نشأة المدرسة الماتريدية وأطوارها
يعتبر الشيخ الماتريدي مع الشيخ أبي الحسن الأشعري هما المؤسسان لمذهب علم الكلام السني الذى يقوم على نصرة عقيدة أهل السنة والجماعة عن طريق العقل، والشيخ الماتريدي وإن كان معاصرا للأشعري إلا إنه لم يثبت وجود صلات بينهما، كما أن طريقة الماتريدي ومنهجه الكلامي فيه مخالفة من بعض جوانبها لطريقة الأشعري ومنهجه الكلامي، وإن كان الإتفاق بينهما كبيراً فى الهدف وطريقة الوصول إليه، لذا كان لا بد من التعرف بآراء الشيخ الماتريدي، وعدم الإكتفاء بمعرفة رأي الإمام الأشعري كممثل لآراء أهل السنة. ويعد إمام الهدى أبو منصور الماتريدي توفي (٣٣٣ هـ) – في نظر الشيخ الكوثري والذي هو من كبار العلماء الماتريدية المعاصرين – شيخ أهل السنة فى بلاد وسط آسيا فيما يعرف قديما ببلاد ما وراء النهر، حيث كان يعيش فى بلاد تغلب أهل السنة فيها على أصناف المعتزلة تغلباً تاماً، من ثم تمكن الماتريدي من السير على الاعتدال التام فى أنظاره فأعطى النقل حقه والعقل حكمه، بخلاف الأشعري – فيما يرى الشيخ الكوثري – الذى ابتعد عن العقل مرة، وعن النقل أخرى بسبب طول الجدال مع المعتزلة والحشوية.
ويقول الإمام البياضي فى إشارات المرام: (وقد رواها – يعنى رسائل أبي حنيفة الخمسة فى علم الكلام: الفقه الأكبر، والأبسط، والرسالة، وكتاب العالم، والوصية – الإمام أبو منصور الماتريدي عن الإمامين أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني، وأبي نصر أحمد بن العياضي عن أبي سليمان موسى الجوزجاني عن الإمامين أبي يوسف ومحمد، وروى عن الإمامين نصير بن يحيى، ومحمد بن مقاتل الرازي عن أبي مطيع وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن إمام الأئمة، وحقق (يعنى الماتريدي) تلك الأصول فى كتبه بقواطع الأدلة وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية، فليس الماتريدي من أتباع الإمام الأشعري، لكونه أول من أظهر مذهب أهل السنة كما ظُنّ، وما قيل: إن معظم خلافه من الخلافيات اللفظية وَهْمٌ، بل معنوي، لكنه فى التفاريع التي لا يجري فى خلافها تبديع، ولأن الماتريدي مفصِّل لمذهب الإمام (يعنى أبا حنيفة) وأصحابه المظهرين قبل الأشعري لمذهب أهل السنة، فلم يخل زمان من القائمين بنصرة الدين… وكيف لا وقد سبقه أيضا (يعنى سبق الأشعري) في ذلك الإمام أبو محمد عبد الله بن سعيد القطان، وله قواعد وكتب وأصحاب، ومخالفاته للحنفية لا تبلغ عشر مسائل… والإمام أبو العباس أحمد بن إبراهيم القلانسي الرازي وله أيضا قواعد وكتب وأصحاب، وألف الإمام محمد بن فورك الأصفهاني كتاب ”اختلاف الشيخين القلانسي والأشعري“).
فدور الإمام الماتريدي كما رأينا هو أنه المفصِّل لمذهب الإمام أبى حنيفة، والمقرر له، وقد أكدنا في مواضع أخرى سبقت وتأتي على أن أئمة المتكلمين من الحنفية بداية من أبي المعين النسفي ومروراً بالكمال ابن الهمام وانتهاءً بالبياضي كانوا حريصين على الانتساب إلى الحنفية دائماً، دون الإنتساب إلى الماتريدية، وأن النسبة إلى الماتريدي إنما ظهرت فى كتب غير الحنفية غالباً فى أول الأمر، ثم انتقلت إلى متأخري الحنفية كالبياضي، ثم شاعت عند المتأخرين والمعاصرين.
أطوار مذهب الماتريدية
فقد سبقت الإشارة إلى دور الإمام أبي حنيفة فى تأسيس المذهب، وأنه يعتبر من خلال النصوص المنسوبة إليه قد قام بوضع أسس مذهب كلامي أقامه من بعده الماتريدي، كما تناول الماتريدي العديد من المسائل التي لم تكن مثارة فى عهد أبي حنيفة، وكل هذا يؤكد على أن الماتريدي لم يكن مجرد شارح لمذهب أبى حنيفة، بل كان مبتكراً، له منهجه ومذهبه الكلامي الخاص به، وقد تحولت على يديه العقائد التى تلقاها عن أهل السنة خاصة الإمام أبي حنيفة من عقيدة إلى علم كلام، فكان هو متكلم مدرسة أبى حنيفة، ورئيس أهل السنة والجماعة فى بلاد ما وراء النهر، وأصبح المتكلمون على مذهب أبي حنيفة فى تلك البلاد يسمون بالماتريدية، واقتصر إطلاق اسم الحنفية على المتخصصين فى المذهب الفقهي فقط، وقد بين الإمام أبو المعين النسفي في هذه العلاقة الفكرية الوطيدة بين أبي حنيفة والماتريدي، حتى بين كيف الماتريدي تابع لأبى حنيفة فى الأصول والفروع، وأنه إذا قال الماتريدي بقول فى مسألة فإن ذلك يعنى نفى ضده عن أبي حنيفة، فيقول فى التمهيد لقواعد التوحيد: ((… وما روى أرباب المقالات عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن لله تعالى مائية لا يعرفها إلا هو افتراء عليه، والشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى كان من أشد الناس اتباعاً لأبى حنيفة رضي الله عنه فى الأصول والفروع جميعاً، وهو نفى القول بالمائية))، فإذا نفى الماتريدي القول بالمائية، فإنه بحسب رأى أبي المعين النسفي لا يصح أن نثبت القول بها لأبى حنيفة، ومجرد قول الماتريدي بنفى ذلك كاف فى رأي النسفي لتضعيف نسبة إثبات المائية للإمام أبي حنيفة. ويرى بعض العلماء المتأخرين عند مقارنته بين الأشعري والماتريدي مع تأكيده على أنهما إماما أهل السنة والجماعة فى مشارق الأرض ومغاربها أن آراء الأشعري لا تخلو من بعض ما يؤخذ كنوع ابتعاد عن العقل مرة، وعن النقل أخرى فى حسبان الناظر فى كلامه فى مسائل نظرية معدودة بسبب طول الجدال مع المعتزلة والحشوية، وفي المقابل سنجد أن ذلك لم يقع لمعاصره الإمام الماتريدي لتغلب السنة فى بلاد ما وراء النهر تغلبا تاماً لا تظهر مشاغباتهم معه، فتمكن من الجري على الاعتدال التام فى أنظاره، فأعطى النقل حقه، والعقل حكمه، فالماتريدية هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة على أن الماتريدي لم يرزق من الشهرة والأتباع ما رُزِقَه الأشعري من أئمة أعلام فى سلسلة متصلة خلال عدة قرون شيدوا المذهب الأشعري، ومن ثم لم يعن بالماتريدي مؤرخو الفرق والطبقات بعد موته، فأهمله ابن النديم وابن حزم والبغدادي، بل مر به أصحابه الحنفية فى طبقاتهم مرور الكرام، ومن المرجح أن يكون الإلتزام المذهبي فحسب هو السر وراء شيوع طريقته بين الحنفية، بينما شاعت طريقة الأشعري (الشافعي فقهاً) والباقلاني (المالكي فقهاً) بين أصحابهما من الشافعية والمالكية.
