Uncategorized

اقتصاد الطاقة (طاقة المياه) من مبادئ الفقه الحنفي الأصيلة

1 تعليق واحد
عدد المشاهدات 893 مشاهدة

يشهد لهذا المبدأ الفقهي الأصيل- مبدأ الاقتصاد في المباحات عموماً – كثير من فروع الفقه الحنفي لا بل يبدو  واضحا لمن نظر في هذه الفروع أن فقهاء الحنفية قد اجتهدوا كثيرا في استنباط ضوابط فقهية، يمكن القول أنها كانت في بعض الأحيان عامة تشمل الفقه ككل، وأحيانا أخرى كانت ضوابط جزئية تضبط الباب الواحد كجزء.

ومن هذه الضوابط الاقتصادية التي ترعى فكرة توفير الطاقة (الحفاظ على طاقة المياه كمصدر نقي وطاهر) كما  جاء في البحر الرائقة ((تنجيس الطاهر حرام)) [1], أو كما جاء في بدائع الصنائع ((ولا يجوز تنجيس الطاهر من غير ضرورة)) [2].

وقد ظلت هذه الضوابط والمبادئ الاقتصادية بمختلف أنواعها والتي تضبط الأبواب والفصول والمسائل متناثرة ومبعثرة في ثنايا كتب المذهب تحتاج من الباحثين أن يحصوها ويسبروها ويستقرئون ما توحيه من فقه اقتصادي يجعل الفقه أكثر استشعاراً لمستجدات ونوازل المستقبل. وما هذه الدراسة المتواضع إلا محاولة مبدئية تستنهض همم الباحثين لإعادة دراسة مثل هذه الأمور دراسة عصرية متأنية تلحظ بعين الاعتبار ما أفرزته الحياة العصرية من مستجدات.

استحباب الاقتصاد في الماء وعدم الإسراف فيه، صورة المسألة من كتب المذهب الحنفي

قوله ((الغسل: إسالة الماء: وحد الإسالة في الغسل: أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما- أبي حنيفة ومحمد-، وعند أبي يوسف يجزئ إذا سال على العضو وإن لم يقطر، فتح، وفي الفيض: أقله قطرتان في الأصح. )) ا . ه ـ[ اللباب في شرح الكتاب – (1 / 6)]

قوله: (أي إسالة الماء الخ) قال في البحر: واختلف في معناه الشرعي: فقال أبو حنيفة ومحمد: هو الإسالة مع التقاطر ولو قطرة حتى لو لم يسل الماء بأن استعمله استعمال الدهن لم يجز في ظاهر الرواية، وكذا لو توضأ بالثلج ولم يقطر منه شئ لم يجز. وعن أبي يوسف: هو مجرد بل المحل بالماء سال أو لم يسل ا ه. واعلم أنه صرح كغيره بذكر التقاطر مع الإسالة وإن كان حد الإسالة أن يتقاطر الماء للتأكيد، وزيادة التنبيه على الاحتراز عن هذه الرواية، على أنه ذكر في الحلية عن الذخيرة وغيرها أنه قيل في تأويل هذه الرواية إنه سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك ا ه. والظاهر أن معنى لم يتدارك: لم يقطر على الفور بأن قطر بعده مهلة، فعلى هذا يكون ذكر السيلان المصاحب للتقاطر احتراز عما لا يتدارك فافهم، ثم على هذا التأويل يندفع ما أورد على هذه الرواية من أن البل بلا تقاطر مسح، فيلزم أن تكون الأعضاء كلها ممسوحة مع أنه تعالى أمر بالغسل والمسح. قوله: (ولو قطرة) على هذا يكون التقاطر بمعنى أصل الفعل ا ه..قوله: (أقله قطرتان) يدل عليه صيغة التفاعل ا ه ح. ثم لا يخفى أن هذا بيان للفرض الذي لا يجزى أقل منه لأنه في صدد بيان الغسل المفروض، وسيأتي أن التقتير مكروه، ولا يمكن حمل التقتير على ما دون القطرتين، لان الوضوء حينئذ لا يصح لما علمت، فتعين أنه لا ينتفي التقتير إلا بالزيادة على ذلك، بأن يكون التقاطر ظاهرا ليكون غسلا بيقين، وبدونها يقرب إلى حد الدهن، وربما لا يتيقن بسيلان الماء على جميع أجزاء العضو فلذاكرة، فافهم.قوله: (لان الأمر) وهو هنا قوله تعالى * (فاغسلوا) * (المائدة: 6). [حاشية رد المحتار – (1 / 103)].

