السلف هم العلماء العدول الوارثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقائق والمعارف والعقائد. ويمكن أن يقال: هم السادة الأخيار إلى نهاية المائة الثالثة من الهجرة النبوية الشريفة المباركة، وانتهى اليه – تقريباً – دور تدوين الحديث الشريف والكلام على رجاله؛ وأعني بأولئك السادة الأخيار: كبار الأئمة الفقهاء، والمحدثين، والأصوليين، والمفسرين، وأمثالهم من علماء الإسلام، وتلاميذتهم، وأتباعهم في عصرهم وبعدهم، وعليه الكثير من العلماء وأتباعهم إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله تعالى.
قال السلف: الأصل الإيمان بجميع ما جاء من عند الله تعالى وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق صفات الله تعالى، وإمراره على ما جاء واعتبار فهمه هو قراءته، وعدم الخوض فيه بشيء من الكلام قط.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة الثاني رحمهما الله تعالى: اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وقال: ما وصف الله تعالى به نفسه فقراءته تفسيره. (ذكره اللالكائي في شرح السنة)
وذكر البيهقي بسنده إلى إسحاق بن موسى الأنصاري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية.(الأسماء والصفات ص ٢١٤)
ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن حديث الرؤية، والنزول، ونحو ذلك قال: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى. (شرح السنة لللالكائي)
قال عبد الملك بن وهب: كنا عند مالك بن أنس رحمه الله تعالى فدخل عليه رجل فقال: يا أبا عبد الله (الرحمن على العرش استوى) كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال: (الرحمن على العرش استوى) كما وصف نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. وفي لفظ له رحمه الله تعالى بطريق يحيي بن يحيي: (الإستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً فأمر به فأخرج).
وروي ذلك عن ربيعة أستاذ مالك رحمهما الله تعالى، فقال عبد الله بن صالح ابن مسلم: سئل ربيعة الرأي عن قول الله تبارك وتعالى: (الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول والإستواء غير معقول ويجب عليّ وعليك الإيمان بذلك كله.
قال الإمام البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: هذه نسخة الكتاب الذي أملاه الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب في مذهب أهل السنة فيما جرى بين محمد بن إسحاق بن خزيمة (كتابه التوحيد فيه ما ليس معتقد أهل السنة والجماعة) وبين أصحابه فذكرها، وذكر فيها ( الرحمن على العرش استوى ) بلا كيف. والآثـار عن السلف في هذا كثيرة، وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإليها ذهب الإمام أحمد بن حنبل والحسين بن الفضل البجلي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي .. إلخ. (الأسماء والصفات ص ٤٠٨-٤١٠)
وقال الإمام البغوي في شرح السنة: أهل السنة يقولون الإستواء على العرش صفة الله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل، وذكر خبر الإمام مالك رحمه الله تعالى.
سئل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في حديث النزول فقال: ينزل بلا كيف، كذا في (الأسماء والصفات ص ٤٥٦). وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي في (بيان السنة والجماعة): ونقول إن الله تعالى يغضب، ويرضى، وليس كأحد من صفات الورى، قال شارحه الشيخ عبد الغني الميداني – صاحب اللباب في شرح الكتاب في الفقه الحنفي – رحمه الله تعالى: لأنه تعالى منفرد بصفاته لذاته، فكما لا تشبه ذاته الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، ولا يؤولان بأن المراد ببغضه ورضاه إرادة الإنتقام ومشيئة الإنعام أو المراد غايتهما من النقمة إلى النعمة. قال فخر الإسلام الإمام البزدوي علي بن محمد – صاحب (المبسوط) في الفقه الحنفي ويقع في ٣٠ جزءاً وهو مطبوع – في أصوله: إثبات اليد، والوجه عندنا حق، لكنه معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن درك الوصف، وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات على وجه المعقول، فصاروا معطلة، ثم قال: وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص، أي الآيات القطعية، والدلالات اليقينية، وتوقفوا فيما هو من المتشابه، وهو الكيفية، ولم يجوزوا الإشتغال بطلب ذلك، كما وصف الله تعالى الراسخين في العلم فقال: (يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
وقال الشيخ علاء الدين بن محمد بن عابدين – صاحب حاشية ابن عابدين على الدر المختار – رحمهما الله تعالى في بحث المتشابهات من كلام الله: ومن هذا القبيل الإيمان بحقائق معاني ما ورد من الآيات، والأحاديث المتشابهات كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)، و (يد الله فوق أيديهم) وقوله عليه الصلاة والسلام: “ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا” .. الحديث ما ظاهره يُفهم أن الله تعالى له مكان وجارحة فإن السلف كانوا يؤمنون بجميع ذلك على المعنى الذي أراد الله تعالى وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن تطالبهم أنفسهم بفهم حقيقة شيء من ذلك حتى يطلعهم الله تعالى عليه. (الهدية العلائية ص ٤٧١)
وقال التابعي الجليل الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في (الفقه الأكبر) له: له يد، ووجه، ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته ونعمته لأنه فيه ابطال الصفة وهو قول أهل القدر والإعتزال، لكن يده صفته بلا كيف، وغضبه، ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف. (الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاريء ص ٥٨-٥٩)
وقال المحقق المتقن الشيخ شعيب الأرنؤوط – محقق سِيَر أعلام النبلاء للذهبي، وشرح السنة للبغوي، وزاد المسير لابن الجوزي وغيرها – في مقدمة (أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات) للشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي: ولا بد لي من التنويه على أن مذهب السلف لا يضره أن يكون بعض المنتسبين إليه قد أثبتوا خطأً صفات لله تعالى اعتماداً على أحاديث ضعيفة واهية التبس عليهم أمرها؛ لأنهم ليسوا من أهل الشأن فإن صنيعهم هذا لا علاقة له بصحة وسلامة المنهج الذي انتهى إليه السلف، فما كان من هذا القبيل مما هو منشور في بعض الكتب يُرَدّ ولا يقبل ويتبع في ذلك القاعدة العامة في هذا الباب وغيره في الإعتماد على ما صح من الأحاديث وردّ سواه. (اقاويل الثقات ص ٢٣ طبع مؤسسة الرسالة)
قلت: وما نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: (استوى على العرش) استقر على العرش وقد امتلأ به أو صعد إليه أو استوى عنده الخلائق، وما الى ذلك، فذلك من رواية أبي صالح، ومحمد بن مروان الكلبي؛ قال البيهقي: كلهم متروك عند أهل العلم بالحديث لا يحتجون بشيء من رواياتهم لكثرة المناكير فيها، وظهور الكذب منهم في رواياتهم! ونقل عن حبيب بن أبي ثابت كنا نُسمّيه “دروغ زن”، يعني أبا صالح مولى أم هانيء وذكره بسنده إلى علي بن المديني قال: سمعت يحيي بن سعيد القطان يحدث عن سفيان قال: قال الكلبي: قال لي صالح: كل ما حدثتك كذب.
