تقديم
في هذه العجالة سنعرض لمنهج الإمام الماتريدي في التفسير، وبهذا سنحاول ان نظهر جانبا آخر من المسار العلمي لهذا الإمام الذي عرف عنه فقط انه متكلم بارع ، وصاحب مذهب من مذاهب أهل السنة في العقيدة، فماذ عن جهوده في علم التفسير.
1- نبذة عن الإمام أبي منصور الماتريدي: هو الإمام أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي نسبة إلى القرية التي ولد بها وتسمى “ماتريد” أو “ماتريت”، وهي قرية من قرى سمرقند، والمعلومات عن حياته قليلة جدا ولم يعرف من شيوخه وتلاميذه إلا القليل، بل إننا لا نجد له أثرا في معظم كتب التراجم حتى أكثر كتب طبقات الحنفية أهملت ترجمته في معظمها رغم أن أغلبهم على مذهبه في العقائد ، وقد غلب عليه علم الكلام فألف الكثير من الكتب في هذا العلم، معظمها في الرد على أهل الأهواء من أصحاب الملل والنحل المختلفة خاصة المعتزلة حيث ألف كتبا في الرد على أقطابهم ومن هذه الكتب “بيان وهم المعتزلة” و “رد أوئل الأدلة” للكعبي” و “رد الأصول الخمسة” لأبي محمد الباهلي ” و “رد تهذيب الجدل ” و”رد وعيد الفساق للكعبي”، ورد أيضا على القرامطة والشيعة فصنف “رد كتاب الإمامة لبعض الروافض” و”الرد على أصول القرامطة”، وله في أصول الفقه “مأخذ الشرائع” و”كتاب الجدل” .
أما في التفسير فقد ألف كتاب “تأويلات أهل السنة” أو “التأويلات الماتريدية في بيان أصول السنة وأصول التوحيد” الذي هو موضع هذه العرض، قال في الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية ” وهو كتاب لا يوازيه كتاب بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في ذلك الفن ” .
والحق أن “التأويلات” أسهل تناولا من ـ كتاب ـ التوحيد وأوضح وأيسر، فهو يسوق تفسير الآية في وضوح ويسر، ويستخرج منها كل ما يستفاد بدون أن يغرقنا في متاهات التفاريع كما يفعل الفخر الرازي مثلا في تفسيره وهذا التفسير يشهد بسعة علم الماتريدي وغزارة معارفه في علوم الدين واللغة ومن حسن الحظ قد حفظ لنا الزمن هذا التفسير كما حفظ لنا كتاب التوحيد وكتاب المقالات أما كتبه الأخرى فقد ضاعت كلها.
2- في بيان مفهومي التفسير والتأويل عند الماتريدي
بداءة لا بد من ضبط مصطلحين مفتاحيين يستعملهما الإمام الماتريدي كثيرا في تفسيره للقرآن الكريم، حتى نكون على بين من منهما، ونفهمهما لأن ذلك شرط أساسي يسهل علينا عملية تتبع منهجه في التفسير وفهم أقواله وآرائه بالدقة الممكنة.
فهو يميز بين كل من مفهومي التفسير والتأويل ويعطي لكل منهما معنى مختلفا .
فالتفسير عنده إنما يختص به الصحابة دون غيرهم لأنه بيان لمراد الله تعالى ” ومعنى ذلك أن الصحابة شهدوا المشاهد وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن، فتفسير الآية أعم لما عاينوا وشهدوا إذ هو حقيقة المراد وهو كالمشاهدة لا تسمح إلا لمن علم، ومنه قيل :” من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار”.
أما التأويل فهو للفقهاء وهو : بيان معنى الأمر مأخوذ من آل يؤول أي يرجع . ومعناه كما قال أبو زيد : لو كان هذا كلام غيره يوجه إلى كذا وكذا من الوجوه فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه. ولا يقع التشديد في مثل هذا ما يقع في التفسير إذ ليس فيه الشهادة على الله لأنه لا يخبر عن المراد ولا يقول أراد به كذا أو عني، لكن يقول : يتوجه هذا على كذا وكذا من الوجوه.
