نسبته ومولده ونشأته
محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين المعروف بابن عابدين. ولد رحمه الله بدمشق عام 1198 هجرية، ورباه والده تربية دينية، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير السن، وكان والده تاجراً، فأجلسه في محل تجارته ليُمرّنه على أعمال التجارة، وبينما هو يقرأ في المتجر، إذ مرّ به رجل من الصالحين فأنكر عليه القراءة لسبين:
أولاً: لأنه لا يرتلها، ولا يجيد أحكامها.
ثانياً: لأن الناس مشغولون عن سماع القرآن بلهو التجارة، فهم آثمون لترك الإنصات وهو آثم لإيقاعهم في الإثم.
فقام ابن عابدين من فوره وسأل عن أشهر المقرئين في عصره، فدلّه أحد القراء على شيخ القراء يومئذ وهو الشيخ سعيد الحموي، فذهب إليه وسأله أن يعلمه أحكام القراءة والتجويد، وكان ابن عابدين لم يناهز الحلم بعد، وأمره بحفظ الجزرية والشاطبية، ثم تعلم عليه النحو والصرف وفقه الإمام الشافعي.
من شيوخه
الشيخ محمد السالمي العامري العقاد، حيث قرأ عليه الحديث والتفسير والمنطق، وكان الشيخ حفيظاً فأشار عليه بالتفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، فصدع للأمر وقرأ عليه كتب الفقه والأصول في هذا المذهب، ونبغ في علوم شتى حتى أصبح علامة زمانه، ثم رحل إلى مصر وأخذ عن الشيخ أمير المصري، كما أجازه محدث الديار الشامية الشيخ محمد الكزبري، وما زال مُجدّاً في نشر العلم بالتدريس والتصنيف حتى صار يُشار إليه بالبنان، وعنه أخذ كثير من العلماء الأجلاء، منهم الشيخ عبد الغني الميداني والشيخ حسن البيطار وأحمد أفندي الإسلامبولي، وغيرهم. وقد عُرف ابن عابدين بالتّديُّن والعفة والعلم والصلاح والتقوى.
مُصنفاته
لقد ظفرت المكتبة الإسلامية بالكثير من مصنفاته ومؤلفاته التي امتاز فيها بالبحث الدقيق والعلم الغزير، ولما فيها من ظهور لشخصيته وسلامة لغته وتنوع ثقافته، لاقت قبولاً عظيماً، فشرّقت وغرّبت، وأغارت وأنجدت، ومما وصل إلينا منها:
1-“رد المحتار على الدر المختار” في الفقه، وهو المعروف بحاشية ابن عابدين وهو أشهر ما صنفه.
2-“رفع الأنظار عما أورده الحلبي على الدر المختار”.
3-“العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية”.
4-“نسمات الأسحار على شرح المنار”.
5-“حاشية على المطول” في البلاغة.
6-“الرحيق المختوم” في الفرائض.
7-“حواشي على تفسير البيضاوي” التزم فيها أن لا يذكر شيئاً ذكره المفسرون.
8-“مجموعة رسائل” وهي 32 رسالة تشتمل على عدة فنون.
9-“عقود اللآلي في الأسانيد الأعوالي”.
وفاته
بعد هذه الحياة الحافلة بجلائل الأعمال كانت وفاته بدمشق سنة 1252 هجرية، ودُفن بمقبرة “باب الصغير”.(كتاب رد المحتار لابن عابدين بتحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض/الطبعة الثانية-طبعة دار الكتب العلمية،لبنان).
مقدمة الكتاب (وفيها سبب تسمية الكتاب برد المحتار):
بسم الله الرحمن الرحيم “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” (حديث شريف).
