الكلام عن التكبير في أيام التشريق يشتمل على ستّ مسائل: (تفسير التكبير / وجوب تكبير التشريق / وقته / محل أدائه / فيمن يجب عليه / وفي أنه هل يُقضى بعد الفوات في الصلاة التي دخلت حدّ القضاء؟)
١- المسألة الأولى: تفسير التكبير:
لقد اختلفت الروايات عن الصحابة – رضي الله عنهم – في تفسير التكبير، فقد رُوي: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد و هو قول علي، و ابن مسعود – رضي الله عنهما – وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الحي القيوم يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير، وإنما أخذنا بقول علي، وابن مسعود – رضي الله عنهما – لأنه المشهور و المُتوارث من الأمة(والتوارث حجة)؛ ولأنه أجمع؛ لاشتماله على التكبير ( أي الله أكبر) و التهليل (أي لا إله إلا الله) و التحميد (أي ولله الحمد)؛ فكان أولى .
وقيل: إن مأخذ التكبير من جبريل، وإبراهيم، وإسماعيل صلوات الله عليهم، فإن إبراهيم لما أضجع إسماعيل للذبح أمر الله عز وجل جبريل عليه السلام حتى يذهب إليه بالفداء فلما رأى جبريل أنه أضجعه للذبح قال: الله أكبر الله أكبر كيلا يُعجّل بالذّبح، فلما سمع إبراهيم صوت جبريل عليه السلام وقع عنده أنه يأتيه باللسان. فهلّل الله تعالى وذكره بالوحدانية فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما وقع عنده أنه فُدي، فحمد الله تعالى وشكره فقال: الله أكبر ولله الحمد، فثبوته على هذا الوجه بهؤلاء الأجلّاء فلا يجوز أن يأتي بالبعض ويترك البعض.
فالحاصل عن كيفيّة التكبير عند السادة الحنفيّة، نقول: التكبير عندنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
٢- المسألة الثانية: وجوب التكبير:
الصحيحُ في حكم التكبير في أيام التشريق أنّه واجب، وقد سمّاه الكرخي : سنّة، ثم فسّره بالواجب، فقال: تكبير التشريق سنة ماضية، نقلها أهل العلم وأجمعوا على العمل بها، و إطلاق اسم السنة على الواجب جائز؛ لأن السنة عبارة عن الطريقة المرضية أو السيرة الحسنة، وكل واجب هذه صفته . و الأصل فيه قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} [سورة البقرة] قيل بأن قول الله هنا يحتمل أربع وجوه:
- قيل: إنه أراد بالأيام المعدودات أيام النحر والذبح، أي: اذكروا الله بالنحر والذبح في أيامكم. فهو عند أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، يوم النحر و يومان بعده .
- وقيل: أراد بالأيام المعدودات أيام رمي الجمار، و دليله قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، و هي أيام التشريق، و هي ثلاثة أيام بعد النحر (أي الحاصل أيام عيد الأضحى الأربع).
- وقيل: الأيام المعدودات هي أيام التشريق.
- وقيل: هي أيام العشر (أي العشر من ذي الحجة). وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ((وأفضل ما قُلت و قالت الأنبياء قبل يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)) وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام: صلّى الفجر يوم عرفة وقال: ((الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد)).
٣- المسألة الثالثة: وقته:
لقد اختلف الصحابة – رضي الله عنهم – في ابتداء وقت التكبير وانتهائه، اتفق شيوخ الصحابة نحو عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعائشة – رضي الله عنهم – على البداية بصلاة الفجر من يوم عرفة؛ وبه أخذ علماؤنا في ظاهر الرواية، واختلفوا في الختم؛ فقد احتج أبو يوسف و محمد بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وهي أيام التشريق، فكان التكبير فيها واجباً، ولأن التكبير شُرع لتعظيم أمر المناسك، وأمر المناسك إنما ينتهي بالرمي، فيمتد التكبير إلى آخر وقت الرمي، وبما أن الأخذ بالراجح أولى، وههنا لا رجحان، بل استوت مذاهب الصحابة – رضي الله عنهم – في الثبوت بالنسبة للقول بالختم وفي الرواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، إلا أنها تعارضت في المضمون، فأخذنا بالرواية التي فيها أكبر عدد من الأيام من باب الاحتياط.