وقد تخرج على يد الإمام أبي منصور الماتريدي فى علم الكلام أربعة أئمة حملوا المذهب من بعده، وهم: الحكيم السمرقندي (أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل، ت ٣٤٢ هـ)، وأبو الحسن الرستغفني (علي بن سعيد)، وأبو محمد البزدوي (عبد الكريم بن موسى، ت٣٩٠ هـ)، وأبو الليث البخاري. ثم قامت بعد ذلك أجيال متصلة بمذهب الماتريدي يوضحونه، وينقحونه.
أعلام مذهب الماتريدية الذين ناصروا المذهب:
١- صدر الإسلام أبو اليسر البزدوي (ولد سنة٤٢١ هـ) صاحب أصول الدين وهو مطبوع.
٢- وأبو المعين النسفي (ت٥٠٨ هـ) صاحب تبصرة الأدلة، وبحر الكلام، والتمهيد لقواعد التوحيد وهي مطبوعة جميعاً.
٣- نجم الدين عمر بن محمد النسفي، مفتي الثقلين (ت٥٣٧ هـ)، صاحب كتاب العقائد النسفية المشهور والمدرّس إلى يومنا هذا.
٤- نور الدين الصابوني (ت٥٨٠ هـ) والذي كانت له مناظرات كثيرة مع الفخر الرازي، وهو صاحب الهداية والبداية فى أصول الدين.
٥- كمال الدين ابن الهمام (ت٨٦١ هـ)، صاحب المسايرة.
٦- كمال الدين أحمد البياضي (ت ١٠٩٧ هـ) صاحب إشارات المرام من عبارات الإمام.
والجدير بالذكر أن كتب المذهب الماتريدي كانت تدرس بمعاهد العلم السنية كالأزهر جنباً إلى جنب مع كتب الأشعرية، كالعقائد النسفية، والمسايرة لابن الهمام، ولم يكن علماء الأشعرية بالأزهر الشريف يمتنعون عن دراستها وتدريسها وشرحها، كما أن السعد التفتازاني وهو من كبار متأخري الأشاعرة وله كتاب المقاصد وشرحه المشهور، له شرح مشهور جداً على العقائد النسفية، كان علماء الأزهر والترك مغرمين به، وبتدريسه وبالتحشية عليه.
الخصائص العامة لمنهج الماتريدية الكلامي
من الخصائص العامة للمنهج الكلامي لأبي منصور الماتريدي وأصحابه:
١- أخذ الماتريدي بمذهب أهل السنة والجماعة مثله مثل الأشعري، وحاول إثباته بأدلة العقل.
٢- لا يخلو كلامه من مسحة فلسفية واضحة، وقد أخذ بقدر من المصطلحات الفلسفية السائرة للتصدي بنفس السلاح للمعتزلة.
٣- التوسط بين العقل والنقل، ويعتبر ذلك هو السمة الأساسية لمنهج الماتريدي مثله مثل الأشعري. ولا شك أن الموقف الوسط هنا هو موقف اعتباري، وليس موقفاً حسابياً دقيقاً، ولهذا فهو موقف صعب، سواء فى الوصول إليه، أو تقديره لدى الدارسين له بعد ذلك، ومن ثم تختلف التقديرات فيه، ومن هنا يرى بعض الباحثين أن الماتريدي اقترب فى هذه المسألة إلى الوسط أكثر من الأشعري، وفى مسألة أخرى يقدر أن موقف الأشعري اقترب من هذا الوسط أكثر، وهكذا، وبعضهم يعطي تقديراً إجمالياً للمذهبين بأن الماتريدية وسط بين الأشعرية والمعتزلة، وبعضهم يخالف في ذلك.
٤- استقلال الفكر، بمعنى عدم التعصب لمذهب أو رأى معين، بل يجب البحث عن الحقيقة وعدم المتابعة لفكر معين.
٥- النظرة الكلية للأشياء، فقد امتاز الماتريدي بنظرته الكلية الشاملة، وربط الجزئيات بالكليات، ورد المسائل المتفرعة إلى أصولها التى تجمعها. وهذا هو النظر الفلسفي الذي لا يقف عند الجزئي.
٦- الربط بين الفكر والعمل، فليس المهم عند الماتريدي أن تتزاحم الأفكار فى الذهن، لكن المهم هو أن نُوائم بين أفكارنا وعملنا، مما يمكن أن يطلق عليه المنهج الكلامي العملي، ففي كثير من المسائل الكلامية يرفض الماتريدي الدخول فى تفاصيلها لأنه لا حاجة إلى معرفتنا بها.
