الزائر الساعي في طبع رسالة ابن أبي شيبة في الهند ازعج في الحجاز وفي الهند الى أن استقر في بلاد لا يجد فيها من يناقشه في المسائل الاسلامية، ولا ادري ما اذا كان تمكن من الاحتفاظ بتاج الاسلامي في رأسه، نسأل الله السلامة.
المصدر: محمد زاهد بن حسن الكوثري – النكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة