مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )) . [ متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
هذه السبع الموبقات، نكتفي من هذه الموبقات بالكبيرة الثانية ألا وهي السحر.
أيها الأخوة الكرام، السحرُ عالم عجيب تختلط فيه الحقيقة بالخرافة، والعلم بالشعوذة، كما تختلط الدوافعُ والبواعث بالغايات والأهداف، وهو عالم ظاهرهُ جميلُ خلاب يفتن القلوب البسطاء، ويخدعُ السذج والرعاع، وباطنه قذر عفن، يتجافى عنه أولو الألباب، وينأى عنه أصحابُ القلوب المستنيرة، والفطر السليمة، وتاريخ السحر تاريخٌ أسود قاتم، فهو خدعة شيطانية يضلُّ بها شياطين الإنس والجن عبادَ الله، فيوقعونهم بالسحر في أعظم جريمة، هي الكفرِ والشرك والضلال، من الكبائر.
((ليس منا من سحر أو سحر له،أو تكهن أو كهن)). [الطبراني عن عمران بن حصين، وأبي نعيم ]
ومن سحر كذب وكفر. أبعد هذا الوعيد من وعيد؟
تعريف السحر:
يُطلق السحر في لغة العرب على كل شيء خفي سببه، وقال أبو عبيد: أصلُ السحر صرفُ الشيء عن حقيقته إلى غيره،
قال عز وجل: ( فَأَنَّى تُسحَرُونَ ) [ سورة المؤمنون الآية : 89 ] .
أي فأنى تصرفون، وهذا الصرف قد يكون للعين التي ترى بخلاف الواقع، عين مسحورة، وقد يكون في القلب، فيحب بلا سبب ويبغض بلا سبب، معنى ذلك سحر.
وقد يكون هذا الصرف بالقول الحلال فهو البيان، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( إن البيان لسحرا )) [البخاري عَنْ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ] .
أما تعريف السحر في اصطلاح العلماء ـ علماء الدين ـ يقول الفخرُ الرازي: “اعلم أن لفظ السحر في عُرف الشرع مختص بكل
أمرٍ يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع”.
وعرف السحر الإمام ابن قدامة، فقال: “السحر هو عُقد ورُقي وكلام يتكلم به الساحر، ويكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له، فمنه ما يقتل، وما يُمرض، وما يأخذُ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، وما يبغضُ الإنسان بالآخر، أو يُحبب إلى إنسان آخر”.
– حقيقة السحر :
حقيقة السحر، اتفاق بين الساحر والشيطان على أن يقوم الساحر بفعل الكفر والشرك، وكل ما هو محرم، مقابل أن يساعده الشيطان، وأن يعينه في كل ما يطلبه منه الساحر، وكلما ازداد الساحر كفراً بالله، وعبادة الشيطان، كلما ازداد الشيطان له طاعة، أما الكرامة فلا تكون إلا للولي، وأما المعجزة فلا تكون إلا للنبي، ويجمع بينهما الخارق للعادة.
أيها الأخوة الكرام، “السحر يؤثر مرضاً، أو ثقلاً، أو عقلاً، أو حباً، أو بغضاً، أو نزيفاً، وهو موجود تعرفه عامة الناس، لكن الآية التي يطرب لها المؤمنون إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَنٌ )[ سورة الحجر الآية : 42 ].
وقوله تعالى : ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِإذنِ اللهِ ) سورة البقرة الآية : 102
– أنواع السحر :
بشكل دقيق السحر أنواع، منه ما ليس له حقيقة، ومنه ما هو تخيل لا حقيقة له، فالسحر الحقيقي هو الذي يعتمد فيه الساحر على الجن، والشياطين، وعباد الكواكب، والنجوم، وكلما ازداد الساحر كفراً، وزندقة، ازداد الجن والشيطان له طاعة ومعاونة، أما سحر التخيل الذي لا حقيقة له في الواقع مبني على الأخذ بالعيون، فترى الشيء على خلاف ما هو عليه، وهذا ما يسمى في علم النفس بالتنويم المغناطيسي .
السحر لا حقيقة له لكنه تخيل، يقول الحافظ بن كثير: “وإن سحر سحرة فرعون كان من هذا النوع”، وقد جاءت النصوص القرآنية صريحة بأنه كان تخيلاً وأخذاً بالعيون، قال تعالى: ( فَإذَا حِبَالُهُم وَعِصِيُّهُم يُخَيَّلُ إِلَيهِ سِحرِهِم أَنَّهَا تَسعَى ) [ سورة طه الآية : 66 ] .