٧- الاهتمام بالمضمون والمعنى، وهو نتيجة لما سبق، فربط الفكر بالعمل أنتج عند الماتريدي اهتمامه بالمعنى والمضمون، فلا يقف عند حد الشكل، بل ينفذ إلى عمق الجوهر.
٨- السمة النقدية: فيمثل النقد جانباً كبيراً عند الماتريدي، ولقد قام الجانب النقدي لآراء الخصم عنده على عرض هذه الآراء وتحليلها وردها إلى أصولها والبحث عن علة الخطأ فيها، ولقد سلك فى ذلك المنهج الجدلي، ونجد لديه ما يشبه الحوار السقراطي القائم على التهكم والتوليد، ولهذا يصف أبو المعين النسفي طريقةَ الماتريدي فى جداله مع خصومه بأنه يبدو كالمساهل الملقي زمام كلامه إلى خصومه ليقوده إلى مرامه ثقة منه بضعفه، وعجزه عن مقاومته.
٩- إقامة البحث على منهج علمي محدد، يقوم على الاعتماد على الحس ومعطياته من الواقع المشاهد، وقيام العقل بالاستدلال من هذا الواقع إلى ما غاب عنه، واستخدام أدوات الإجتهاد الشرعية فى فهم النصوص.
١٠ تعدد الأدلة فى المسألة الواحدة، وتنوعها، وواقعيتها، بالإعتماد على الناحية الحسية التجريبية الواقعية أكثر من اعتمادها على التصورات العقلية المجردة.
١١- والتأويل عند الماتريدي هو ترجيح أحد الاحتمالات بدون القطع والشهادة بأنه المعنى المراد بخلاف التفسير، ولقد حرص الماتريدي على عدم التوسع فى التأويل، واستخدامه بحذر شديد.
١٢- وللماتريدي وأصحابه اصطلاحاتهم الخاصة بهم فى مجال علم الكلام.
١٣- يلتقى الماتريدية مع الأشاعرة فى العناصر الأساسية، كإتفاقهم على أن الصفات الذاتية معان قديمة قائمة بذاته تعالى لا هي ذاته ولا غير ذاته، لكنهم يفترقون فى مسائل فرعية، ربما لا يتجاوز عددها (٢٠) مسألة، ويؤكد الإمام البياضي على وهم من قال إن معظم الخلاف بين المدرستين من الخلافيات اللفظية، مؤكداً على أنه خلاف معنوي لكنه فى التفاريع التى لا يجري فى خلافها تبديع، ومن أهمها:
أ- أن الأشعرية يعدون البقاء صفة زائدة على الذات، بينما ينكر الماتريدية هذه الصفة ويرون أن البقاء عين وجود الذات وليس أمرا زائدا عليها، ووافقهم على ذلك بعض الأشعرية كإمام الحرمين، والفخر الرازى.
ب- يضيف الماتريدية إلى صفات المعاني السبع المعروفة عند الأشاعرة صفة ثامنة وهي صفة التكوين، بينما يرى الأشاعرة أن فى صفتي القدرة والإرادة ما يغني عنها. بينما يذهب الماتريدية إلى أن هذه الصفة مغايرة لصفات المعاني السبعة التي يتفقون فيها مع الأشاعرة: العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، لأن الله تعالى مكون للأشياء إجماعاً فمن الواجب إذن أن يكون له صفة يدل عليه لفظ مكون وهي التكوين، ويعنون بها الصفة المؤثرة فى وجود الأثر، وهي بذلك تغاير القدرة عندهم التي هي بمعنى صحة صدور الأثر، فالتكوين عندهم أخص من القدرة مطلقاً، لأن القدرة متساوية بالنسبة إلى جميع المقدورات، والتكوين خاص بما يدخل من هذه المقدورات في الوجود.
ج- ويجمع الأشاعرة والماتريدية على أن رؤية الباري ممكنة، لكن الأشاعرة يستدلون على ذلك بدليل النقل والعقل، بينما يرى الماتريدية ووافقهم الفخر الرازي أن دليل ذلك السمع وحده، والعقل عاجز عن إقامة الدليل على إمكان ذلك.
د- كما اختلفوا فى مسألة كلام الله هل هو مسموع، فيرى الأشعرية أن كل موجود كما يجوز أن يرى يجوز أن يسمع، وقال الماتريدية ووافقهم بعض الأشعرية كأبي إسحاق الإسفراييني أن كلام الله غير مسموع أصلا. وإذا كان المجال هنا لا يتسع لعرض المسائل العشرين التي اختلف فيها الماتريدية مع الأشعرية، فإنه لا يجب أن يمضي الكلام دون الإشارة إلى أن هذه المسائل العشرين تمثل معياراً أساسياً للحكم على كتاب ما بأنه ماتريدي المذهب أو أشعري، وقد سبق الإشارة إلى هذا المعيار في الفصل الأول من هذا الباب. وإذا كانت هذه المسائل العشرين هي خلافهم مع الأشعرية فى أصول الكلام وفروعه، فقد حاول بعض أئمة متكلمي أهل الرأي وهو أبو بكر العياضي – كما يحكي أبو المعين النسفي- رد أصول المسائل التي فيها خلاف بينهم وبين المعتزلة إلى عشر مسائل.
١٤– يتمسك الماتريدية بالنص أحياناً بدرجة أقوى من الأشاعرة، كما صنعوا في القول بصفة التكوين، وفى التدليل على رؤية الباري، فيبدون أقرب إلى السلف من الأشاعرة.
١٥– كان لمنطق أرسطو شأن فى جدلهم ومناقشاتهم مثلهم مثل الأشاعرة، كما سرت إليهم مثلهم عدوى البحث الفلسفي والدافع الأساسي كان بسبب تصديهم للمعتزلة الذين اتخذوا الجدل الفلسفي منهجاً.