أحمدك يا من تنزهت ذاته عن الأشباه والنظائر، وأشكرك شكرا أستزيد به من درر غرر الفوائد زواهر الجواهر، وأسألك غاية الدراية، ودوام العناية، بالهداية والوقاية، في البداية والنهاية، وفتح باب المنح من مبسوط بحر فيضك المحيط لإيضاح الحقائق، وكشف خزائن الاسرار، لاستخراج درر البحار من كنز الدقائق، وأصلي وأسلم على نبيك السراج الوهاج وصدر الشريعة صاحب المعراج، وحاوي المقامات الرفيعة، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الظاهرين، والأئمة المجتهدين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول أحوج المفتقرين إلى رحمة أرحم الراحمين [محمد أمين الشهير بابن عابدين]: إن كتاب “الدر المختار شرح تنوير الأبصار” قد طار في الأقطار، وسار في الأمصار، وفاق في الاشتهار على الشمس في رائعة النهار، حتى أكب الناس عليه، وصار مفزعهم إليه، وهو الحري بأن يطلب، ويكون إليه المذهب، فإنه الطراز المُذهَّب في المذهب، فلقد حوى من الفروع المنقحة، والمسائل المصححة، ما لم يحوه غيره من كبار الأسفار، ولم تنسج على منواله يد الأفكار، بيد أنه لصغر حجمه، ووفور علمه، قد بلغ في الإيجاز، إلى حد الإلغاز، وتمنع بإعجاز المجتاز في ذلك المجاز عن إنجاز الإفراز بين الحقيقة والمجاز وقد كنت صرفت في معاناته برهة من الدهر، وبذلت له مع المشقة شقة من جديد العمر، واقتنصت بشبكة الأفهام أجل شوارده، وقيدت بأوتاد الأقلام جل أوابده، وصرت في الليل والنهار سميره، حتى أسرّ إليّ سرّه وضميره، وأطلعني على حوره المقصورات في الخيام، وكشف لي عن وجوه مخدراته اللثام، فطفقت أوشي حواشي صفائح صحائفه اللطيفة، بما هو في الحقيقة بياض للصحيفة، ثم أردت جمع تلك الفوائد، وبسط سمط هاتيك الموائد، من متفرقات الحواشي والرقاع، خوفا عليها من الضياع، ضاما إلى ذلك ما حرره العلامة الحلبي والعلامة الطحاوي وغيرهما من محشي هذا الكتاب. وربما عزوت ما فيهما إلى كتاب آخر لزيادة الثقة بتعدد النقل لا للإغراب؛ وإذا وقع في كلامهما ما خلافه الصواب أو الأحسن الأهم، أقرر الكلام على ما يناسب المقام، وأشير إلى ذلك بقولي “فافهم” ولا أصرح بالاعتراض عليهما، تأدبا معهما.
وقد التزمت فيما يقع في الشرح من المسائل والضوابط، مراجعة أصله المنقول عنه وغيره خوفا من إسقاط بعض القيود والشرائط، وزدت كثيرا من فروع مهمة، فوائدها جمة،ومن الوقائع والحوادث على اختلاف البواعث، والأبحاث الرائقة، والنكت الفائقة، وحل العويصات، واستخراج الغويصات، وكشف المسائل المشكلة، وبيان الوقائع المعضلة، ودفع الإيرادات الواهية من أرباب الحواشي والانتصار لهذا الشارح المحقق بالحق ورفع الغواشي، مع عزو كل فرع إلى أصله، وكل شيء إلى محله، حتى الحجج والدلائل، وتعليلات المسائل، ما كان من مبتكرات فكري الفاتر، ومواقع نظري القاصر، أشير إليه، وأنبه عليه، وبذلت الجهد في بيان ما هو الأقوى، وما عليه الفتوى، وبيان الراجح من المرجوح مما أطلق الفتاوي أو الشروح، معتمدا في ذلك على ما حرره الأئمة الأعلام، من المتأخرين العظام، كالإمام ابن الهمام، وتلميذيه: العلامة قاسم وابن أمير حاج، والمصنف، والرملي، وابن نجيم، وابن الشلبي، والشيخ إسماعيل الحائك، والحانوتي السراج، وغيرهم ممن لازم علم الفتوى من أهل التقوى. فدونك حواشي هي الفريدة في بابها، الفائقة على أترابها، المسفرة عن نقابها لطلّابها وخطابها، قد أرشدت من احتار من الطلاب، في فهم معاني هذا الكتاب، فلهذا سميتها “رد المختار على الدر المختار” وإني أقول: “ما شاء الله كان، وليس الخبر كالعيان، فسيحمدها معانيها، بعد الخوض في معانيها.