وفي قوله تعالى: ( فَلَمَّآ أَلقَوا سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرهَبُوهُم وَجَآءُو بِسِحرٍ عَظِيمٍ ) [ سورة الأعراف الآية : 116 ] .
لأن إيقاع السحر في أعين الناس يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة، ومن ثم نخلص إلى أن السحر منه ما هو حقيقي وما هو تخيل، والله أعلم .
– حكم السحر :
وعن حكم الساحر، فقد قال الحافظ بن حجر: وقد دلت آية البقرة وهي قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) البقرة 102
من خلال هذه الآيات يتبين أن السحر كفر بوحدانية الله، ومتعلمة كافر أي الساحر، أما ما يتداول الناس :”تعلم السحر ولا تعمل به”، فليس حديثاً ولا أصل له.
إن حقيقة السحر أنه تعبّد للشياطين أو للكواكب، أما النوع الثاني الذي هو من باب الشعوذة فلا يكَّفر به أصلاً، لكن ينبغي أن نبتعد كلياً عن كل نشاط يتعلق بالسحر، ورد في بعض الأحاديث: “من أتى ساحراً فلم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ولا دعاء أربعين ليلة، أما إذا صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد”.
لذلك السحر كفر ومتعلمه كافر أي الساحر.
جاء الإسلام ليحفظ للناس دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعقولهم، وجعل هذه الضرورات الخمس قواعد الخلق في رعاية
مصالحهم ودفع مضارهم، فحرّم كل اعتداء عليها، فحرم الكفر والردة لإخلالها بأصل الدين، وحرم قتل النفس بغير حق، وحرّم الاعتداء على الأموال والأعراض والأنساب، وحرّم الاعتداء على العقول بكافة أنواع المسكرات الحسية والمعنوية .
والسحر لم يأت على قاعدة من هذه القواعد إلا وأفسدها، فالسحر والكفر قلما يفترقان، والسحر سبيل لتبذير المال وتضييعه، وهو مفسد للذرية بتفريق رباط الأسرة، وهو مدخل للزنا والاعتداء على الأعراض؛ وهو كذلك سبيل لاغتيال العقول وطمسها، فلا غرو حينئذ أن يقف الإسلام من السحر وأهله موقفا صارماً فقد حرم تعلمه وتعليمه، وأوجب كف الساحر عن سحره، وإقامة الحد عليه تطهيرا للمجتمع من شره ودجله، وحرم على الناس الذهاب إلى السحرة والاستعانة بهم .
وبين يديك أخي القارئ جملة من أحكام الشريعة الإسلامية، التي تبين لك كيف وقف الإسلام من السحر وأهله، وكيف تعامل
مع أعمالهم وإفسادهم .
حكم تعلم السحر وتعليمه:
اتفق العلماء على أن تعلم السحر وتعليمه وممارسته حرام، قال ابن قدامة – رحمه الله – في “المغني” “…فإن تعلُم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم” وقال الإمام النووي رحمه الله في “شرح مسلم”: ” وأما تعلمه – أي السحر – وتعليمه فحرام “.
ورغم اتفاقهم على حرمة تعلم السحر وتعليمه وممارسته إلا أنهم اختلفوا في تكفير فاعله، فذهب جمهور العلماء ومنهم مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم إلى تكفيره .
وذهب الشافعي إلى التفصيل، فإن كان في عمل الساحر ما يوجب الكفر، كفر بذلك، وإلا لم يكفر.
واستدل الجمهور القائلون بكفر الساحر بقوله تعالى: { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر } .
قال الحافظ في “الفتح”: ” فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذالك قوله في الآية على لسان الملكين:
{ إنما نحن فتنة فلا تكفر } فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا وهذا كله واضح “.
واستدل الشافعية بما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) متفق عليه . قالوا: دل الحديث على أن السحر ليس من الشرك بإطلاق، ولكن منه ما هو معصية موبقة كقتل النفس وشبهها .
واستدلوا أيضاً بما روي عن عائشة رضي الله عنها أن مدبَّرة لها سحرتها استعجالاً لعتقها فباعتها عائشة ولم تقتلها ” رواه الشافعي والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم على شرط الشيخين . قال ابن قدامة تعليقا على أثر عائشة : ” لو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ” .
