تمهيد
يقدم الإسلام النموذج الحي للإنسان الكامل، ممثلاً في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يقدمه الإسلام ليقتدى به فعلاً، وقولاً، وخلقاً، وقد وضع الإسلام قضية السحر في حجمها الطبيعي، وتناولها بما تستحقه من الإيضاح والتبصير تناولها تعريفا وتأثيرا وتشخيصا ووقاية، تعرض لها من جانب العرض وجانب الطلب، فحارب السحرة، وجعل حد الساحر القتل، كما هو الراجح من أقوال أهل العلم: قال الحافظ بن حجر في الفتح: (وذهب الجمهور إلى عدم قتله، ولكنه يعاقب، إلا أن يقتل بسحره فيقتل، أو يحدث حدثا فيؤاخذ به، وقال الإمام مالك: إن أدخل بسحره ضررا على مسلم نقض عهده بذلك ) ( فتح الباري – 5 / 277، 10 / 236 ).
والله قد خلق البشر وفطرهم على التعايش والاجتماع، وفي المجتمعات تتواصل العقول والمصالح والرغبات، وتوجد النفوس الخيرة والنفوس الشريرة، كسنة من سنن الله تعالى، ومن ذلك يتولد صراع دائم بين الطرفين، بين الحق والباطل، ومن بين تلك الشرور ” السحر ” وهي كلمة مكونة من ثلاثة حروف تمثل عالماً غريباً، مليئا بالخوف والرهبة في اكتشاف الغيب، والشعور بالقوة والاستبداد والتسلط، وفي كل الأحقاف والدهور وبين أوساط المجتمعات نقرأ عن السحر الذي عاش بين الجميع.
يقول الدكتور عبد الله الطيار الأستاذ بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت عنوان ” ضرر السحر على الفرد والمجتمع “: ( يصل الإنسان إلى قمة الشر حينما يبتعد عن منهج الله رب العالمين، فيتحكم في سلوكه الشيطان الرجيم، ويسيطر على أفعاله فيقع في الهاوية.
والوصول إلى قمة الشر إهلاك للمجتمعات البشرية، وعقبة في سبيل تقدمها وازدهارها.
والسحر دونما شك وصول إلى قمة الشر لأن الساحر يتجرد من عواطفه وأحاسيسه، وإنسانيته، وما سار عليه الناس في حياتهم، بل يتجرد من الرابطة التي بينه وبين خالقه، فيجحده ويشرك معه غيره، ويكفر به، ولذا كان السحر من أكبر الكبائر، وأخطر الأمراض التي تصيب المجتمعات، فتقوض بنيانها، وتهدد أركانها، وينتشر بسببه العدوان، وانتهاك الأعراض، وقتل الأبرياء، وسرقة الأموال) (بلاد الحرمين الشريفين والموقف الصارم من السحر والسحرة – ص 26 ).
وقد منع المسلمون من ارتياد أماكن السحرة، فالإسلام يعلن الحرب على السحر والسحرة، ويوصد كل الأبواب المؤدية إليهم، ويوفر سبلا لتشخيص المسحور وعلاجه، ويوفر أيضا سبلا لوقاية المسلم من خطر السحر، ويحدد الأخطار العظيمة الناتجة عن الذهاب للسحرة والكهنة، وأن فعله مخالف للفطرة السوية، فالحق جل وعلا كرم الإنسان بعقله، وأودع بين يديه القواعد والأصول للتعامل مع خالقه ومع من حوله، فيعدل ولا يظلم، ويتحلى بالأخلاق النبيلة السامية، والسحرة أناس ضالون مستهامون بحب الشر والإفساد، تقودهم أهواؤهم وشهواتهم، دون رادع ولا وازع، ويستعينون على تحقيق أغراضهم الفاسدة بالشياطين، فيتقربون إليها بكل ما هو بغيض لله عز وجل، ولذلك ترى وجوههم قاطبة عابسة، يعلوها البؤس والشقاء، والذلة والمهانة، بيوتهم ممتهنة، وقلوبهم خاوية، حرموا لذة الإيمان، وعاشوا في كدر وعناء، ولا بد للمسلم أن يحذر منهم ومن أفعالهم، خاصة أن فيها خروجا عن الملة والإسلام، وهذا موجب لغضب الله تعالى وعقوبته، وفيه كذلك ضياع للمال بغير حق، وخسران للمرأة التي تطرق أبوابهم لشرفها وعفافها وطهارتها، فيجب الحذر من الذهاب إليهم، والاستعانة بهم على قضاء الحوائج، وأن يجعل المسلم حاجته لله سبحانه وتعالى وحده، ويتوكل ويعتمد عليه، وخطورة اللجوء للسحرة في أمور الحياة الخاصة والعامة من إلحاق ضرر، أو جلب منفعة، أو درء مفسدة، دون اللجوء إلى مسبب الأسباب كفر بالله عز وجل، كما أن اللجوء إليهم والاستعانة بهم مع اللجوء إلى الله تعالى شرك مؤدي للكفر.
