لقد اختار قنالي زادة، الفقيه التركي المولود في مدينة إسبرطا، أن يكون كتابه مختصرًا لطبقات الحنفية، يضم بين جنباته معطيات مفيدة عن التدوين الأصولي في مذهب أهل الرأي.
ولئن كان التأليف في أصول الفقه الحنفي قد دشّن في القرن الثاني للهجرة على يد أبي يوسف وفق رواية قنالي زادة، فإنّ القرن الثالث لم يظهر فيه إلاّ كتاب واحد لعيسى بن أبان (ت 221 هـ) قال عنه: “له كتاب “الحجة” وسبب تصنيفه مشهور” وعلى الرغم من الطابع المختزل لهذه المعطيات، فإنّها أسهمت في تصحيح ما ورد في ترجمة ابن أبي الوفاء القرشي الذي ذكر أن لعيسى بن أبان كتاب “الحج”، وأنّه رأى المجلّــد الأوّل منه. والظاهر أنّ العنوان الصحيح هو الحجة أو “الحجج” على حد رواية ابن النديم، فقد أورد عناوين مصنفات عيسى بن أبان، ومنها كتاب “خبر الواحد” وكتاب “إثبات القياس”، وكتاب “اجتهاد الرأي” وكتاب “الحجج”3. أمّا سبب تصنيف كتاب الحجة الذي اعتبره القرشي وقنالي زاده مشهورًا، فهو الدفاع عن المذهب الحنفي، فقد جمع مخالفو الحنفية في عهد المأمون أحاديث كثيرة أطلعوا الخليفة عليها وأخبروه أنّ أصحاب أبي حنيفة لا علم لهم بها، فصنّف ابن أبان كتابه المذكور وبيّن فيه وجوه الأخبار وما يجب قبوله وما يجب تأويله، وأوضح حجج أبي حنيفة، فلمّا قرأه المأمون ترحم على أبي حنيفة.
وممّا يجدر التنبيه إليه أنّ القرن الثالث لم يظهر فيه إلاّ مؤلف واحد في أصول الفقه هو ابن أبان، وأنّ محمد بن سماعة أبو عبد الله (ت 233هـ) الذي كانت له، حسب رواية قنالي زاده نقلاً عن ابن النديم (ت 385 هـ)، كتب مصنفة وأصول فقه لا ينتمي إلى المؤلفين في الأصول، لأنّ عبارة أصول في الفقه، إمّا أنّها تعني قواعد في الفقه أو تدلّ على ما اصطلح عليه لدى الحنفية باسم مسائل الأصول أو مسائل ظاهر الرواية، وهي مسائل رويت عن أصحاب المذاهب. وهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.
وقد ظهرت في القرن الرابع للهجرة عدّة مصادر أصولية أهمل قنالي زاده ذكرها، ولعلّه لا يعرفها، نذكر منها خاصة مأخذ “الشرائع” وكتاب “الجدل”لأبي منصور الماتريدي (ت333 هـ)، لكنّه في المقابل ذكر أبا بكر الرازي الجصّاص (ت 370هـ) قائلاً إنّه: “انتهت إليه رئاسة الحنفية وسئل بالقضاء، فامتنع له كتاب “أحكام القرآن” وكتاب في أصول الفقه”.”ولم ينفرد قنالي زاده بهذا المعطى المختزل جدًّا عن هذا الكتاب الأصولي، إذ يكتفي صاحب” الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية” في ترجمته للجصاص بالقول: “له كتاب مفيد في أصول الفقه.”ويورد قولاً للخبازي في كتابه “المغني في أصول الفقه” أثناء تطرقه إلى الحديث المشهور، ينصّ على قول الجصّاص إنّه أحد قسمي المتواتر. ونقدّر أنّ هذه المعطيات وغيرها تدعم ما ذهب إليه محقق كتاب “الفصول في الأصول” للجصّاص، فقد بيّن أنّ هذا الكتاب عرف تاريخيًا متقلّبًا، ففي القرن الخامس كانت بعض النسخ منه متوفّرة. يقول السرخسي بعد أن ذكر تعريف العام عند الجصّاص: “هكذا رأيته في بعض النسخ من الكتاب.”إلاّ أنّه بين القرن الخامس للهجرة وأوائل القرن الثامن للهجرة فقدت تلك النسخ أو كادت، وهو ما يفسّر اعتماد عبد العزيز البخاري أو صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود على نقول السرخسي من كتــاب الجصّاص. ويرجّح أن يكون تاريخ تأليف هذا الكتاب بعد وفاة أبي الحسن الكرخي (ت 340 هـ) شيخ الجصّاص ذلك أنّه ألّفه بعد أن تولّى كرسي الحنفية إثر موت الكرخي.