قال الشيخ الشنقيطي : ” التحقيق في هذه المسألة – يعني تكفير الساحر – هو التفصيل . فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة ” البقرة ” فانه كفر بلا نزاع .. وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر. هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء .”
– عقوبة الساحر:
اختلف أهل العلم في عقوبة الساحر فذهب الحنفية إلى أن الساحر يقتل في حالين:
الأول: أن يكون سحره كفرا, والثاني: إذا عرفت مزاولته للسحر بما فيه إضرار وإفساد ولو بغير كفر . وذهب المالكية إلى قتل الساحر, لكن قالوا: إنما يقتل إذا حكم بكفره , وثبت عليه بالبينة لدى الإمام ,
وعند الشافعية: إن كان سحر الساحر ليس من قبيل ما يكفر به, فهو فسق لا يقتل به، إلا إذا قتل أحداً بسحره عمداً فإنه يقتل به قصاصاً .
وذهب الحنابلة إلى أن الساحر يقتل حداً ولو لم يقتل بسحره أحدا, لكن لا يقتل إلا بشرطين: الأول: أن يكون سحره مما يحكم بكونه كفرا مثل فعل لبيد بن الأعصم , أو يعتقد إباحة السحر . الثاني: أن يكون مسلماً, فإن كان ذميا لم يقتل ; لأنه أقرَّ على شركه وهو أعظم من – السحر , ولأن ( لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله ) .
واستدل من رأى قتل الساحر بأنه مرتد، والمرتد كافر وحكمه القتل، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) رواه البخاري .
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب كتاباً قبل موته بسنة ” أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ” قال الراوي: فقتلنا ثلاث سواحر في يوم . رواه أحمد وأبو داود .
كما روي قتل السحرة عن عدد من الصحابة منهم عثمان وابن عمر وأبي موسى وقيس بن سعد ، ومن التابعين سبعة منهم عمر بن عبد العزيز .
قال الشيخ الشنقيطي : ” والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي. والعلم عند الله تعالى، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير ” .
– فك السحر بالسحر ( النشرة )
اتفق الفقهاء على أن حل السحر بالرقى والأوراد الشرعية جائز ومشروع، أما حل السحر بسحر مثله فمحرم؛ لأنه لا يخرج عن كونه سحراً محرماً كغيره من أنواع السحر،
حل السحر بسحر مثله من عمل الشيطان, فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل العمل عن المسحور، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن النشرة ؟ فقال : ( هي من عمل الشيطان ) ذكره أحمد وأبو داود .
هذه بعض أحكام السحر تعلماً وتعليماً وممارسةً وهي أحكام صارمة، القصد منها التنفير عن هذا الفعل الشنيع واجتنابه، وحماية الناس من شره ومفاسده، فكم جلب السحر على الناس من شرور، وأوقع بينهم من عداوات، وأورث بينهم من أحقاد، وكم هدم من أسر، وأدخل من ضرر على العباد، ولا يمارسه إلا من باع دينه وذهب خلقه: ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } فينبغي للعاقل أن يجتبه أشد الاجتناب فلا يتعلمه مشافهة ولا قراءة من كتاب، ولا يأت ساحراً ولا يسأله فما وراءهم إلا الدمار والهلاك.
– آيات السحر في القرآن الكريم:
أيها الأخوة الكرام، آيات السحر في سورة البقرة، باعتبارها الأصل في أحكام السحر، ولأن بعض كتب التفسير قد شحنت بكثير من الأخبار الموضوعة المكذوبة في تفسير هذه الآيات، وسببُ نزول هذه الآيات أن الله تعالى أنزل إلى بني إسرائيل شريعة مباركة طيبة، هي شريعة التوراة، فتركوها، ونبذوها، واشتغلوا بالسحر الذي يعبدّهم للشيطان، فلما جاءتهم الشريعة الغراء التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، استمروا على ضلالهم في إتباع السحر، والإعراض عن الشريعة، وزعموا أن نبي الله سليمان إنما سُخرت له الجن والإنس والطير بالسحر، فأنزل الله هذه الآيات ذاماً لهم، مبيناً كفرهم وضلالهم، مبرئاً عبده ونبيه سليمان مما رماه به أهل الضلال والبهتان: ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ .
وذكر ابن الجوزي في زاد المسير قولاً عن ابن إسحاق في سبب نزول هذه الآيات فقال: “إنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت :
يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟ والله ما كان إلا ساحراً فنزلت هذه الآيات”.