يقول فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان: ( إن خير الجهاد وأفضله القيام على أعداء الدين والوقوف في نحورهم كالسحرة والكهان والمشعوذين، فقد استطار شررهم وعظم أمرهم وكثر خطرُهم، فآذوا المؤمنين وأدخلوا الرعب على حرماتهم غير مبالين، وقد توعد الله المجرمين بسقر وما أدراك ما سقر، فقد أخبر الله في كتابه العزيز أن الساحر كافر فقال: ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) ( سورة البقرة – الآية 102 ).
وإلى كفر الساحر وخروجه من الدين ودخوله في سلك أصحاب الجحيم ذهب جماهير العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة.
يقول د. عبدالسلام السكري المدرس بكلية الشريعة والقانون بدمنهور: (الإسلام يعتبر الساحر إما كافراً إذا ارتكب ما يؤدي إلى الكفر أو عاصياً عصياناً شديداً لأنه على الأقل يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر والعبرة في هذا بحال الساحر وطريقة استخدامه للسحر، ونؤكد لك هنا أن كل من مارسوا السحر أو يمارسونه ما ماتوا بخير ولن يموتوا عليه، حياتهم حياة سوء ومصيرهم مصير سوء، وفي الدنيا لا بد أن يصابوا بإصابات بالغة رهيبة أخفها الجنون أو فقدان الذاكرة أو الخوف المميت في حياتهم من كل شيء، فالمصائب تتوالى عليهم من كل اتجاه وصدق الله القائل ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) “ سورة يونس – الآية 77 ” ) (السحر بين الحقيقة والوهم في التصور الإسلامي – ص 23 – 24 ).
قال الأخ جمال الحارثي: ( أنني رأيت للسحرة المشعوذين – الذين يتلاعبون بعقول الناس البسطاء السذّج – نفوذاً كبيراً، كانتشار النار في الهشيم ، فتارة يأتون من باب العلاج ، وتارة من باب الألفة والتحبيب بين الزوجين، وتارة من باب البحث والتنقيب عن الماء، وتارة من باب الانتقام لمن جاء يطلب منه ذلك، فانتشر البلاء من هؤلاء السحرة، وفسدت عقائد كثير من العامة.
وقد رأيت أن حيلهم انطلت على بعض المثقفين، وعلى بعض المتنسكين خاصة بتلاوتهم بعض الآيات من كتاب الله – عز وجل – تظاهراً بأنهم يقرأون القرآن.
وقد تشتت شمل كثير من الأسر بسبب هؤلاء السحرة الأشقياء، فلو لم يكن في قتلهم إلا كفّ فسادهم تعزيراً لهم لكفى، فكيف! وهم قد جمعوا إلى جانب سعيهم في الأرض بالفساد؛ الكفر بالله – تعالى – بعبادتهم الشياطين ) (أقوال الأئمة الأبرار في الحكم على السحرة الأشرار – ص 7 – 8 ).
قال الأستاذ سعد خلف العفنان: ( إن السحر تحول إلى عمل من أعمال الغش والخداع المحتقرة التي لا يمارسها إلا السفلة من الناس وبتكتم وسرية بالغين بعد أن كانت مهنة الطبقة العليا من المجتمع ) ( حقيقة السحر – ص 33 ).