وتعزى قيمة هذا الكتاب إلى أنّه ثاني كتاب في أصول الفقه يصلنا بعد “رسالة الشافعي”، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ فيه محاولة لنقد منظومة الشافعي وتجاوزها، على غرار اشتمال هذا الكتاب على أبواب خاصة بمباحث الحقيقة والمجاز والمحكم والمتشابه والأمر والنهي، وهي أبواب غائبة من رسالة الشافعي لكنّها ستضحى شبه قارة في المصادر اللاحقة.
وقد اهتمّ قنالي زادة بتوثيق بعض المعطيات الخاصّة بأهمّ علماء أصول الفقه الحنفية في القرن الخامس للهجرة، فذكر أبا زيد الدبّوسي (ت 432 هـ) معتبرًا إياه من كبار الفقهاء الحنفية، ممّن يضرب بهم المثل،واكتفى بذكر عنوان كتابه في أصول الفقه وهو “التقويم”، وهذا اختزال لعبارة “تقويم الأدلّة” التي عرف بها لدى القرشي وغيره.
ومن أهم مميزات كتاب قنالي زادة:
1- الطابع المختصر لتراجم الأصوليين:
لقد اختار قنالي زادة أن يكون كتابه مختصِرًا لطبقات الحنفية، وصرّح بذلك في مقدّمة كتابه قائلاً: “أمّا بعد، فهذا كتاب مختصر في ذكر طبقات الحنفية، ذكرت فيه المشاهير من الأئمة”وقد أثّر هذا الطابع المختصر في تراجم الأصوليين التي اقتصر فيها قنالي زاده على معطيات قليلة جدًّا يتضح إيجازها من خلال المقارنة بين ترجمة علي البزدوي عنده في كتاب “الفوائد البهية في تراجم الحنفية”، فلئن اكتفى قنالي زاده في ترجمة البزدوي بجملة واحدة ذات صلة بأصول الفقه هي: “وله في أصول الفقه كتاب مشهور مفيد”، فإنّ صاحب كتاب “الفوائد البهيّة في تراجم الحنفية” يذكر أكثر من ذلك فيقول: “إمام الدنيا في الفروع والأصول: له تصانيف كثيرة معتبرة منها المبسوط… وكتاب كبير في أصول الفقه مشهور بأصول البزدوي معتبر معتمد… قال الجامع: قد طالعت أصوله مع شرحه “الكشف” للبخاري، وشرح الهداد والجونفوري، وهو كتاب نفيس معتمد عند الأجلة.”ونظرًا للطابع المختصر لكتاب قنالي زاده يمكن للباحث في تاريخ علم أصول الفقه أن ينطلق منه بشرط تطعيمه بكتب طبقات أخرى، فهو عندما يترجم لأبي زيد الدبوسي (ت 345 هـ) يذكر كتابه في أصول الفقه “التقويم” ولا يذكر مختصره الذي ذكره القرشي في “الجواهر المضيئة” و”المختصر” لمحمد بن الحسين بن محمد فخر الدين المعروف بفخر القضاة أبو بكر الأرسابندي, ولعلّ ما يفسّر هذا الطابع المختصر قلّة المعطيات الخاصّة بالأصوليين الحنفيين مقارنة بغيرهم من الأصوليين من الشافعية مثلاً، وذلك لأنّ الأحناف لم ينشغلوا إلاّ في زمن متأخّر بكتابة الطبقات وتدوين تاريخ مذهبهم. ومن أقدم كتب طبقات الحنفية التي وصلتنا “الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية” لاين أبي الوفاء القرشي (ت 775 هـ).