جمعت بتوفيق الإله مسائلا رقاق الحواشي مثل دمع المتيم
وما ضر شمسا أشرقت في علوها جحود حسود وهو عن نورها عمي
وإني أسأله تعالى متوسلا إليه بنبيه المكرم صلى الله عليه وسلم وبأهل طاعته من كل ذي مقام عليّ معظم، وبقدوتنا الإمام الأعظم، أن يسهل علي ذلك من إنعامه، ويعينني على إكماله وإتمامه، وأن يعفو عن زللي، ويتقبل مني عملي، ويجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز لديه في جنات النعيم، وينفع به العباد في عامة البلاد، وأن يسلك بي سبيل الرشاد، ويلهمني الصواب والسداد، ويستر عثراتي، ويسمح عن هفواتي، فإني متطفل على ذلك، لست من فرسان تلك المسالك، ولكني أستمد من طَوله، وأستعد بقوته وحوله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
هذا وإني قرأت هذا الكتاب، العذب المستطاب، على ناسك زمانه، وفقيه أوانه، مفيد الطالبين، ومربي المريدين، سيدي الشيخ سعيد الحلبي المولد، الدمشقي المحتد، ثم قرأته عليه ثانيا مع حاشيته للشيخ إبراهيم الحلبي إلى كتاب الإجارة عند قراءتي عليه البحر الرائق قراءة إتقان، بتأمل وإمعان، واقتبست من مشكاة فوائده، وتحليت من عقود فرائده، وانتفعت بأنفاسه الطاهرة، وأخلاقه الفاخرة، وأجازني بروايته عنه وبسائر مروياته، أمتع الله تعالى المسلمين بطول حياته، بحق روايته له، عن شيخنا العلامة المرحوم السيد محمد شاكر العقاد السالمي العمري، عن فقيه زمانه منلا علي التركماني أمين الفتوى بدمشق الشام، عن الشيخ الصالح العلامة عبد الرحمن المجلد، عن مؤلفه عمدة المتأخرين الشيخ علاء الدين. وأرويه أيضا عن شيخنا السيد شاكر بقراءتي عليه بعضه، وهو يروي الفقه النعماني عن محشّي هذا الكتاب العلامة الشيخ مصطفى الرحمتي الأنصاري، ومنلا علي التركماني عن فقيه الشام ومحدثها الشيخ صالح الجينيني، عن والده العلامة الشيخ إبراهيم جامع الفتاوي الخيرية، عن شيخ الفتيا العلامة خير الدين الرملي، عن شمس الدين محمد الحانوتي، عن العلامة أحمد بن يونس الشهير بابن الشلبي، بكسر فسكون وتقديم اللام على الباء الموحدة.
ويرويه شيخنا السيد شاكر عن محشي هذا الكتاب العلامة النحرير الشيخ إبراهيم الحلبي المداري، وعن فقيه العصر الشيخ إبراهيم الغزي السابحاني، أمين الفتوى بدمشق الشام كلاهما عن العلامة الشيخ سليمان المنصوري، عن الشيخ عبد الحي الشُّرُنبُلالي، عن فقيه النفس الشيخ حسن الشُّرُنبُلالي ذي التأليف الشهيرة، عن الشيخ محمد المحبي عن ابن الشلبي.
وأروي بالإجازة عن الأخوين المعمرين الشيخ عبد القادر والشيخ إبراهيم حفيدي سيدي عبد الغني النابلسي شارح المحبية وغيرها، عن جدهما المذكور، عن والده الشيخ إسماعيل شارح الدرر والغرر، عن الشيخ أحمد الشوبري، عن مشايخ الإسلام الشيخ عمر بن نجيم صاحب النهر، والشمس الحانوتي صاحب الفتاوى المشهورة، والنور علي المقدسي شارح نظم الكنز عن ابن الشلبي.