١٦- يرى الماتريدي أن الله قد فطر الناس على معرفته بما ركب فيهم من عقول، وأن صحة السمع موقوفة على العقل، وهذا يعني أن وجوب النظر بالعقل عنده لا بالسمع، وصحة السمع متوقفة على العقل، لكن هذا لا يجعل الماتريدي متفقاً تماماً مع موقف المعتزلة، إذ أنه لم يبن على القول بوجوب النظر بالعقل ما بنته عليه المعتزلة مثل اللطف، وفعل الأصلح، ووجوب الحكمة فى أفعاله تعالى، واستحقاق الثواب والعقاب….
١٧- ويرى الماتريدية أن الأدلة العقلية يقينية، وأما الأدلة السمعية فبعضها يقيني وبعضها ظني، خلافا للمعتزلة ومتأخري الأشعرية، أما اليقينية منها فيرون أن هناك ألفاظاً منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ذات معان مخصوصة، هي نفس المعاني المتداولة الآن، وبانضمام القرائن المتواترة المنقولة إلينا بمعانيها يحصل القطع بذلك بحيث لا تبقى شبهة في النصوص الواردة، وأن القول بظنية الدليل السمعي يؤدي إلى التشكيك في الشريعة، وهو نفس الموقف الذي انتهى إليه العضد الإيجي حيث رأى أن القول بأن الأدلة السمعية ظنية فيه تشكيك وسفسط، ولكن هذا راجع إلى أصول مذهب الإمام أبي حنيفة والذي له قواعد وأصول في قبول خبر الآحاد من السنة، وظني الدلالة من القرآن
أما الأدلة السمعية الظنية
فهي الآيات المتشابهة كالآيات الواردة في الصفات، ولا يمكن فيها اليقين لأنه يؤدي إلى التجسيم والتشبيه، وفي ضوء هذا ذهب بعض الباحثين إلى أن موقف الماتريدية أكثر اتساقاً من المعتزلة والأشاعرة في قولهم بظنية الدلالة السمعية، فقول الماتريدية قول يقع فى الوسط، ويقرر ما هو يقيني غير قابل للظن، وبين ما هو ظني ولا يمكن فيه اليقين.
نظرية المعرفة عند الماتريدية
يعتبر الماتريدي من أوائل المتكلمين الذين تكلموا عن المعرفة بطريقة منظمة، وكان التعرض لها قبل ذلك فى شذرات وإشارات متفرقة، وأهم الخصائص المميزة لنظرية المعرفة عند الماتريدي على ما يلى:
أ- عدم التفرقة بين العلم والمعرفة.
ب- نفي الوجود الذهني، فالعقل بيت الحس، ومعنى هذا أن الحواس تنقل المعرفة إلى العقل، وليس في العقل شيء لم يكن قبل ذلك الحس فيه، والعلم عنده علم بالمذكور الجزئي المحسوس.
ج- والعقل لا يدرك ماهية الأشياء وحقائقها، بل ظواهرها فحسب، فالعقول عنده أنشأت متناهية تقصر عن الإحاطة بكلية الأشياء.
د- ويترتب على ذلك أن التعريفات إنما هي لصفات الأشياء، وللتمييز بينها وبين غيرها.
هـ- ويقف الماتريدي موقفاً متميزاً من الظن، حيث يحوله من الجانب السلبي إلى جانب الإيجابي، ويراه دافعاً إلى النظر والتأمل فيما خفي حتى نصل إلى اليقين.
و- وهو يؤسس للموقف الكلامي من أن المعرفة منها أولية، ومنها ضرورية، ومنها استدلالية كسبية، ومن خلال نصوصه يتبين أن الاعتقاد عنده ذاتي بينما المعرفة موضوعية. مؤكداً على أن طرق المعرفة هي العيان والأخبار والنظر، وقد أفاض فى بيان حقيقة النظر وأهميته، وأسس ذلك على موقف إسلامي نابع من القرآن والسنة اللذين أكدا علي النظر.
ز- يؤكد الماتريدي على أن المعرفة الدينية هي أسمى أنواع المعرفة، وسبيل الوصول إليها هو بالاجتهاد. وأن العقل مدرك لضرورة الدين، ولصدق الرسل، ويجب عليه الدفاع عن الدين.
ح- أما عن طرق النظر العقلي عند الماتريدى فقد استخدم أغلب أنواع القياس التي شاعت بين المتكلمين كقياس الغائب على الشاهد، وقياس الأولى، وقياس الإحراج، كما استخدم طريقة الإلزام، والمنهج الجدلى.
ط- ولم يهتم الماتريدي بوضع قواعد المعرفة الصحيحة فحسب، بل نبه على الأسباب التي توقع الإنسان في الخطأ، حتى يمكنه تجنبها، والالتزام بالمنهج الصحيح في المعرفة، ومن أهم أسباب القصور في المعرفة عند الماتريدي: التقليد – التعصب – سوء الفهم – الاعتماد علي مصدر واحد في المعرفة – إهمال وجود نسق فكري يمنع من تناقضها – عدم إقامة الدليل والاعتماد على سحر البيان – إدخال العقل فيما لا مجال له فيه.
ملاحظات حول منهج التصنيف الكلامي عند الماتريدية
أ- الشيخ أبو منصور الماتريدي:
١- عند دراسة منهج التصنيف عند إمام مثل الماتريدي متقدم فى الزمن، والعلم الذي يتناوله ما زال فى أطواره الأولى، وعمله ينصب بالأساس على البحث عن المنهج الكلامي وإعماله في المسائل، وتأسيس المذهب، من ثم فلن نتوقع أبدا من أي مؤسس لمذهب ما أن نجد عنده صورة واضحة ونهائية لمذهبه نفسه، فضلا عن منهج متطور في التصنيف، ولهذا فإنه يبدو من الظلم البين محاولة التماس منهج تصنيف واضح ودقيق لمثل الشيخ الماتريدي. نعم يمكن إجراء المقارنة بينه وبين من هم في نفس الفترة الزمانية واحاطتهم نفس الظروف، ولا شك أنه سيتبادر إلى الذهن فوراً الإمام أبو الحسن الأشعري، وهذه المقارنة من الناحية النظرية والمنهجية صحيحة، لكن لا يمكن إجرائها من الناحية الواقعية لفقدان نصوص الماتريدي، حيث لا يتوفر بين أيدينا إلا كتاب واحد له فى الكلام وهو التوحيد، وآخر في التفسير، بينما تتوافر للأشعري العديد من النصوص، كما تتوفر له قائمة مؤلفات كبيرة أمكن تحليلها فيما تقدم من البحث، والتماس بعض ملامح منهج تصنيف الأشعري من خلالها، بينما قائمة مؤلفات الماتريدي لا تتجاوز (١٤) كتاباً ورسالة، عشرة منها في علم الكلام، واثنان في الأصول، ومثلهما في التفسير، ولا شك أن المقارنة والحال كهذه ستكون فى صالح الأشعري، ولهذا من الإنصاف ترك تلك المقارنة أصلاً، والإكتفاء بالتماس منهج التصنيف عند الماتريدي من خلال ما تيسر له وعنه.