2- تأصيل صفة الاجتهاد:
يمكن اعتبار قنالي زاده من خلال كتابه “طبقات الحنفية” من الفقهاء الداعمين للاجتهاد والرافضين للتقليد، وقد تجلّى موقفه هذا بشكل خاصّ من خلال اعتماده الاجتهاد معيارًا لتقسيم الفقهاء إلى ستّ طبقات، تمثّل كلّ طبقة مستوى من مستويات الاجتهاد.
فكأنّنا أمام تفتيت جديد لمفهوم الاجتهاد الأصولي التقليدي إلى مفاهيم ستّ مختلفة وفق الطبقة التي ينتمي إليها كلّ مجتهد، ففي الطبقة الأولى التي تضمّ الأئمّة الستة الذين ذكرهم، ومن سلك مسلكهم، يبين قنالي زاده بأنّ معنى الاجتهاد عندهم هو “تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع من الأدلّة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، حسب تلك القواعد من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول”. وهكذا تقوم هذه المرتبة العليا من الاجتهاد على مقومين أساسيين؛ أحدهما فعل التأسيس، ويتبدّى في تأسيس قواعد الأصول، والآخر فعل الاستقلال، وهو ما به ينعدم كلّ تقليد للغير، إن على صعيد الأصول أو في مستوى الفروع.
وبناءً على هذا، وصف قنالي زاده من يتصفون بهاتين الصفتين بأنهم يكوّنون “الطبقة العليا من طبقات الاجتهاد”، وأطلق على هذه الطبقة الأولى اسم “طبقة المجتهدين في الشرع”، وهي عبارة عامّة أوسع من عبارة المذهب، وبذلك يتماهى المنتمي إلى هذه الطبقة مع مفهوم المجتهد المطلق. ويضعف معنى الاجتهاد في الطبقة الثانية التي وسمها قنالي زاده بـ ” طبقة المجتهدين في المذهب”. وهي تتكوّن في نظره من تلاميذ أصحاب الطبقة الأولى كأبي يوسف ومحمد لأبي حنيفة، وكالمزني والبويطي للشافعي، وغيرهم على هذا القياس. ويضبط الفقيه الإسبرطي معنى الاجتهاد في هذه الطبقة بأنّه يقوم على “استخراج الأحكام من الأدلة على مقتضى القواعد التي قرّرها أساتذتهم، فإنّهم وإن خالفوهم في بعض أحكام الفروع لكنّهم يقلّدونهم في قواعد الأصول. وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب ويفارقونهم كالشافعي ونظرائه المخالفين في الأحكام لأبي حنيفة مثلاً فإنّهم غير مقلّدين له فـي الأصول.”
فلئن كان الاجتهاد في الطبقة السابقة مستقلاًّ فإنّه في هذه الطبقة الوسطى، على حدّ عبارة قنالي زاده، اجتهاد تابع في مستوى الأصول لأساتذة علماء هذه الطبقة، وهذه التبعية مبعث فخر لصاحب كتاب “طبقات الحنفية” لأنّها تتوفّر في المذهب الحنفي دون غيره من المذاهب.