ولا شك أن الإسلام حرم السحر والعرافة والكهانة، والحكمة من ذلك هو الأمور الهامة التالية ( انظر بتصرف – تفسير المراغي – 1 / 178 ، 179 ، تفسير البيضاوي – تعليقات وشروح على أنوار التنزيل وأسرار التأويل – 1 / 117، تفسير آيات الأحكام للصابوني – 1 / 87 ، 88 ، البحر المحيط – لابن حيان الأندلسي – 1 / 333 ) :
1- حرص الإسلام على سلامة العقيدة:
حرص الإسلام على سلامة العقيدة في قلب المسلم ليكون دائماً وأبداً متصلاً بالله معتمداً عليه مقراً له بالربوبية، مستعيناً به على الشدائد في هذه الحياة لا يتوجه لغيره في الدعاء ولا يقر لسواه بأي تأثير أو تحكم في قانون من قوانين الطبيعة التي خلقها الله تعالى وسيرها بعلمه وقدرته وإرادته؛ فالنجوم والكواكب مسخرات بأمره كغيرها من خلق الله تسير وفق الخط المرسوم لها من الأزل؛ لا تؤثر حركتها على الإنسان الذي خلقه الله على هذه الأرض؛ وقدر له رزقه وعمره، فلا ينتهي عمر إنسان ما بظهور كوكب أو إختفائه؛ ولا يزيد رزق إمرئ ولا ينقص.
فإذا زعم إنسان إنه يعلم الغيب باتصاله بالكواكب وتعظيمه لها واتصاله بالجن والشياطين وادعى بذلك أنه يستطيع أن يؤثر في قوانين هذه الحياة ويتحكم في مسيرتها الطبيعية بما يخرجها عما رسم لها يكون بذلك قد خالف شريعة الله وتجاوز حدوده التي وضعت له؛ فلا جرم أن يحكم عليه بالكفر لتعظيمه غير الله واستعانته بغير الخالق؛ وإثبات التأثير في خلق الله لغير البارئ.
2- السحر يصد عن العمل بالدين وأحكامه:
قص علينا القصص القرآني للذكرى؛ وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر؛ وكيف صد السحر اليهود عن أن يهتدوا بالنبي الذي بشر به كتابهم وبين لهم صفاته وأمرهم بالإيمان به؛ ولا شك أن تركهم لبعض كتابهم كتركهم له كله؛ لأنه يذهب باحترام الوحي ويفتح الباب لترك الباقي.
3- تعلم السحر واستخدامه كفر:
يعتبر القرآن الكريم السحر وتعلمه واستخدامه كفراً؛ لأن الإنسان يتعلم ما يضره ولا ينفعه، ويكفي أن يكون الضرر هو الكفر والعياذ بالله؛ لأن العلم يجر غالباً إلى العمل؛ والعمل بالسحر ضرر لا نفع فيه؛ إذ لا نفع في السحر عموماً سواء من ناحية مجرد العلم به أو العمل؛ كلاهما غير مقصود وغير نافع في الدارين لأن المؤثر في الحقيقة هو الله؛ وفي هذا دليل على أن التحرز عن السحر واجب.
4- خسران الدنيا والآخرة:
من يستبدل ما تُعلّمه له الشياطين بكتاب الله تعالى؛ فقد خسر الدنيا والآخرة والذي يشتري السحر ويفضله على كتاب الله لا نصيب له في الآخرة لأنه حين يختار السحر ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة.
فما أسوأ ما باع به نفسه؛ لقد باع نفسه بثمن ضئيل لا نفع فيه واشترى ما لا نفع له في الآخرة؛ ودفع نفسه مقابله؛ فهو خاسر في كل حال، فما باعه خسره وهو نفسه؛ وما اشتراه خسره لأنه لا ينفع في الآخرة.
5- ما فيه من إلحاق الضرر بالناس وإيذائهم:
إن الساحر قد يستطيع إيصال الضرر والبلاء والأذى بالناس وقد يصل بذلك إلى التفريق بين المرء وزوجه ولا يقتصر ضرره على المسحور بل يتعدى إلى من تعلمه.
فلما ذكر الله تعالى إنه قد يحصل بالسحر الضرر ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل ذلك به بل هو أيضاً يضر من تعلمه؛ ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع عنه لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع نفى عنه النفع بالكلية وأتى بلفظ ” لا ” لأنها ينفي بها الحال والمستقبل؛ والضرر وعدم النفع مختص بالدنيا والآخرة لأن تعلمه وإن كان غير مباح فهو يجر إلى العمل به وإلى التنكيل به إذا عثر عليه وأن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا؛ أما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب، فيكفي المسلم رادعاً أن يعلم أن سيد المرسلين قال عن السحر إنه شر وأمر بدفنه حتى لا يتذكر الناس السحر أو يفتح باباً.
المؤلف: ممدوح العنزي