٢- ولكن فلنطور من أداة منهج التصنيف قليلاً ليمكنها التعامل مع هؤلاء المتقدمين، فإذا كنا قد افترضناها أداة تحليل ووصف لأمر مستقل بناء على ما أسسناه من الفرق بين منهج التصنيف ومنهج البحث، تنظيراً على الفرق بين المنهج الفلسفي والمذهب الفلسفي، فإذا كنا لم نجد عند الشيخ الماتريدي منهج تصنيف مستقل يمكن فصله عن منهج البحث، فسيكون منهج البحث عنده هو منهج التصنيف، أو منهج التصنيف عنده هو بعض منهج البحث، نظير منهج البحث الفلسفي، الذى لا يمكن فصله عند بعض الفلاسفة عن مذهبه، وفي ضوء هذا سنتناول منهج التصنيف عند الماتريدي، وإذا كان قد سبق شىء من الكلام عن منهجه من خلال ما أبداه الدارسون له، فيمكن أن نمضي قدماً من خلال كتابه التوحيد أساساً باحثين عن ملاحظات جديدة يمكن إضافتها، غير مميزين بين ما هو منهج بحث وما هو منهج تصنيف، لهذا فالملاحظات الآتية بعضها عن هذا وبعضها عن ذاك. لكن قبل الخوض في غمار كتابه التوحيد، هناك ملحوظتان نبدأ بهما:
٣- أولهما: أن أبا المعين النسفي أشار في عبارة جامعة وتحليل رائع إلى منهج تصنيف الشيخ الماتريدي فيقول: ((ومن رأى تصانيفه ككتاب التوحيد… – فذكر ما سيأتى في قائمته – ووقف على بعض ما فيها من الدقائق، وغرائب المعاني، وإثارة الدلائل عن مكامنها، واستنباطها عن مظانها ومعادنها، واطلع على ما راعى من شرائط الإلزام والالتزام، وحافظ على آداب المجادلة الموضوعة لفسخ عقائد المغترين بأفهامهم، وقرن كل مسألة من البرهان الموضوع لإفادة ثلج الصدر وبرد اليقين..)). والحقيقة أننا إذا لم تصدنا حجب السجع – التي اعتاد المتقدمون على التعبير عن أنفسهم من خلالها واعتدنا كمعاصرين على الاستهزاء بها واعتبارها مجرد حليات لفظية جوفاء – عن ملاحظة المعنى، ولم نعتبر ما قاله مجرد حليات ومدح ساذج مكرور، فسنجد أن عبارته صادقة إلى أبعد حد إذا نقدنا كلامه وعرضناه على كتاب التوحيد للماتريدي، فقد التفت الماتريدي بالفعل إلى دقائق من المعانى، واستدل بوجوه من الأدلة لم ينتبه إليها غيره، بالإضافة إلى الأدلة المباشرة المأخوذة من مظانها، كما أنه كان حريصاً دائماً على تصحيح طرق الإلزام، وتصحيح المناظرة، والبعد عن التشغيب، ورده، ملتزما بقَرن كل مسألة بأدلة قوية على رأيه فيها، وسيأتى فيما بعد ما يؤكد صدق أبي المعين النسفي فيما قال.
٤- وثانيهما: قائمة مؤلفاته: فبخلاف كتاب التوحيد، وكتاب آخر نسب إليه بعنوان أصول الدين، سنجد للماتريدي اهتماماً كبيراً فيما يبدو بدراسة الخلاف الكلامي، فمن مؤلفاته التي ذكرها أبو المعين النسفي وغيره فى ذلك: كتاب المقالات، وكتابين في الرد على القرامطة؛ أحدهما يرد فيها على أصول مذاهبهم، وفى الآخر على فروعها، ورد الأصول الخمسة لأبى محمد الباهلي، ورد أوائل الأدلة للكعبي (المعتزلي البغدادي)، ورد تهذيب الجدل للكعبي، ورد وعيد الفساق للكعبي، ورد كتاب الإمامة لبعض الرافضة، وبيان وهم المعتزلة، كما سنجد أن مناقشة الفرق قد شغل جزءا واضحاً من اهتمامه في كتاب التوحيد، وهذا يشير إلى أن الجانب الأهم من اهتمام الماتريدي هو مناقشة الفرق والجدل معهم، وعلى رأسها: الرافضة والمعتزلة، ومن الممكن أن نفسر ذلك في ضوء المنحى العملي التي اتسم به منهج الماتريدي الكلامي كما سبق، والذى حفزه على الاشتغال بالجانب العملي والحيوي من علم الكلام، وهو مناقشة الفرق الأخرى المخالفة لأهل السنة.
٥- وللإمام أبي منصور الماتريدي كتابان متاحان فقط اليوم، وهما تأويلات أهل السنة، وكتاب التوحيد، ولا شك أن الكتاب الأول يعد مصدراُ أساسياُ في معرفة آراء الماتريدي الكلامية، والحق أنه أسهل في التناول من كتاب التوحيد وأوضح وأيسر، فهو يسوق تفسير الآية في وضوح ويسر، ويستخرج منها كل ما يساعده في غرضه دون أن يغرق في متاهات من التفاريع كما نشهده عند الرازي مثلا، لكنه في المقام الأول كتاب في التفسير، ومن ثم فغير داخل في مجال بحثنا.