وأروي، بالإجازة أيضا، عن المحقق هبة الله البعلي شارح الأشباه والنظائر، عن الشيخ صالح الجينيني، عن الشيخ محمد بن علي الكتبي، عن الشيخ عبد الغفار مفتي القدس، عن الشيخ محمد بن عبد الله الغزي صاحب التنوير والمنح، عن العلامة الشيخ زين بن نجيم صاحب البحر، عن العلامة ابن الشلبي صاحب الفتاوى المشهورة وشارح الكنز، عن السري عبد البر بن الشحنة شارح الوهبانية، عن المحقق حيث أطلق الشيخ كمال الدين بن الهمام صاحب فتح القدير، عن السراج عمر الشهير بقارئ الهداية صاحب الفتاوى المشهورة، عن علاء الدين السيرامي، عن السيد جلال الدين شارح الهداية، عن عبد العزيز البخاري صاحب الكشف والتحقيق، عن الأستاذ حافظ الدين النسفي صاحب الكنز عن شمس الأئمة الكردري، عن برهان الدين المرغيناني صاحب الهداية، عن فخر الإسلام البزدوي، عن شمس الأئمة السرخسي، عن شمس الأئمة الحلواني، عن القاضي أبي علي النسفي، عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، عن أبي عبد الله السيذبوني، عن أبي حفص عبد الله بن أحمد بن حفص الصغير، عن والده أبي حفص الكبير، عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عن إمام الأئمة وسراج الأمة (أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي)، عن حماد بن سليمان، عن إبراهيم النخعي عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أمين الوحي جبريل عليه السلام، عن الحكم العدل جل جلاله وتقدست أسماؤه.(كتاب رد المحتار لابن عابدين بتحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض/الطبعة الثانية-طبعة دار الكتب العلمية،لبنان).
قيمة كتاب “رد المحتار” لابن عابدين:
مما يدل على مكانة الكتاب في قلوب العلماء، تلك المعركة التي قامت لدى بعض المتأخرين في دار الخلافة العثمانية، ففي بحث الأشربة من “الدُّر المُختار” القول بتحريم شرب الدخان لنهي ولي الأمر عنه -يعني السلطان مراداً الرابع- وردّ ابن عابدين عليه بأن ولي الأمر لا شأن له في التحليل والتحريم، كيف وقد قال فقهاؤنا “من قال لسلطان زماننا عادل فقد كفر” حيث يكون اعتقد الظلم عدلاً، وقد توسع في تحقيق ذلك ابن عابدين في “رد المحتار” في بحث الأشربة، وكان أحد المخذولين من كبار موظفي وزارة المعارف بالآستانة قدّم تقريراً عن “رد المحتار” هذا يقول: “إن فيه كلمة ماسة مثيرة – يريد الكلمة السابقة -” فصدر أمر بمصادرة الكتاب المذكور من المكتبات هناك، فنفذ الأمر على مرأى من الناس ومشهد منهم، فعم الاستياء البيئات العلمية، وكان ذلك في حدود سنة 1320 هجرية، فنهض العلامة المُعمّر أبو المحاسن يوسف التَّكوشي رئيس العلماء، واستصحب معه المحدث المعمر الشيخ محمد فرهاد الريزوي رحمهما الله، وكلاهما من أكابر علماء دار الخلافة إذ ذاك وذهبا توّاً إلى القصر السلطاني، ولما تشرفا بالمثول لدى جلالة السلطان قالا لجلالته: “لعل جلالة مولانا لا يشك في تعلقنا بعرشه القائم بحراسة الدين، وقد حملنا هذا التعليق على أن نرفع إلى مسماع جلالته أن ‘رد المحتار’ الذي ليس يخلو بيت عالم منه قد صودر أسوأ مصادرة، وهذا مما يُدمي قلوب المخلصين، والمسألة التي تنسب إليه موجودة في كل كتاب فقهي تقريباً، وقد رفعنا هذا إلى مسماع مولانا قياماً بواجبنا” ومثل هذا العرض كان يُعَدُّ جرأة بالغة في ذلك العهد.
وقد كُلّل سعي هذين العالمين الورعين بالنجاح حتى صدر الأمر السلطاني بإعادة تلك الكتب إلى أصحابها مع نفي ذلك الموظف الكبير الذي كان قدم ذلك التقرير إلى إحدى الولايات الشرقية البعيدة ليكون مستخدَماً بسيطاً في إحدى البلديات.
وهكذا كانت سيرة العلماء العاملين يَغَارُون على شرع الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.(كتاب رد المحتار لابن عابدين بتحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض/الطبعة الثانية-طبعة دار الكتب العلمية،لبنان).
كتبه: أحمد الأتب