الشرح والتعليق

1) إن الناظر في عبارات كتب المذهب الحنفي وما جاء فيها من أقوال وآراء لأبي حنيفة وصاحبيه حول تقدير حد الغَسل من حيث أنه هو إسالة الماء على العضو بحيث يتقاطر الماء قطرة أو قطرتين على اقل تقدير، نرى فيه تنوعاً في تقدير حدود هذه الإسالة ومدى كونها مقبولة بحيث يسقط بها أداء السنية في الوضوء.

2) وهذا التنوع في التقدير وحدوده إن نظرنا إليه نظرية اقتصادية مستقلة عن النظرة الفقهية لعلمنا قدر الحرص الكبير من أئمة المذهب الحنفي على تحقيق التوازن بين السنة كقول والسنة كتطبيق(عمل). وهذا منتهى الدقة في الأداء, ما يجعلنا أمام حالة فقهية يخدم تطبيقها حالة اقتصادية حضارية تتعالى صرخاتها اليوم في هذا العصر ألا وهي مسألة التوفير والتقتير في استخدام وترشيد طاقة المياه. فنلمس في آراء أئمة المذهب حساً ترشيدياً رائعاً في توفير مصادر الطاقة (طاقة المياه) ولعلنا لا نلمس مثل هذا الحس عند غيرهم بالدقة التي تناولوها في كتبهم ومناقشاتهم. مع احترامنا وتقديرنا لاجتهادات المذاهب الأخرى واحترامنا لها.

3) بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الآراء الفقهية الاجتهادية صدرت عن أئمة المذهب الحنفي في حدود القرن الثاني الهجري وما بعده وليس هذا العصر ببعيد بل قريب العهد بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءت شريعته تحض على التوفير في الطاقة عموماً وتمقت الإسراف فيها خصوصاً.

 وليس ببعيد عنا حديث سعد بن أبي وقاص: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ قَالَ أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ)[3]. مما يعني أن سياسة التوفير في طاقة المياه التي تبادل فيها الأئمة الآراء هي دراسة لحدود استهلاك الطاقة (طاقة المياه) في العبادات، والاجتهاد في تحديد العتبة العليا والعتبة الدنيا (الحد الأعلى والحد الأدنى) لاستخدام الماء في غسل الأعضاء المأمور غسلها في الوضوء.

4) وبالمقابل فإن الحد المتوسط أو ما يمكن تسميته حد الاعتدال في استخدام الطاقة (طاقة المياه)كحد وسط بين العتبة العليا المحرمة (الإسراف) والعتبة الدنيا (القطرة والقطرتان) ترك مطلق الحكم فيه للنص الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم ((عن أَنَسِ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَاد))[4].

جاء في الاختيار: (( ولنا ما روى الدارقطني في سننه عن أنس قال: كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال))[5]. والوقوف عند هذا النص والأخذ به من قبل فقهاء الحنفية فيه احترام لقاعدة (لا اجتهاد في مورد النص) بل بقي اجتهادهم دائرا حول العتبة الدنيا (قطرة أو قطرتان).

وهذا ضابط فقهي قديم (أقله قطرتان في الأصح) استقر فيه رأي المذهب الحنفي إذ اعتبره الرأي المفتى به في المذهب وهو أن يكون حد سيلان الماء عن العضو في الغسل اقله قطرتان لتحقيق التوازن بين صحة التطبيق للموروث الديني (سنن الوضوء) والعمل بحدود السنة الدقيقة من غير تنقيص. وعملا بمنطق التوازن الفقهي الحنفي إذ يقول في موضع مشابه لهذا الموضع (فمن زاد أو نقص فقد تعدى وظلم)[6]وتحصيل دقة الاجتهاد في اقل السيلان وتحصيل وضبط حدوده الدنيا ومن جهة عصرية أخرى  يظهر لنا دقة وجودة الفقه الحنفي الذي يلحظ ويراعي في أداء العبادات مبدأ توفير الطاقة.

علاقة ترشيد استهلاك طاقة المياه بالمقاصد الشرعية

لقد تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية في الحث على المحافظة على موارد المياه وحمايتها من العوامل التي تؤدي إلى استنزافها أو إفسادها وإذا تأملنا الأمر بعمق نجد أن حماية ورعاية موارد المياه تدخل في المقاصد الشرعية ( الضروريات الخمس ) التي وضعت الشريعة الإسلامية للمحافظة عليها وهي: الدين و النفس والنسل و المال و العقل كما سيرد توضيحه [7].