٦- أما كتاب التوحيد: فيستهله أبو منصور الماتريدي بالكلام في نظرية المعرفة، حيث يبدأ بفصل في إبطال التقليد، ووجوب النظر وهو مذهب أهل السنة متفقين في ذلك مع المعتزلة. ويرى بعض الباحثين أننا لا نجد قبل الماتريدي متكلماً يعرض نظرية في المعرفة، كما أننا لا نكاد نجد بعده متكلما تخلو مؤلفاته من مقدمة في المعرفة، فكأن الماتريدي هو الذى استن لهم هذه السنة.
٧- وبالإضافة إلى ما تقدم عن نظرية المعرفة عند الماتريدية يمكن استخلاص ملاحظات أخرى من خلال كتابه التوحيد:
أ- فمن المهم ملاحظة الموقف الكلامي للماتريدي من السمع، إذ أنه غالبا ما يقدمه فى الكلام، فبدأ به أولا عند حديثه عن الأدلة وذكر أن السمع مما لا يخلو منه بشر من انتحاله مذهباً حتى الشكاك، ويعود ليؤكد على أن السبيل التي يوصل بها إلى العلم بحقائق الأشياء: العيان، والأخبار، والنظر. فإذا أخذ في الكلام عن مسألة وجدنا أنه كثيرا ما يبدأ بالدليل السمعي. لكنه إذا ناقش غير الإسلاميين لم يستدل عليهم بالدليل السمعي كما نراه عند مناقشته القائلين بقدم العالم. – أما العقل فله موقف إسلامي أصيل منه، فيقول رحمه الله ردا على الديصانية التى تقول مثل المنانية لكنهم قالوا النور بياض كله، والظلمة سواد كلها…: ((ذكرنا أقاويلهم لتعلموا مقت الله ممن آثر عداوته وعدل عن طاعته، ولم يتفكر فى خلقه بفكر خاضع له مستغيث به ليوفقه لدينه ويفتح عليه باب الحق لكن مال إلى الدنيا ركونا إليها ورغبة فى شهوات نفسه فوكل إلى نفسه ولم يعصمه من عدوه إذ لم يتضرع إليه ولا رغب في غير الذى مال إليه))، فهذا شرط التفكر العقلي عنده: ((بفكر خاضع له مستغيث به ليوفقه لدينه ويفتح عليه باب الحق)). – وهو فى جدله للفرق يطلب الحق والدليل الصحيح، ولا يقبل التشغيب عليهم وإن كان فيه انقطاعهم، فيحكى عن مناظرة بين السمنية والنظام المعتزلي في حدوث الأشياء في الأزل وأنه قطعهم، ثم لا يرتضي الشيخ الماتريدي ذلك ويقول: ((وإذا كان ذا حاصل المناظرة فما أشبهها بالملاعبة))، ثم يأخذ في تقرير وجه آخر للرد على اعتراضهم، ويتعقب ابن شبيب في بعض مناظراته أيضا فيقول: ((ثم تكلف نوع ما كلم النظامُ السمنيةَ مما لا يجدى نفعا))، ويؤكد على أن قول الخصم إذا كان ساقطا للغاية فلا ينبغي التكلف في رده، ويكفي مجرد شرحه، فيقول مثلا في رد زعم المنانية في الظلم والنور: ((ومن تأمل القول وجده كله متناقضاً من غير أن يحتاج إلى تكلف الدلالة على إبطال القول سوى تفسيره))، ثم أخذ في تفسير كلامهم والكشف عما فيه من تناقض.
ب- ومع هذا فله موقف حازم من السوفسطائية حيث يرى أنهم لا يناظروا بل يؤدبوا، وهو الموقف الذى سنراه بعد ذلك عند ابن رشد، فيقول الشيخ الماتريدي في رد إنكارهم العلوم وادعائهم أنها اعتقادات فحسب: ((ومناظرة من يقول بهذا الكلام لا معنى لها لأنه يحصل على أنه اعتقاد لا علم فكل شيء يقول عند المناظرة فهو ذلك وإنما يناظر مثل من ينفي الحقائق حتى يرد قوله محققا وكذلك بدعواه وأما من يقول ليس غير الاعتقاد فهو أي شيء يقول فإنما هو ذلك، وإنما يقابل بالضرب المؤلم والقطع ويعتقد ما يعتقده هو فينكر عليه بضده أو بقوله إني أعتقد إنكارك إقرارا حتى يدفعه الضرورة إلى الإقرار بما أنكر))، وسنرى هذا الموقف عند الماتريدية بعده كالصابونى فى البداية.
٨- ربما وقف الماتريدي وقفة خاصة أمام بعض الأدلة الكلامية كما فعل فى دلالة الشاهد على الغائب. ولا بد هنا من وقفة لتحديد مفهوم دليل (السمع)، عند الشيخ الماتريدي ويلاحظ هنا – كما في النص السابق – أنه يثبت الدليل السمعي مطلقا، ويتكلم في حجية السمع مطلقا، وليس فى خصوص الدليل السمعي الإسلامي (القرآن والسنة)، وكلامه هذا الذي قرره في نظريته للمعرفة، هو الذى استعمله بالفعل أثناء الاستدلال في المسائل فيستعمل الدليل السمعي (الذى يرجع إلى الإخبار والسماع مطلقا) ليلزم به الخصم، فحتى في دليل التوحيد (أن محدث العالم واحد) استعمل هذا الدليل السمعي العام ليلزم القائلين بالأكثر بذلك فيقول في نص من أقوى ما يكون: ((والدلالة أن محدث العالم واحد لا أكثر السمع والعقل وشهادة العالم بالخلقة فأما السمع فهو اتفاق القول – على اختلافهم – على الواحد إذ من يقول بالأكثر يقول به على أن الواحد اسم لابتداء العدد واسم للعظمة والسلطان والرفعة والفضل… وبعد فإنه لم يذكر عن غير الإله الذى يعرفه أهل التوحيد دعوى الإلهية والإشارة إلى أثر فعل منه يدل على ربوبيته ولا وجد فى شيء معنى أمكن إخراجه عن حمله ولا بعث رسلا بالآيات التي تقهر العقول)). ومن استعماله للسمع الخاص الإسلامي قوله: ((ودليل إثبات القول بالشيء وجهان أحدهما السمع من قوله ليس كمثله شيء ولو لم يكن هو شيئا لم ينف عنه شيئية الأشياء باسم الشيئية))، ومن استعماله له بما يشمل الإسلامي وغير الإسلامي قوله: ((الوصف لله بأنه قادر عالم حى كريم جواد والتسمية بها حق من السمع والعقل جميعا، فالسمع ما جاء به القرآن وسائر كتب الله وسمى بالذى ذكرت الرسل والخلائق)).