وهكذا لا يكون للاجتهاد من مساحة للحركة غير نطاق الفروع، فكيف سيكون الأمر في الطبقة الثالثة التي يسمّيها قنالي زاده “طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب”؟ يذكر من العلماء المعتبرين في هذه الطبقة الخصّاف والطحاوي والكرخي والسرخسي وفخر الإسلام البزدوي وغيرهم، وهؤلاء “لا يقدرون على مخالفة الشيوخ لا في الأصول ولا في الفروع، ولكنّهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نصّ فيها عنهم على حسب أصول قرّرها شيوخهم ومقتضى قواعد بسطها أساتيذهم.“ ويضيق مفهوم الاجتهاد أكثر فأكثر في هذه الطبقة الثالثة، فيصبح العالم عاجزًا عن مخالفة من تقدّمه إن على صعيد الأصول أو الفروع، ويقتصر مجال حركته على المسائل التي لم يقل فيها السابقون كلمتهم؛ أي على ما سمّي حديثًا بـ “منطقة الفراغ التشريعي”.
وقد كان قنالي زاده واعيًا بمحدودية المجهود الاجتهادي لعلماء هذه الطبقة، لذلك وسمها “بالطبقة السفلى من طبقات الاجتهاد”. وبناء على هذا سينعدم الاجتهاد في الطبقات المتبقية التي ستوسم بطبقات المقلّدين، وفي مقدّمتها طبقة أصحاب التخريج من المقلّدين كأبي بكر الرازي الجصّاص (ت370 هـ) وأصحابه. وهؤلاء حسب قنالي زاده “لا يقدرون على الاجتهاد أصلاً، لكنّهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم للمأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم مبهم يحتمل الأمرين، منقول عن صاحب المذهب أو عن واحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع وما وقع في بعض المواضع من “الهداية” من قوله: كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل.”
أمّا الطبقة الخامسة لدى قنالي زاده، فهي “طبقة أصحاب الترجيح من المقلّدين” كأبي الحسين القدوري وصاحب “الهداية” وأمثالهما، ويقتصر عملهم المندرج في إطار التقليد على “تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم: هذا أولى وهذا أصحّ، وهذا أرفق للناس، وهذا أوفق للقياس.”وفي الطبقة السادسة التي تجمع “المقلّدين القادرين على التمييز بين الأقوى والضعيف وظاهر الرواية والرواية النادرة” يختزل دور المنتمين إليها في تجنب نقل الأقوال المردودة والروايات الضعيفة في كتبهم. وهكذا سيّج التقليد، ولم يترك حرًّا طليقًا حرصًا على عدم مصادمة العقائد المستقرّة والمذاهب القائمة. وهذا ما يبرّر تحذير قنالي زاده من التقليد غير الخاضع للضوابط المعروفة، إذ يقول: “وأمّا المقلّدون الذين لا يقدرون على التمييز المذكور ولا يفرّقون بين الغث والسمين، ولا يميّزون الشمال عن اليمين، بل يجمعون ما يجدون كحاطب الليل، فالويل لهم ولمن قلّدهم كلّ الويل.”
والظاهر أنّ كتب المقلّدين قد بلغت من الكثرة والتنوّع درجة مقلقة في عصر قنالي زاده، لذلك دعا إلى موقف انتقائي يقتصر من خلاله على الاكتفاء بكتب الأئمّة، إذ يقول: “فالاحتياط في مثل هذا الزمان أن لا يعمل بكلّ الكتب والأسفار، بل بالكتب المعتبرة للأئمة الأخيار.
ومن تجليات حرص قنالي زادة على دعم الاجتهاد رفض احتكار علماء السلف له، فقد يكون في الخلف المتأخرين في الزمن من تجاوزهم علمًا ومعرفةً: يقول: “وعلم من الضابطة المذكورة أنّ العبرة بشأنهم في مرتبة الاجتهاد والدراية، وحالهم في درجة التخريج والرواية لا بتقدّمهم في الأعصار وتسابقهم في الأعمار، إذ كم متأخر في الزمان أعلى مرتبة في الاجتهاد والفقه من المتقدّم.”ويتأكّد تأييد هذا الفقيه للاجتهاد كذلك من خلال تسامحه مع الاختلاف، فتنوّع آراء الفقهاء في صالح الناس لأنّه يوسّع لهم آفاق الاختيار والسلوك. إذ يقول: “إنّ اتفاق أئمة الهدى واختلافهم رحمة من الله وتوسعة على الناس”إن هذه الروح التي تحلّى بها قنالي زاده جعلته يتجاوز التعصّب لإمام مذهبه ويسمح بالخروج عن سلطته الملزمة قصد إضفاء المرونة على النشاط الإفتائي، إذ يقول: “وإذا كان أبو حنيفة في جانب وأبو يوسف ومحمّد في جانب فالمفتي بالخيار إن شاء أخذ بقوله وإن شاء أخذ بقولهما.”