فالتأويل عند الماتريدي يفسح أمام المفسر مجالا واسعا لإعمال النظر في الآيات بقصد استخراج واستنباط الوجوه التي تحتملها مع إمكانية ترجيح بعضها على بعض، لكن ليس على وجه القطع.وثمة سؤال يطرح بصدد هذا التمييز وهو كالتالي : هل إذا ورد تفسير عن الصحابة يكتفي به الماتريدي؟ أم أن وجود تفسير من هذا النوع لا يمنعه من التماس الوجوه التأويلية التي تحتملها الآية على مقتضى مفهوم الـتأويل عنده؟ وإذا كان التفسير هو بيان مراد الله من الآية فما العمل إذا اختلف المفسرون في تفسير آية فهل يحمل على تعدد مراد الله أم أن تفسيرا واحدا فقط هو الصحيح والباقي خطأ.
ولبيان هذا الفرق بين كل من التفسير والتأويل أورد مثالا فقال : ومثاله : أن أهل التفسير اختلفوا في قوله: ” الحمد لله” قال بعضهم: إن الله تعالى حمد نفسه.
وقال بعضهم : أمر أن يحمد. فمن قال: عنى هذا دون هذا فهو المفسر له .
أما التأويل فهو أن يقول يتوجه الحمد والثناء والمدح له، وإلى الثناء وإلى الأمر بالشكر لله عز وجل، والله أعلم بما أراد فالتفسير وجه واحد والتأويل ذو وجوه(3).
فالذي يتضح من هذا النص أن وجود تفسير من أهله – أي من الصحابة – لا يمنع النظر في الوجوه التأويلية للآية خاصة إذا أثرت تفسيرات متعددة عن الصحابة فهي حينئذ تصبح وجوها يتوجه إليها معنى الآية.
3– منهج الإمام الماتريدي في التفسير من خلال كتابه تأويلات أهل السنة:
حسب الاصطلاح الذي قرره الإمام الماتريدي فإنه – في كتابه هذا – إنما يؤول ولا يفسر، فهو يعنى ببيان الوجوه الممكنة في تفسير القرآن، ولهذه الغاية فإنه يتوسل إلى تحقيق مراده بأدوات علمية ومنهجية مختلفة امتلك ناصيتها بفضل ثقافته الواسعة والشاملة لمختلف المعارف الإسلامية والفلسفية المعروفة في عصره.
وفيما يلي نورد كلام باحثين متخصصين في الإمام الماتريدي وفكره، وهما يوضحان منهج الماتريدي على وجه الإجمال على أن تتولى الفقرات الموالية تفصيل هذا المنهج مدعما بالشواهد من تفسيره.
وأول هذين النصين هو قول الدكتور عبد الفتاح المغربي:” وفي كتاب تأويلات أهل السنة نستطيع أن نتلمس منهج الماتريدي في التأويل والتفسير، ويمتاز ذلك المنهج بالوضوح، فهو يذكر الآية ويشرحها في أيسر وأقصر عبارة ثم هو يهتم بإبراز المعنى والمضمون، ولا يفرق – ولعل المراد لا يفرع – في تلك التفصيلات والتفريعات التي لا طائل من تحتها ولا سبيل إلى القطع فيها، ويبدو عنده الالتزام بالنصوص في التفسير فهو يفسر القرآن بالقرآن أو بالسنة أو بالماثور، ويبدو اهتمامه بالمسائل الكلامية أثناء تأويله للآيات”.
ويقول الدكتور بلقاسم الغالي:” ومن الوثائق النادرة “تأويلات أهل السنة” قد عالج فيه بحذق ومهارة قضايا اعتقادية وأصولية وفقهية فضلا عن التفسير والشرح لكتاب الله العزيز، وذكر الاحتمالات في غير تطويل ممل، ولا إيجاز مخل، وكان مقتصدا في تعويله على النقل غير مكثر من الاستشهادات بأنواعها ما عدا استشهاده بالقرآن فهو قد يفسر الآية بالآية في كثير من المواضع، قليل الاستشهاد بالأحاديث النبوية مع خلو من الإسرائيليات خلوا تاما فكان بحق تأويلا لأهل السنة من غير تحكم ولا تعسف”.
من خلال هذي النصين يتبين لنا أن منهج الماتريدي في التفسير يتسم بغلبة الطابع الكلامي عليه، ولزوم جانب الإيجاز والاختصار وذلك بالتركيز على بيان المعنى والمضمون من اقصر طريق دون الخوض في التفريعات التي لا طائل منها. وعليه فإنه يمكن أن نتبين بعض ملامح منهجه من خلال النقط التالية:
أولا : بيان الوجوه التفسيرية التي تحتملها الآية
ينبني على تفريقه بين كل من التفسير والتأويل، أن فسح لنفسه المجال واسعا للنظر في الآيات القرآنية خاصة وأنه سمى كتابه تأويلات أهل السنة، والتأويل في نظره هو بيان الوجوه التي تحتملها الآية دون القطع في كون أي منها هو مراد الله تعالى، لذلك فهو يورد الآية أولا ثم يذكر ما قيل في تفسيرها، وكذا المعاني التي يمكن أن تحمل عليها الآية، وقد يتوج ذلك بترجيح أحدها أو يترك الأمر دون ترجيح قائلا : “الله أعلم” ويظهر ذلك في تفسيره من خلال ثلاثة صور:
– إما أن يذكر أقوال أهل التفسير- الصحابة- في الآية.