٩- على أن سنة البدء بنظرية المعرفة ليست هي الوحيدة التي استنها الماتريدي لهم، بل سنجد جذور الخطة التقليدية لعلم الكلام واضحة عند الماتريدي، فهو بعد الكلام في المعرفة ينتقل للكلام على حدوث العالم، وأنه له محدثا، ثم يتكلم على صفات الله تعالى، وما يجوز أن يطلق عليه وما لا يجوز، وأسماء الله تعالى ورؤيته، وربما شاب ذلك العود لمسألة سبق حديثه عن بعض أطرافها فيعود للكلام عن ناحية أخرى منها، مثلا هل يجوز إطلاق لفظ الشىء على الله، أسماء الله، وغير ذلك. فجذور الخطة التقليدية عنده واضحة يمكن ملاحظتها من خلال المسائل التى يسردها سردا دون تبويب أو فصول: نظرية المعرفة، خلق العالم وأن له خالقا، ما يتعلق بالإلهيات، اختلاف الفرق، النبوة، أفعال الله وفعل العبد والإرادة والقضاء والقدر، الإيمان والإسلام والشفاعة. ولا شك أنها خطة إجمالية فحسب تشمل عامة موضوعات الكتاب، وإن كان تند منه في بعض الأحيان موضوعات لا تأتي موافقة لهذا الترتيب العام كما سبقت الإشارة.
١٠- والحقيقة أن الشيخ أبا منصور الماتريدي رحمه الله – رغم عدم نضج صناعة التأليف والتصنيف فى زمانه – لا تعوزه الدقة والقدرة العقلية الفائقة والتحليل العميق والتمييز بين الدقائق، مما يؤكد على أن افتقاد صناعة التأليف في كتبه لا يرجع إلى صفات شخصية، وإنما هو من طبيعة المرحلة العلمية في ذلك الوقت، والحقيقة أن كتابه كله لا تستثنى منه مسألة يدل على تلك القدرات العلمية والعقلية التي يتمتع بها والتي أهلته بصدق لأن يكون مؤسسا لمذهب كلامي، ولكن لِنَسُق مثالا واحدا عن كلامه في إثبات الأسماء والصفات، والفرق بين إثبات الأسماء والتشابه، والفرق بين نفي الأسماء والتعطيل، يقول رحمه الله: ((… وليس في إثبات الأسماء وتحقيق الصفات تشابه لنفي حقائق ما في الخلق عنه كالهستية والثبات، ولكن الأسماء لما لم يحتمل التعريف ولا تحقيق الذات بحق الربوبية إلا بذلك، إذ لا وجه لمعرفة غائب إلا بدلالة الشاهد، ثم إذا أريد الوصف بالعلو والإجلال فذلك طريق المعرفة في الشاهد، وإمكان القول، إذ لا يحتمل وُسعنا العرفان بالتسمية بغير الذي شاهدنا ولا الإشارة إلى ما لا نأخذ من الحس وحق العيان، لو احتمل وسعنا ذلك لقلنا ذلك، لكنا أردنا به ما يسقط الشبه من قولنا: عالم لا كالعلماء… على أن من نفى الأسماء والصفات لم يقل بالتعطيل، وكل مثبت معناه في التحقيق نفى التعطيل، ثم لم يجب به التشابه، فمثله في الأسماء)) ، وهذا نص ثري للغاية يكشف عن وعى الشيخ الماتريدي العميق لمشكلة اللغة، والاصطلاح، وعلاقة ذلك بالتخاطب والإدراك، ووعيه بالفروق الدقيقة بين المسائل الكلامية، وأنه لا يلزم من إثبات الأسماء التشبيه، كما لا يلزم من نفيها تعطيل، لأن هناك فرق بين الدوال والمدلولات، ونفى الدال لا يستلزم نفى المدلول، وأن المدلولات في الخارج تكون ثابتة في نفسها، سواء أدركناها أم لم ندركها، وسواء استطاعت اللغة التعبير عنها بدوالها تعبيراً مطابقاً أو قاصراً.
١١- ولأن اللغة العلمية الاصطلاحية لم تكن قد استقرت بعد فما يعبر عنه ربما أتى بعبارة أطول أو فيها غموض أو يحوم حولها كثيراً حتى يقررها لقارئه، بينما هي عندنا اليوم مسلمة أو نعبر عنها بعبارة أقصر أو أكثر دقة، وهذا لا يمكن بحال أن نعده نقداً، بقدر ما هو إيضاح لطبائع الأمور، ولو لم تكن عباراته وتعبيراته كذلك لشككنا فوراً في صحة نسبة الكتاب إليه.
١٢- ومن خصائص منهج التصنيف عند الشيخ الماتريدي أنه متى استوفى المسألة واستدل عليها من وجوه اقتصر على ذلك ولم يوغل ولا استقصى، وهو ما يؤكد على الجانب العملي فى منهج الشيخ، وفي ذلك يقول بعد أن استوفى مسألة وصف المولى تعالى بأنه قادر عالم حي…: ((وهذا باب لو استقصى فيه لشغل عن بلوغ النهاية عن المقصود ونرجو أن يكون فيما أشرنا إليه مقنع لذي اللب والفهم))، إذن فالشيخ ممسك بغرض التصنيف ومقصوده لا يريد أن يحيد عنه، ويرى أن الاستقصاء حيد عنه.