1. حفظ الماء من المحافظة على الدين:

إن الجور في استهلاك طاقة المياه والإسراف في استخدامها يتنافي مع جوهر الدين الحقيقي. كما أن استنزاف موارد المياه و الإسراف في استعمالها يتنافى مع مهمة استخلاف الإنسان في الأرض والتي كفله الله عز وجل بها قال تعالى: ( إني جاعل في الأرض خليفة ) [البقرة: 30] وخلافة الله في الأرض تحصل بنشر الخير و العدل فيها. كما يتنافى ذلك مع مهمة الإنسان في عمارة الأرض و عمارة الأرض تتم بالإحياء و البناء و الإصلاح و البعد عن الإفساد والتخريب و الإسراف قال تعالى: ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) [ الأعراف: 56].

2. حفظ الماء من المحافظة على النفس:

و يقصد بذلك المحافظة على الحياة البشرية وسلامة مقوماتها. وإن إهدار و استنزاف موارد المياه و عدم ترشيد استعمالها يعتبر من إفساد البيئة و تقويض مقوماتها مما يهدد حياة الإنسان ويعرضها للخطر نتيجة نقص هذا المورد الهام والضروري له وللكائنات الحية الأخرى.

3. حفظ الماء من المحافظة على النسل:

النسل هم ذرية الإنسان وهم جيل المستقبل و الإسراف في استعمال المياه وعدم ترشيد استهلاكها يعتبر جناية  على حق الأجيال القادمة فيه وإضاعة له. فلا يجوز أن يستأثر جيل على جيل بالموارد و النعم كالماء وغيره، و أن ذلك يعتبر من الأنانية و الظلم الذي حرمه الله على عباده كما يعتبر من الجور والتعدي على موارد الأجيال القادمة، عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: [انك إن تذر ورثتك أغنياء، خير أم تذرهم عالة يتكففون الناس] متفق عليه.

4. حفظ الماء من المحافظة على العقل:

حيث يدخل حفظ الموارد بما فيها الماء في المحافظة على العقل و الذي هو مناط التكليف. فحفظ موارد المياه من الإسراف و الاستنزاف هو من حفظ  البيئة و هو من التفكير  السوي الذي يميز الإنسان العاقل الذي يوازن بين المصالح والمفاسد و المنافع و المضار، و الذي يقدر الأمور بعقلانيه تكفل المصلحة العامة للمجتمع في الحاضر والمستقبل.

5. حفظ الماء من المحافظة على المال:

من المقاصد الشرعية حفظ المال والإسراف في استعمال الماء واستنزاف موارده هو من إهدار المال وعدم حفظه. وحفظ الماء يعتبر من المصالح الأساسية و الضرورية للإنسان ويدخل في حفظ المال. فيجب على المسلم حفظ الماء وموارده وترشيد استهلاكه في جميع الأحوال.

فالماء هو أرخص موجود وأثمن مفقود

 المؤلف: حسام عبد الله

المصدر: مركز أبحاث فقه المعاملات


[1] البحر الرائق – (1 / 99)

[2] بدائع الصنائع – (1 / 21)

[3] (مسند أحمد – (11 / 636)

[4] (صحيح مسلم – (1 / 177)- برقم 763

[5] الاختيار لتعليل المختار – (1 / 132)

[6]  مبحث التَّثْلِيثِ في الْغَسْلِ  وهو أَنْ يَغْسِلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وقال هذا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وقال هذا وُضُوءُ من يُضَاعِفُ اللَّهُ له الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وقال هذا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ من قَبْلِي فَمَنْ زَادَ على هذا أو نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ وفي رِوَايَةٍ فَمَنْ زَادَ أو نَقَصَ فَهُوَ من الْمُعْتَدِينَ وَاخْتُلِفَ في تَأْوِيلِهِ قال بَعْضُهُمْ زَادَ على مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ وَنَقَصَ عن مَوَاضِعِهِ [بدائع الصنائع – (1 / 22)]

[7] ترشيد استعمال المياه من المنظور الإسلامي, الدكتورة : نورة بنت عبد العزيز آل الشيخ, جامعة الملك سعود, 2/11/1426هـ

 

مقالات مشابهة قد تعجبك!

1 تعليق واحد
If you don’t drive your business, you will be driven out of business
خطبة:استهداف الإسلام من خلال ضرب قيمه، وبث الشبهات على ابنائه

1 تعليق واحد. Leave new

  • بشير عمر صالح محمد
    11 فبراير، 2017 6:56 مساءً

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    نشكركم على نشرتكم البريدية، دمتم بصحة وبألف خير.

    رد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

اقتصاد الطاقة (طاقة المياه) من مبادئ الفقه الحنفي الأصيلة

يشهد لهذا المبدأ الفقهي الأصيل- مبدأ الاقتصاد في المباحات عموماً – كثير من فروع الفقه الحنفي لا بل يبدو  واضحا لمن نظر في هذه الفروع أن فقهاء الحنفية قد…