الذي يظهر من خلال مفهومه للتفسير أنه إذا قال : “قال أهل التفسير” أو “اختلف أهل التفسير” فهو يعني بهم الصحابة، لكنه يذكر الأقوال دون أن يعزوها إلى قائليها منهم، وقد يتبع ذلك كله تأويله الخاص للآية رغم وجود تفسير لها من أهله ومثال ذلك ما ذكره في تفسيره للفظة “العالمين” من سورة الفاتحة حيث قال : اختلف أهل التفسير في ” العالمين”
فمنهم من رده إلى كل ذي روح على وجه الأرض. ومنهم من رده على كل ذي روح في الأرض وغيرها، ومنهم من قال لله كذا وكذا عالم “، ثم عقب على هذه التفسيرات بذكر التأويل الراجح عنده بين الأقوال فقال: ” والتأويل – عندنا- ما اجمع عليه أهل الكلام أن “العالمين” اسم لجميع الأنام والخلق جميعا وقول أهل التفسير يرجع إلى مثله”، وإما أن يكتفي بذكر أقوال أهل التأويل:
ويعني بهم المفسرون من غير الصحابة رضي الله عنهم ويظهر ذلك من خلال تصديره لتفسير الآية بقوله مثلا :” وقيل فيه بأوجه…” ولكن دون أن ينسب هذه الأقوال إلى أصحابها أو يذكر قائليها، ومن ذلك كلامه في قوله تعالى :” وإذا خلوا إلى شياطينهم” قال :” قيل فيه بأوجه: قيل إن شياطينهم يعني الكهنة سموا بذلك لبعدهم عن الحق يقال شطن أي بعد، وقيل إن كل عات ومتمرد يسمى شيطانا لعتوه وتمرده كقوله : شياطين الجن والإنس ” سموا بذلك لعتوهم وتمردهم …
وقيل: سموا شياطين لأنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل معه فسموا بأسمائهم وذلك جائز … جار والله أعلم.ومن ذلك أيضا كلامه في قوله تعالى ” وإذا قلنا ادخلوا هذه القرية” (البقرة 58) ، قال :” اختلف في القرية :
قيل أنها بيت المقدس كقوله تعالى ” يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين” (المائدة 21)، أمروا بالدخول فيها والمقام هنالك لسعة عيشهم فيها ورزقهم إذ هو الموصوف بالسعة والخصب.
وقيل إن القرية التي أمروا بالدخول فيها والمقام هنالك هي القرية على انقضاء التيه والخروج منها، غير أن ليس إلى معرفة تلك القرية حاجة، إنما الحاجة على تعرف الخلاف الذي كان منهم وما يلحقهم بترك الطاعة له والائتمار والله أعلم”. فذكر القولين ولم يفته أن ينبه إلى أن محاولة معرفة الأصح منهما مما لا حاجة إليه ثم بين أن ما يجب أن تنصرف الهمة إلى معرفته، حتى تستخلص العبرة من الآية.- وقد يجتهد هو في تفسير الآية.
فيكتفي بذكر ما أوصله إليه اجتهاده من احتمالات ووجوه، ويكون ذلك إذا صدر تأويل الآية بقوله مثلا”:ويحتمل وجهين” ويخرج هذا الكلام على وجهين أو وجوه”. ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى :” وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ” (البقرة 170)، قال رحمه الله :” يحتمل هذا وجهين :
يحتمل أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذي هم عليه فقالوا عند ذاك لا ندع وصية آبائنا كقوله :” أتواصوا به بل هم قوم طاغون”(الذاريات 53).
أو كانوا قوما سفهاء أصحاب التقليد فقالوا إنا قلدنا آباءنا فلا نقلد غيرهم، وعند قوله تعالى :” أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون” (البقرة 170)، قال رحمه الله :” يخرج هذا الكلام على وجهين: أي تقلدون آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئا، ويحتمل “أو لو كان” أي وقد كان آباؤكم لا يعقلون شيئا فكيف تقلدونهم ؟ وهو كقوله تعالى:” قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم” (الزخرف24). أي وقد جئتكم، أو يقال من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟.