وأما ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت وما روى عن علي وابن عباس وغيرهما فهذا كله من كذب اليهود.
وتفسير القاسمي يؤكد في قوله تعالى: ( وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُتَ ) .
أي هذه القصة لا أصل لها إطلاقاً، يقول الحافظ بن كثير: “والأحاديث والآثار الواردة في قصة هاروت وماروت لا أصل لها، وظاهر سياق القرآن الكريم هو إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى والله أعلم بحقيقة الحال” .
قال بعض العلماء: “إن السحر لا يُعمل إلا مع كفر بالله”.
قال الله تعالى : ( إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَنٌ ) . [ سورة الحجر الآية : 42 ] .
وقال الله تعالى : وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِن أَحَدٍ إِلاَّ بِإذنِ اللهِ . [ سورة البقرة الآية : 102 ] .
لذلك عمل الساحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عدّه النبي عليه الصلاة والسلام من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً، ومنه ما لا يكون كفراً، بل معصية كبيرة إن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا.
وقال القرطبي: “قال أهل الصناعة: إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والشرك، أو التعظيم للشيطان” ، إذاً فالسحر دال على الكفر
على هذا التقدير .
وقال بعض العلماء: “لما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يتأتى السحر من دون الشرك أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليحذر الناس من هذا العمل الكبير“.
وقال ابن عابدين: “ولعل ما نُقل عن الأصحاب ـ أي القول بكفر الساحر ـ مبني على أن السحر لا يتم إلا بما هو كفر كما يفيده قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ .
وقد أخبرنا القرآن أن سحرة فرعون كفروا بالله عز وجل، وتابوا إلى الله، وقَبِل الله توبتهم حين خروا ساجدين:
قال الله تعالى : قَالُوا أَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى . [ سورة طه : 70 ] .
لذلك عمل الساحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده
الآن ما حكم من يذهب إلى السحرة والعرافين والكهان؟ والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )). [مسلم عَنْ حفصه رضي الله عنها ]
وفي الحديث الصحيح : ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )). [أحمد والبيهقي والحاكم عَنْ أبي هريرة ]
قال صاحب فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد: “وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدق العراف أو الكاهن بأي وجه كان” .
وفي الحديث الذي رواه البزار بإسناد جيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( ليس منا من تطيّر أو تطيّر له أو تكهن أو تُكُهِّن له أو تسحر أو سُحر له ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)).
[ البزار عن عمران بن حصين]
قال شارح الحديث: ليس منا فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من أكبر الكبائر.
– من هو العراف ومن هو الكاهن:
قال البغوي: “العراف هو الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك”.
وقال عالم آخر: “إن العراف اسمُ للكاهن والمُنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلمون في معرفة الأمور بهذه الطرق” .
وقال الإمام أحمد: “العرافة طَرف من السحر والساحر” .
وقال أبو السعادات: “العراف هو المنجم”.
أما الكاهن فهو الذي يَّدعي علم الغيب.
سئل رسول الله هذا السؤال؛ ففي صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: سأل أُناس رسول الله عن الكُهان؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ليسوا بشيء ))، قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدثوننا أحياناً الشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها ، وفي رواية فيقرها في أذُن وليه قرَّ الدجاجة ـ أي يرددها في أذن الكاهن ـ فيخلطون فيها مائة كذبة)) . [ البخاري عن عائشة]
أيها الأخوة، لكن الحقيقة أن السحر والتنجيم والكهانة ليس مقصوراً على بلاد العرب المسلمين، بل هو أمر منتشر عند جميع الأمم.
خبر يلفت النظر صحيفة عربية تصدر في لندن، في عددها الخامس بعد المئتين ذكرت أن الرئيس الأمريكي ريجان وزوجته كانا يستعينان بالمنجمة في تحديد جدول الأعمال واتخاذ بعض القرارات .
وكان الرئيس الاندونيسي (سوهارتو) يجتمع بانتظام بالروحانيين والمشعوذين، وكان أحدهم يُقيم بصفة مستمرة في قصر الرئاسة .
واستشار الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان قارئاً للطالع في الانتخابات، قضية عامة وقد تصل إلى علية القوم، وإلى أضعف فئة في القوم عند المسلمين، وعند غير المسلمين.