فالحاصل أن وقت التكبير عندنا يبدأ بصلاة الفجر من يوم عرفة، و يُختم عند صلاة العصر من آخر أيام التشريق، أي يُختم عند صلاة العصر من اليوم الرابع و الأخير من عيد الأضحى؛ فأيام التشريق كما ذكرنا هي الأيام الثلاث بعد يوم النحر أي الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر من ذي الحجة.
٤- المسألة الرابعة: محل أدائه:
وأما محل أدائه: فدُبُر الصلاة وأثرها وفورها، من غير أن يتخلل ما يقطع حرمة الصلاة، حتى لو قهقه، أو أحدث متعمّداً، أو تكلم عامداً أو ساهياً، أو خرج من المسجد، أو جاوز الصفوف في الصحراء – لا يُكبر؛ لأن التكبير من خصائص الصلاة، حيث لا يُؤتى به إلا عقيب الصلاة، فيُراعى لإتيانه: حُرمة الصلاة، وهذه العوارض تقطع حرمة الصلاة فيقطع التكبير. ولو صرف وجهه عن القبلة ولم يخرج من المسجد، ولم يجاوز الصفوف، أو سبقه الحدث – يُكبّر؛ لأن حرمة الصلاة باقية؛ والأصل هنا: أن ما يمنع بناء بعض الصلاة على البعض يمنع التكبير، وما لا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض لا يمنع التكبير؛ لأن التكبير شُرع متصلاً بالصلاة كأفعال الصلاة شُرعت متصلة ببعضها البعض. وفي المحيط البُرهاني: الحدث العمد يمنع التكبير لأنه يمنع البناء، والحدث ساهياً لا يمنع التكبير؛ لأنه لا يمنع البناء إلا أن هناك أمراً يلزمه الذهاب لتجديد الوضوء و هنا لا يلزمه؛ لأن التكبير ليس من أفعال الصلاة، ولا يُؤدّي في حرمة الصلاة، فلا يُشترط له الوضوء ولكن لو ذهب وتوضأ كان أفضل؛ لأن ذكر الله تعالى مع الطهارة تكون أفضل. وللحاج يُكبّر ومن ثم يُلبّي.
وعندنا لا يُكبّر عقيب صلاة العيد لأنه سُنة، ويكبر عقيب الجمعة؛ لأنها فريضة كالظهر؛ فلنا ما رُوي عن علي، وابن مسعود – رضي الله عنهما -: ((أنّهُما كانا لا يُكبّران عَقيب التّطوُّعات))، ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك؛ فحل محل الإجماع، ولأن الجهر بالتكبير بدعة إلا في موضع ثبت بالنص، وما ورد النص إلا عقيب المكتوبات، ولا يُكبّر عقيب الوتر عندنا ولا تكبير على المُتطوّع بصلاته.
٥- المسألة الخامسة: على من يجب التكبير:
وأمّا الكلام فيمن يجب عليه التكبير فهناك قولان:
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: لا تجب هذه التكبيرات إلا على الرجال العاقلين المقيمين الأحرار، من أهل الأمصار، والمصلّين المكتوبة بجماعة مستحبة، فلا يجب على النسوان، والصبيان، والمجانين، والمسافرين، وأهل القُرى، ومن يُصلّي التطوع والفرض وحده. ولو اقتدى المسافر بالمقيم وجب عليه التكبير، لأنه صار تبعاً لإمامه؛ ألا ترى أنه تغير فرضه أربعاً؛ فيكبر بحكم التبعية، وكذا النساء إذا اقتدين برجل وجب عليهن؛ على سبيل المتابعة، فإن صلّين بجماعة وحدهن فلا تكبير عليهن، لأن أمر النسوان مبني على الستر لا الإشهار.