ثانيا: غلبة الطابع الكلام على تفسيره.
معلوم أن الماتريدي يعتبر من مؤسسي علم الكلام السني الذي يقوم على نصرة عقيدة أهل السنة عن طريق العقل إلى جانب الإمام أبي الحسن الأشعري الذي كان معاصرا له، والذي تصدى لنفس المهمة وإن ” لم يثبت وجود صلات بينهما أو معرفة احدهما آراء الآخر “. فإن آراءهما كانت متفقة في معظمها ولم يحص العلماء إلا مسائل معدودة كانت موضع خلاف بينهما أفردها بعضهم بالتأليف. ( وقد نظمها ابن السبكي وذكرها في طبقات الشافعية – انظر ترجمة الأشعري -).
ومنهجه في تقرير المسائل قائم على التوسط بين العقل والنقل فهو ينص في كتاب التوحيد على ” أن أصل ما يعرف به الدين وجهان:
أحدهما السمع، والآخر العقل “( كتاب التوحيد)، وزاد هذا المعنى تفصيلا صاحب تبصير الأدلة بقوله :” إن أسباب العلم وطرقه ثلاثة: أحدهما الحواس السليمة ،… والثاني خبر الصادق، والثالث : العقل”، وقال في موضع آخر :” ثبت بما ذكرنا كون الحواس والأخبار من أسباب المعارف فنقول :” وليس وراء هذه الأشياء سبب تعرف به صحة الأديان وفسادها”.
ولما كان العلم الذي برع فيه أبو منصور الماتريدي هو علم الكلام بلا منازع ، فقد طغت النزعة الكلامية على سائر مؤلفاته التي تبين مدى عمق ثقافته، ومدى نجاعة الحلول التي بسطها لمختلف القضايا العقدية الشائكة في ضوء الكتاب والسنة”، وتفسيره لا يشذ عن هذه القاعدة .
ويظهر ذلك في تناوله للقضايا العقدية المختلفة، ومناقشته للفرق المخالفة، فهو يغتنم مناسبة تفسيره لأي آية لها علاقة بمسألة من مسائل العقيدة للرد على المخالفين وإبطال آرائهم كأن يقول مثلا :” وفيه نقض على المعتزلة من وجهين” فتجد في تفسيره ردودا على مختلف الفرق الكلامية وعلى رأسها المعتزلة لأنها كانت أكثر الفرق ظهورا وبروزا في عصره، إلى جانبهم كان يرد غيرهم كالكرامية والجهمية والباطنية بل وكان يرد على أهل الأديان الأخرى أحيانا كالمجوس.
وقد ناقش المعتزلة في أهم المسائل التي انفردوا بها عن غيرهم من الفرق الكلامية، كمسألة تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، ومن ذلك ما أورده عند تفسيره لقوله تعالى :” إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” (المائدة 69) قال : للمعتزلة تعلق … بظاهر قوله تعالى :”لا خوف عليهم ولا هم يحزنون” وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن، لأنه أخبر أن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن فدل انه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة، فيقال لهم : لم ينف عنهم الخوف والحزن كل الوقت فيحتمل أن يكون عليه خوف في وقت، ولا خوف عليه في وقت آخر، لأن لكل مؤمن خوف البعث وفزعه حتى الرسل بقوله :” يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب” (المائدة 109) لشدة فزعهم من شدة ذلك اليوم ، فإذا دخلوا الجنة ، ونزلوا منازلهم ذهب ذلك الخوف والفزع عنهم، فعلى ذلك المؤمن يكون له خوف في وقت ولا خوف عليه في وقت آخر”.
وفي موضع آخر رد على المعتزلة بخصوص نفس المسألة عند تفسيره لقوله تعالى :” وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله” ( البقرة 110)، حيث قال :” تخرج على خلاف قول المعتزلة لأنهم يقولون : إن من ارتكب كبيرة ثم أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وجاهد في سبيل الله وحج بيت الله الحرام، وقدم خيرات كثيرة فإنه لا يجد ما قدم من – خير – ولكن يجد ما قدم من شر، وذلك ليس من فعل الكريم الجواد ـ أي الله سبحانه وتعالى ـ وكذلك وصف نفسه على خلاف ما وصفوه فقال :” أولئك الذين نتقبل منهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عنهم سيئاتهم” (الأحقاف 16) ، وهم يقولون لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات، ولا يتجاوز عن سيئاتهم، وذلك سرف في القول فنعوذ بالله من السرف في القول والحكم إلى الله تعالى وبالله التوفيق”.