3- خصوصية موقفه في مسألة الريادة في التأليف الأصولي:
ومن أهمّ مظاهر خروج قنالي زاده عن المتعارف وخرقه للإجماع السائد موقفه في مسألة الريادة في التصنيف في علم أصول الفقه، فإنّنا نلفيه يقول عن أبي يوسف الفقيه (ت 181 هـ أو 182 هـ): والقاضي الحنفي “هو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها وبثّ علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.”والواضح أنّ هذا الرأي يخالف ما ذهب إليه أغلب علماء المذاهب الإسلامية من أنّ إمام المذهب الشافعي محمّد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) هو أوّل من وضع تأليفًا في أصول الفقه سمّاه “الرسالة”. وتوجد شهادات كثيرة تدعم هذا الرأي إن داخل المذهب الشافعي أو خارجه، فعلى الصعيد الأوّل يقرّ الجويني (ت 478 هـ) أنّه لم يسبق الشافعي أحد في تصانيف الأصول ومعرفتها.32 أمّا على الصعيد الثاني، فإنّنا نعثر على شهادة من داخل المذهب الحنبلي تبرز ريادة الشافعي، يقول ابن عقيل (ت 513 هـ) في هذا الشأن:” وذلك أنّ الشافعي أبو هذا العلم وأمّه، وهو أوّل من هذّب أصول الفقه…”33 ويشدّد ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ) على ريادة الشافعي في مستوى التأليف في أصول الفقه حين ينقل قول الفقيه الشافعي الأسنوي:” الشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه بإجماع، وأوّل من قرّر ناسخ الحديث من منسوخه، وأوّل من صنّف في أبواب من الفقه معروفة.”34 ولم تقتصر هذه الشهادات على المذهبين الشافعي والحنبلي فحسب وإنّما امتدت إلى المذهب المالكي أيضًا، فقد اعتبر المؤرّخ والفقيه المالكي ابن خلدون (ت 808هـ) أنّ الشافعي أوّل من كتب في علم أصول الفقه، أملى فيه رسالته المشهورة. ولا تبرّر هذه الشهادات القول بوجود إجماع على ريادة الشافعي، فقد برزت في بعض المذاهب مواقف قد تكون شاذّة تنسب الأولية في التأليف في أصول الفقه إلى غير الشافعي. وفي هذا الصدد نقدّر أنّ موقف قنالي زاده خضع إلى سلطة علماء المذهب السابقين، ومنهم الموفق المكّي (ت 568 هـ) فقد أورد أنّ أبا يوسف أوّل من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. وقد نقل الرأي ذاته الفقيه الحنفي طاش كبري زاده (ت962 هـ). والملاحظ أنّ رأيًا آخر خارج المذهب الحنفي نسب على فقيه حنفي آخر الريادة في علم أصول الفقه. ويذكر ابن النديم في هذا السياق أنّ لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) كتبًا في الأصول: منها كتاب الصلاة، وكتاب اجتهاد الرأي، وكتاب الاستحسان، وكتاب أصول الفقه.