وعن سفيان عن الكلبي قال: قال لي أبو صالح: انظر كل شيء رويت عني عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا تروه. وقال أبو معاوية: قلنا للكلبي بيّن لنا ما سمعت من أبي صالح وما هو قولك فإذا الأمر عنده قليل.
وقال يحيي بن معين: الكلبي ليس بشيء، وقال البخاري: محمد بن مروان الكلبي الكوفي صاحب الكلبي سكتوا عنه، ولا يُكتب حديثه البتة، قلت: وكيف يجوز أن تكون مثل هذه الأقاويل صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم لا يرويها ولا يعرفها أحد من أصحابه الأثبات مع شدة الحاجة إلى معرفتها. وما تفرد به الكلبي، وأمثاله يوجب الحدّ – لله تعالى – والحد يوجب الحدث لحاجة الحد إلى حدّ خصه به، والباري قديم لم يزل. (الأسماء والصفات ٤١٣-٤١٥)، وقد علم المشتغلون بالتفسير والحديث أن ابن عباس رضي الله عنهما هو أكثر من افتري عليه من أقاويل في التفسير والحديث ولعل ذلك كان لمكانته رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعائه له أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، ولكونه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجد له تفاسير عدة في آية واحدة! وتجد فيها تنافراً وتعارضاً ولا حول ولا قوة الا بالله. ألا ليت من يُعِدّ رسالة دكتوراه أن يكتب في ابن عباس رضي الله عنه وجوانبه العظيمة في العلوم ويمحص تمحيصاً ما رُوي عنه من أقوال في التفسير وفي الإعتقاد وأحاديث في ذلك وذاك.
وظهر من قال بغير دليل من الكتاب والسنة: إن الله تعالى استوى بذاته فوق العرش بدلاً من (استوى على العرش) الثابت بنص القرآن الكريم، وإن الله بائن من خلقه، قال الامام الكوثري رحمه الله تعالى: لفظ (بائن من خلقه) لم يرد في كتاب، ولا سنة، وإنما أطلق من أطلق من السلف بمعنى نفي الممازجة، رداً على جهم لا بمعنى الإبتعاد بالمسافة تعالى الله عن ذلك، كما صرح بذلك في الأسماء والصفات، وأما لفظ (فوق العرش) فلم يرد مرفوعاً إلا في بعض طرق حديث الأوعال من رواية ابن منده في التوحيد، وعبد الله بن عميرة في سنده مجهول الحال، ولم يدرك الأحنف فضلاً عن العباس. (التعليق على السيف الصقيل للسبكي ص ٤٧)
وقال محمد ناصر الدين الألباني في مقدمة مختصر العلو للإمام الذهبي – بعد كلام – : ومن هذا العرض تبين أن هاتين اللفظتين (بذاته، بائن) لم تكونا معروفتين في عهد الصحابة رضوان الله عليهم – قلت: ولا في عهد التابعين – ولكن لما ابتدع الجهم وأتباعه القول بأن الله في كل مكان، اقتضى ضرورة البيان أن يتلفظ هؤلاء الأئمة الأعلام بلفظ (بائن)، دون أن ينكره أحد منهم. (ص١٨)، أي من أولئك الذين أحدقوا.
قلت: لقد رأى أولئك – دون دليل – أن سبيل الرد على الجهم الذي حُكم عليه بالكفر وقُتل عليه والحمد لله، هو التلفظ بما يوهم التشبيه والتجسيم في حق الله تعالى، والحلول بالمكان، فقالوا: مستو بذاته، وبائن عن خلقه فدفعوا تعطيل الجهم وتأويله بشيء قريب من حيث اللفظ من تجسيم محمد بن كرام السجستاني حتى ظهروا كأنهم أولياء على الله تعالى يضيفون إليه ما شاؤوا من الألقاب حرصاً على التوحيد.
ألا ليتهم سكتوا، ونزهوا، وفوضوا، كما فعل السلف، ولقد تقدم قول التابعي الجليل أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد ان ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته، ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً.
وقال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عز وجل لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع، وأجمع المحققون على أن الظواهر يصح تخصيصها، أو تركها بما لا يقطع به من أخبار الآحاد والأقيسة، وما يترك بما لا يقطع به كيف يقطع به!! (التعليق على السيف الصقيل في الرد على ابن الزفيل ص ٥٨)