وهو لا يكتفي في كثير من المناسبات بمجرد الرد على آراء الفرق، بل إنه أحيانا يحلل هذه الآراء وينفذ إلى أعماقها ليميز فيها بين ما يراه صحيحا فيقبله وما يراه باطلا فيرده كما هو الحال في هذه الآية “: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون” (البقرة 33) حيث قال :” وفي الآية منع التكلم في الشيء إلا بعلم، وهذا هو الحق الذي يلزم كل من عرف الله تعالى وبه أمر الله تعالى نبيه عليه السلام فقال :” ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ” ( الإسراء 36). وسئل أبو حنيفة عن الإرجاء ما بدؤه؟ قال فعل الملائكة إذا سئلوا عن أمر ولم يعرفوه فوضوا ذلك إلى الله تعالى :” ومعنى الإرجاء نوعان”
أحدهما محمود :” وهو إرجاء أصحاب الكبائر ليحكم الله فيهم بما شاء ولا ننزلهم نارا ولا جنة لقوله تعالى:”إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما” (النساء48)، والإرجاء المذموم هو الجبر أن يرجأ الأفعال إلى الله تعالى ولا يجعل للعبد فيها فعلا ولا تدبير شيء” .
يتضح من هذا أنه يعتمد العقل في تفسيره وفي مناقشة خصومه في الرأي كما يعتمد على تفسير الآيات بعضها بعضا.
3- الأدوات التفسيرية عند الماتريدي:
وتتجلى فيما يلي :
1- تفسير القرآن بالقرآن :
من المقرر عند المفسرين أن أعلى مراتب التفسير تفسير القرآن بالقرآن، وهذا كثير في تفسير الماتريدي خاصة وأنه مقتصد في الاستشهاد بالأحاديث، فإذا كان في كتاب الله ما يفسر بعضه بعضا اكتفى به خاصة إذا كان بصدد الكلام عن مسألة كلامية المجال الذي برع فيه الماتريدي، ومن ذلك ما قاله عند تفسيره لمعنى الإصر في قوله تعالى :” ربنا لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا” قال رحمه الله :” قيل الإصر: هو العهد ويقولون : ربنا لا تحمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه كما حملته على الذين من قبلنا، وكان من قبلهم إذا خطئوا خطيئة حرم الله عليهم على نحوها مما أحل لهم لقوله تعالى :” فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ” (النساء 160)، وكأصحاب الأخدود وغيرهم فخاف المسلمون فقالوا: ربنا لا تحمل علينا إصرا في جرم أجرمناه فتحرم علينا الطيبات، وأصل الإصر الثقل الشديد الذي كان عليهم من نحو ما كان من توبتهم إذا أمر بقتل بعضهم بعضا ” كقوله :” فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم”
2- تفسير القرآن بالسنة والآثار
إن الماتريدي قليل الاستشهاد بالأحاديث في تفسيره هذا، وحتى إن ذكرها فهو لا يحفل كثيرا ببيان درجتها من الصحة ولا بذكر أسانيدها، وغالبا ما يأتي بها بعد أن يقرر ما ذهب إليه في تفسير الآية، فيكون الحديث مزكيا لمذهبه فقط لا أصلا استنبطه منه، ولعل ما حمله على هذا الأمر هو لزومه جانب الاختصار والإيجاز في تفسيره، وغلبة المسائل العقدية في العقدية عليه.
ومعلوم أن جمهور المتكلمين يتشددون في الاستشهاد بالحديث في العقيدة، خاصة إذا تعلق الأمر بمسائل تقع في دائرة الخلاف بين الفرق المختلفة، ويشترطون لذلك شروطا مبسوطة في كتبهم هذا فضلا عن أن الأحاديث المفسرة للقرآن معدودة أصلا.
أما استشهاده بأقوال الصحابة فالظاهر أنه كثير في تفسيره، لكن دون عزو الأقوال إلى قائليها منهم فإذا قال :” قال أهل التفسير” فإنه يقصد الصحابة كما بين ذلك في مقدمة تفسيره، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في موضع سابق من هذا العرض.