أما قول الصاحبين(محمد وأبو يوسف) رحمهما الله تعالى: التكبير يتبع الفريضة وهو واجب على كل من صلى المكتوبة، منفرداً كان أو مسافراً أو من أهل القرى، والفتوى على قولهما.
٦– المسألة السادسة: في بيان قضاء التكبير:
وأما بيان حكم التكبير فيما دخل من الصلوت في حد القضاء فنقول: لا يخلو؛ و هنا يوجد أربع احتمالات، فإن:
فاتته الصلاة في غير أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق – لا يُكّر عَقيبها؛ لأن القضاء على حسب الأداء؛ وقد فاتَتهُ بلا تكبير؛ فيقضيها كذلك.
فاتته الصلاة في هذه الأيام، فقضاها في غير هذه الأيام – لا يُكبّر عَقيبها أيضاً، وإن كان القضاء على حسب الأداء، وقد فاتَتهُ مع التكبير، لأن رفع الصوت بالتكبير بدعة في الأصل إلّا حيث ورد الشرع؛ والشرع ما ورد به في وقت القضاء فبقي بدعة. والتكبير ذكرٌ، والسنة في الأذكار المُخافتة؛ لقوله تعالى: {ادعوا ربّكُم تَضَرُّعاً وَخُفيَة}[الأعراف:55] ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: ((خَيرُ الدُّعاءِ الخَفِيُّ))؛ ولهذا هو أقرب إلى التضرّع والأدب، وأبعد عن الرياء، فلا يُترك هذا الأصل إلّا عند قيام الدّليل المُخصّص…
فاتته الصلاة في هذه الأيام، وقضاها في العام القابل من هذه الأيام – لا يُكبّر في ظاهر الرواية، لما بيّنّا أن رفع الصوت بالتكبير بدعة إلا في مورد الشرع؛ والشرع ورد بجعل هذا الوقت وقتاً لرفع الصوت بالتكبير عقيب صلاة هي من صلوات هذه الأيام؛ ولم يرد الشرع بجعله وقتاً لغير ذلك؛فبقية بدعة، كأُضحية فاتت عن وقتها؛ أمه لا يمكن التقرب بإراقة دمها في العام القابل وإن عاد الوقت؛ وكذا رمي الجمار؛ لما ذكرنا؛ فكذا هذا؛
فاتته الصلاة في هذه الأيام وقضاها في هذه الأيام من هذه السنة يكبر – لأن التكبير سنة الصلاة الفائتة؛ وقد قُدّر على القضاء؛ لكون الوقت وقتاً لتكبيرات الصلوات المشروعات فيها.
انتهى. وختاماً: لا بُدّ من التنويه إلى أننا ننتمي إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان؛ فلا ننتمي إلى شخصه بل إلى مدرسته؛ وعليه فإننا أتباع المذهب الحنفي؛ فلا حرج إن تعارضت بعض فروعنا أو أحكامنا في بعض المسائل مع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، والمبدأ هو الأصول التي وضعها إمامنا، ومن ثم من خلال اجتهادات أعلام المذهب وترجيحاتهم في المذهب وصلنا إلى ما وصلنا إليه من أحكام…
المصادر:
- كتاب المبسوط في الفقه الحنفي لشيخ الإسلام أبي بكر السرخسي الحنفي رحمه الله.
- كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للإمام علاء الدين الكاساني الحنفي رحمه الله.
- كتاب المُحيط البُرهاني في الفقه النُّعماني للإمام العلّامة بُرهان الدين ابن مازة البُخاري الحنفي رحمه الله.
- تفسير القرآن العظيم المُسمّى تأويلات أهل السنة للإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله.
- كتاب الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري في فروع الحنفية للإمام أبي بكر الزبيدي رحمه الله.