١٣- وكما سبقت الإشارة إلى اهتمامه بدارسة الفرق، هذا الاهتمام الذي يظهر هنا في كتابه التوحيد تحت ترجمة (اختلاف الفرق فى العالم)، والذي يبدأها بديباجة مخصوصة كما لو أنه يشرع في افتتاح تصنيف كتاب جديد فيقول: ((نبتدأ بالحمد لله العلى الحميد ونتوجه إليه بالشكر له… أما بعد فإنى تأملت وجه اختلاف البشر في العالم بعد ظهور آيات حدثه… فرأيت الشبهة اعترضت البشر… من ثلاثة أوجه…))، ثم يأخذ في تفصيل ذلك وبيان طرق التوحيد، ليشرع بعد ذلك في مناقشة بعض الفرق والمذاهب والآراء كالدهرية والسمنية والسوفسطائية والثنوية والمجوس. ويضاف إلى هذا الموضع من الكتاب عن الفرق مواضع أخرى يتعرض فيها لبعض الآراء المخالفة عند تناوله إحدى المسائل الكلامية. وهو عند حكايته لآرائهم ومناقشته لأدلتهم موضوعي ومحايد إلى أقصى درجة ممكنة، مهما اشتد الخلاف معهم، وهو بذلك يؤسس – مع الشيخ أبي الحسن الأشعري كما سبق فى منهجه أيضا – للموضوعية في تناول مقالات الملل والنحل التي سنراها تمتد بعد ذلك عند أصحاب الملل والنحل غالبا.
١٤- ويلاحظ أمران هنا: أولهما: أنه أدخل الفرق في الكلام، وجعله لها موضعاً مختصاً به، فضلاً عن المواضع التي تناول فيها آراء بعض المخالفين في ثنايا الكتاب، بينما جرى المتكلمون بعده على أحد أمرين، إما تناول الفرق بالتصنيف المستقل، وإما توزيع آرائهم على المسائل والأبواب، بحيث يذكر رأي كل فرقة في الباب الذي خالفت فيه. ثانيهما: أنه لم يتناول من أمور المعاد إلا الشفاعة فحسب.
١٥- وهو مطلع على آراء الفرق الإسلامية وغير الإسلامية، وقرأ الفلسفة اليونانية، وله موقف معارض من بعض مسائل المنطق الأرسطي فيعارض حصر الموجودات في المقولات العشرة، وفى ذلك يقول الشيخ الماتريدي رحمه الله: ((وذكر أرسطاطاليس وهو صاحب هذا القول فى كتابه الذي سماه المنطق عشرة أبواب باب (العين) كقولك إنسان سميت عينه، وباب المكان كقولك أين، والصفة بقولك كيف، والوقت متى والعدد بكم، والمضاف مما في ذكر الواحد ذكر الآخر كالأب والعبد والشريك ونحوه، وذو كقولك ذو شرف وذو أهل، ونحو ذلك سموه باب الجدة والنصبة كالقيام والقعود، والفاعل كقولك أكل ونحوه، والمفعول كقولك مأكول لا يقدر أحد أن يذكر ما يخرج عن جملة ذلك، وزعموا في القوة أنها جاهلة تفعل بالطباع، وليس بالهيولي حاجة إلى الأعراض. قال الفقيه (يعني الماتريدي) رحمه الله: فمن تأمل ما صار هؤلاء إليه علم أنهم أوتوا ذلك لجهلهم نعم الله فعموا عن سبيل الرشد فضلوا، ثم بعثتهم حيرة الضلال إلى الاستيناس بمثل هذا الخيال الذي لا يصير عليه عقل ولا يستجلبه هوى والله المستعان ))، فقد وصف كلامهم السابق (حصر المقولات في العشر – وزعمهم في القوة – وعدم حاجة الهيولي إلى الأعراض) أنه خيال.
١٦- وإذا كانت من معالم أصالته هو طرحه المخالف للفلسفة أرسطو ومنطقه، فإن هذه الأصالة تتأكد أيضا في مقابل المتكلمين الآخرين الذي وقعوا أسرها في بعض المسائل والتقسيمات عامتهم – كما يقول أبو المعين النسفي – يزعمون أن أقسام العالم ثلاثة: جواهر وأعراض وأجسام، والشيخ أبو منصور الماتريدي لم يرض بهذه القسمة لما فيها من عيب التداخل، فإن الأجسام هي الجواهر لأنها مركبة منها، فاختار بأن العالم قسمان: أعراض وأعيان….
١٧- أما أسلوب الماتريدي: فهو يأسر القارئ بعمقه وغوصه في بواطن الأمور محاولاً تحليلها وإدراك المعنى والحكمة والغرض منها، وملاحظة الواقع بدقة، وملاحظة المعاني من وراء الأمور، وإن خالفت ظواهرها، ومن ذلك قوله بخصوص الدليل السمعي: ((أما السمع فمما لا يخلو بشر من انتحاله مذهباً يعتمد عليه ويدعو غيره إليه، حتى شاركهم في ذلك أصحاب الشكوك والتجاهل فضلاً عن الذي يقر بوجود الأشياء وتحقيقها، على ذلك جرت سياسة ملوك الأرض من سيرة كل منهم ما راموا من تسوية أمورهم عليه، وتأليف ما بين قلوب رعيتهم به، وكذلك أمر الذين ادعوا الرسالة والحكمة ومن قام بتدبير أنواع الصناعة)). وهكذا ورغم ادعاء الشكاك إنكار المعرفة والعلم، ألزمهم الماتريدي وبفكرة في غاية البساطة والبراعة بالدليل السمعي، وأنهم لا يستطعيون الانفكاك من الاحتجاج به، وأن على حجية السمع والأخبار تدور أمور الدنيا ومصالح الشعوب، ويدبر الملوك والرؤساء أمر رعيتهم، ويصدرون الأوامر فيبلغها نوابهم إلى بقية الناس، فلولا حجية السمع والخبر ما قاموا بتبليغها لهم. وهو يسير على هذه الطريقة العميقة في كتابه كله تقريباً.
١٨- ومن الخصائص الأسلوبية للشيخ الماتريدي استعماله تعبير (وبعد) كثيراً، بحيث لا تكاد تخلو مسألة من استعمالها في الانتقال من كلام إلى آخر، وهو استعمال يسبق به القاضي عبد الجبار الذي نجده عنده أيضاً كما سبقت الإشارة، مما يدل إما على شيوع هذا الأسلوب عامة قديماً، أو أن القاضي عبد الجبار تأثر فيه بالشيخ الماتريدي.
المصدر: عصام أنس الزفتاوي