4- الإجماع في كتاب “طبقات الحنفية”:
تبدو المكانة المحورية للإجماع في كتاب “طبقات الحنفية” لقنالي زاده من مقدّمته، فقد اعتبر فيها أنّه إنّما ذكر “المشاهير من الأئمّة الذين نقلوا علم الشريعة في كلّ طبقة… حيث لا يسع الفقيه جهله، لحاجته إليه في معرفة من يعتبر قوله في انعقاد الإجماع في محلّ الاتفاق والاجتماع، ويعتدّ به في الخلاف في محلّ الافتــراق والاختلاف.”39 ويعني هذا أنّ غاية المؤلف من هذا الكتاب لم تكن التأريخ للفقهاء وحفظ ذكر علماء الماضي بقدر ما كانت إفادة علماء عصره ومن بعدهم ليتمكّنوا من خلال الاطلاع على تراجم علماء المذهب الحنفي من تبيّن العلماء الذين يمكن التعويل على آرائهم، إن على صعيد انعقاد الإجماع أو في مستوى مواضع الاختلاف. وهكذا فإنّ الأصولية الفقهية كانت الدافع الحقيقي لهذا الكتاب، وهي غاية موظّفة لخدمة المذهب الحنفي وعلمائه، وقد حضرت هذه الغاية في عدّة مواضع من كتاب قنالي زاده، وارتبطت في مناسبة أخرى بالإجماع، ففي ترجمته لابن سعيد البردعي (ت 317 هـ) ذكر حكاية تبرز توظيف الإجماع في الجدل المذهبي وفوز العالم الحنفي على الفقيه الظاهري، إذ يقول:” فوقف على داود بن علي صاحب الظاهر، وكان يكلّم رجلاً من أصحاب أبي حنيفة، وقد ضعف في يده الحنفي فجلس فسأله عن بيع أمّهات الأولاد فقال: يجوز. فقال له: لم قلت؟ قال لأنّا أجمعنا على جواز بيعهنّ قبل العلوق: فلا نزول عن هذا الإجماع إلاّ بإجماع مثله. فقال له: أجمعنا بعد العلوق قبل وضع الحمل أنّه لا يجوز بيعها فيجب أن نتمسّك بهذا الإجماع، ولا نزول عنه إلاّ بإجماع مثله فانقطع داود وقال: ينظر في هذا.”
ولئن كان حبّ المذهب الحنفي هو الذي دفع قنالي زاده إلى تأليف كتابه “طبقات الحنفية” فذلك لا يعني تعصبه لهذا المذهب تعصبًا أعمى، ومن مدعمات هذا الرأي قوله: ” ولا يجوز للمشايخ أن يأخذوا بقول واحد من أصحابنا عملاً بمصلحة أهل الزمان.”وبعني هذا أنّ المصلحة العامة تقدّم على قول العالم الواحد من علماء المذهب الحنفي. ومن ذلك أيضًا تغييب بعض المعطيات الخاصة بالصراع المذهبي القديم بين الحنفية والشافعية بسبب موقف الغزالي الناقد لأبي حنيفة في بداية مساره العلمي، وفي هذا الصدد نجده يسكت عن ذكر رسالة في الردّ على كتاب “المنخول في علم الأصول” لأبي حامد الغزالي كتبها محمد بن عبد الستار الكردري (ت 642هـ)، ونراه في المقابل يحرص على ذكر ما يقرّب بين المذهبين الحنفي والشافعي، وذلك لأنه تواصلت خلال القرن الثامن للهجرة وبعده ظاهرة الجمع بين طريقة الحنفية في التأليف الأصولي، وهي تعرف بطريقة الفقهاء، ومنهج الشافعية المعرف بمنهج المتكلمين. وقد ذكر من الأمثلة على الكتب الجامعة بين الطريقتين “تنقيح الأصول” لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي (ت 747هـ)، وهو متن مختصر في أصول الفقه لخصه مؤلفه من كتابي أصول البزدوي، و”المحصول في علم أصول الفقه” لفخر الدين الرازي، و”مختصر” ابن الحاجب(ت 646هـ). وذكر أيضًا في السياق نفسه كتاب “التحرير في أصول الفقه” لابن الهمام (ت 861 هـ).
المؤلف: حمَّادي دويب