ينبغي أن نحني جباهنا ذلاً وشكراً لله جلّ جلاله أن جعلنا موحدين، نعلم يقيناً أن الأمر كله بيد الله، وأن الملك لله، وأنه لا نافع ولا ضار إلا الله، ولا معطي ولا مانع إلا الله، ولا معز ولا مذل إلا الله، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فَلَا تَدعُ مَعَ اللهَ إِلَاهاً أَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ ) . [سورة الشعراء الآية : 213]
وأنه لا يقع شيء في هذا الكون كله إلا بأمره، وتحت سمعه وبصره، بل ما من ورقة تسقط من شجرة في هذا الكون إلا يعلمها، ويعلم ما في البر والبحر، ولا تخفى عليه خافية، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والإيمان بالسحر وقدرة الساحر على التنبؤ بالغيب، وتوهم المتوهم أن الساحر يوفق بين المرء وأهله، وأنه يزيد في الرزق، فهذا عين الضلال، وعين الحمق، وعين الغباء، وما عالجت هذا الموضوع ترفاً إلا لانتشار هذه الظاهرة في المجتمعات الإسلامية، أكثر من يعانون ما يعانون من عدم استقامتهم يلجؤون إلى كاهن أو ساحر، وقد يكون في العالم الإسلامي على شكل شيخ، يتعاون مع الجن ويبتز، وقد ينتهك الأعراض، هذه الحقيقة المرة، يقول الله عز وجل: (وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيبِ لاَ يَعلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَمَا تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعلَمُهَا وَلا حَبَّهٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرضِ وَلا رَطبٍ وَلاَيَابِسٍ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبينٍ ) . [ سورة الأنعام الآية : 59]
نحن كمؤمنين نعلم يقيناً أنه لا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تضر، أو أن تنفع، إلا بإذن الله جلّ وعلا، والأصل في هذا كله قول الله عز وجل بنص الآية الكريمة من أجل أن ترتاح القلوب وأن تطمئن النفوس، قال تعالى: ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ من أَحَدٍ إلاَّ بِإِذنِ اللهِ ) . [ سورة البقرة الآية : 102]
والقضية على الشكل التالي وحوش مخيفة، قاتلة، جائعة، لكنها مربوطة بأزمة محكمة بيد جهة قوية، عادلة، رحيمة، علاقتك ليس مع الوحوش، ولكن مع من يمسكها، فإذا قصرت لا سمح الله ولا قدر أو أسأت أو عصيت أرخى حبل أحد الوحوش: ( وَمَا هُم بِضَآرِّينَ من أَحَدٍ إلاَّ بِإِذنِ اللهِ ) [ سورة البقرة الآية : 102]
دليل آخر: بقوله تعالى : ( فَيكِدُنِي جَمِيعاً ثُمَّ لاتُنظِرُونِ <55> إِنِّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُو أخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّستَقِمٍ) . [ سورة هود الآية : 55-56 ] فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. بيدك الخير، إيتاء الملك خير ونزع الملك خير، لكن نزع الملك نعمة باطنة، والإعزاز خير والإذلال خير لكنه نعمة باطنة: قال الله تعالى : (عَلَيكُم نِعَمَهُ و ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَأَسبَغَ ) . [ سورة لقمان الآية : 20 ]
لو اجتمع سحرة أهل الأرض لا يستطيعون أن يؤثروا بسحرهم في مخلوق واحد إلا بإذن الله، علاقتك مع الله، اجعل الهموم هماً واحداً يكفك الهموم كله، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها، وجِّه قلبك إلى ملك الملوك ومالك الملوك، إلى جبار السماوات والأرض، وتوكل عليه، وثق به، فهو المرتجى والملاذ، ولا حول ولا قوة إلا به، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوّض إليه الأمر هداه، قال تعالى: ( أَلَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ ) . [ سورة الزمر الآية : 36]
((ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات بين يديه )) . [ رواه ابن عساكر عن كعب بن مالك ] .
يا صاحب الهم إن الهم منفرج ابشر بخير فإن الفارج الله
كن عن همومك معرضا وكل الأمور إلى القضا
وابشر بخيــر عاجل تنسى به ما قـد مضى
فلرب أمر مسخـط لك في عواقبـــه رضا
ولربما ضاق المضيـق ولربما اتســع الفضا
اللـــه يفعل ما يشــــاء فـــلا تكـــــن معـــتــرضا
الله عــــودك الجـــمــيـــل فقس على ما قد مضى
* * *
المرجع: غلا الوجدان