أما بخصوص التابعين ومن بعدهم فيظهر أنه يعتبرهم من أهل التأويل فإذا أراد ذكرهم أقوالهم قال :” قال أهل التأويل ” أو ” اختلف أهل التأويل”، وفي الشواهد التي ذكرت في غير هذا الموضع غنية عن ذكر المزيد منها.
3- القراءات :
من الأدوات التفسيرية التي اعتمدها عليها الإمام الماتريدي في التفسير القراءات القرآنية، فهو يذكرها على وجه الإجمال دون أن يذكر القراء الذين قرؤوا بها، كما لا يستقصي كل القراءات بل يكتفي بما يرى أنه يفيده في استجلاء معاني الآية، كما يبين المعنى الذي تؤديه كل قراءة.
قال في تفسير قوله تعالى:” فأذنوا بحرب من الله ” :” قوله ” فأذنوا” فيه لغتان بالقطع والوصل، فمن قرأ بالوصل فهو على العلم أنه قال للمؤمنين انه حرب لنا” ، وقد يستعين ببعض القراءات الشاذة إذا كان ذلك يفيد في بيان معاني بعض الألفاظ المختلف فيها كما هو الشأن بالنسبة للفظ “الفوم” في قوله تعالى :” ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقتائها وفومها وعدسها وبصلها” قال رحمه الله :” اختلف في “الفوم” قيل الفوم هو الثوم وكذلك روي في قراءة عبد الله – ابن مسعود- أنه قرأ وثومها، وقيل “الفوم” البر ومثل هذا كثير في تفسيره.
4- اللغة
واهتمام الماتريدي باللغة واستثمارها في التفسير يتجلى في أمرين :
أولهما اعتناؤه ببيان معاني الألفاظ : وتفسيره حافل بمثل هذا، فقد يكتفي في بعض الآيات بشرح وبيان معاني كلمة واحدة أو أكثر، إذا كانت مفتاحا لفهم باقي الآية والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها:”
قوله تعالى :” أنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه” ( البقرة 259)، قال رحمه الله :”قيل لم تأت عليه السنون، أي كأنه لم تأت عليه السنون، وقيل لم يتسنه : لم يتغير، وقيل لم يتسنه لم ينتن والأول أشبه”.
وقوله تعالى :” لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” (البقرة 179)، قال رحمه الله :” قيل الرفث جميع حاجات الرجال إلى النساء، قاله ابن عباس رضي الله عنه:” وعن عبد الله بن عمر مثله … وقوله ” لا فسوق” الفسوق السباب والفسق حقيقة الخروج من أمر الله تعالى :” … وقوله :” لا جدال” قيل الجدال المراء”.
والأمر الثاني: اهتمامه ببيان أغراض بعض الأساليب البلاغية: كالأمر والنهي وغيرهما لما لذلك من أهمية في التوصل إلى المعنى المراد على وجه الدقة، ومن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى :” وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة ” ففي هذه الآية أمر ونهي: أما الأمر فقد فقال فيه رحمه الله :” ثم معنى الأمر من الله تعالى لأدم وزوجته بالسكنى في الجنة والمقام فيها أمرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرة نهيا عن التناول منها وأمرا بالاجتناب عنها… وذي صورة الممتحن أن يؤمر بشيء وينهى عن شيء “.
أما النهي أي النهي عن قربان الشجرة فقد قال الماتريدي في بيان معناه :” ثم احتمل النهي عن التناول منها وجوها :
أحدها : إيثار الآخر عليها، وقد يكون أن ينهى الرجل عن التناول من شيء إيثارا لآخر عليه، ويحتمل أيضا النهي عن التناول من الشيء لداء يكون فيه لما يخاف من الضرر به لا على جهة الإيثار ولكن إشفاقا عليه ورحمة.
ويحتمل أيضا النهي عن التناول من الشيء على جهة الحرمة، فإن كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لنا اشتبه عليهما، ولم يعرفا معنى النهي بأنه نهي حرمة، أو نهي إيثار غيرهما، أو نهي داء لأنهما لو كانا يعلمان أن ذلك نهي حرمة لكان لا يأتيانها ولا يتناولان منها وبالله التوفيق.
خاتمــة:
وختاما فهذا عرض موجز لمنهج هذا الإمام في التفسير عسى أن يلقي بعض الضوء عل هذا العلم، فرغم مكانة الإمام الماتريدي في علم الكلام خاصة كثرة أتباع مذهبه في العقيدة، فإنه كثير من جوانب حياته العلمية ليست معروفة بما فيه الكفاية، ولا أدل على ذلك شح مصادر ترجمته.
المصدر: مدونة عمر أهمو