قال أحمد عبد الحليم: إن القول بحلول الحوادث بذات الله تعالى هو مذهب أكثر أهل الحديث، بل أقول: “أئمة الحديث”، وهو الذي نقلوه عن سلف الأمة وأئمتها، وكثير من الفقهاء والصوفية وأكثرهم من طوائف الأربعة الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية من لا يحصي عدده إلا الله تعالى. (كذا في تلبيس الجهمية (١-٢٠٣))
وقال الدكتور أحمد عطية الغامدي: وهذا الذي اختاره ابن تيمية وذكر أنه مذهب السلف وأنه الحق الذي يؤيده الدليل الشرعي، والعقلي وهو بعينه رأي الكرامية. (في نقد البيهقي ص ١٨٣)
وقال شارح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي التيمي: وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي عنه في علم الكلام المذموم لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة.
قال المحقق المدقق الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية عند الجملة السابقة: جمهور المتكلمين من أشاعرة وماتريدية، ومعتزلة وفلاسفة اتفقوا على منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وجوّز قيامها بذاته الكرامية (أتباع محمد بن كرام السجستاني المجسم)، وفرقوا بين الحادث والمُحْدَث، فالأول عندهم ما يقوم بذاته من الأمور المتعلقة بمشيئته واختياره، وأما الثاني فهو ما يخلقه سبحانه منفصلاً عنه، وقد تبعهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تجويز قيام الحوادث بالذات، والمؤلف هنا – يريد شارح الطحاوية – يختصر كلامه المبسوط في منهاج السنة.
وقد غلا رحمه الله في مناصرة هذا المذهب، والدفاع عنه ضد مخالفيه من المتكلمين والفلاسفة، وادعى أنه مذهب السلف مستدلاً بقول الإمام أحمد وغيره: لم يزل متكلماً إذا شاء، فإنه إذا كان كلامه – وهو صفة قائمة بذاته – متعلقاً بمشيئته واختياره دل ذلك على جواز قيام الحوادث بذاته لأنه ما يتعلق بالمشيئة والإختيار لا يكون إلا حادثاً. وقد انتهى به القول أن كلام الله تعالى قديم الجنس حادث الفرد، وكذلك فعله وإرادته ونحو ذلك من الصفات غير اللازمة للذات، وبما أن القول بذلك يستلزم التسلسل فقد جوزه في الماضي والمستقبل جميعاً، وادعى أن مثل هذا التسلسل ليس ممتنعاً.
وغير واحد من العلماء يعدون هذا الذي ذهب إليه شيخ الإسلام من جملة ما ندّ به عن الصواب! وينكرونه ويقولون كيف يقول بقِدَم جنس الصفات والأفعال مع حدوث آحادها! وهل الجنس شيء غير الأفراد مجتمعين! وهل يتركب الكلي إلا من جزئياته! فإذا كان كل جزئي من جزئياته حادثاً فكيف يكون الكلي قديماً! (السيف الصقيل والتعليق عليه ص ٧١-٧٥)
قال الإمام الجويني (امام الحرمين) رحمه الله تعالى: لو قامت الحوادث به سبحانه لم يخل منها – أي من الحوادث – وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
وقال الإمام أحمد بن حجر رحمه الله تعالى في شرح البخاري: باب (وكان عرشه على الماء، وهو رب العرش العظيم): ذكر قطعتين من آيتين، وتلطف في ذكر الثانية عقب الأولى، ومن توهم من قول في الحديث: “كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء”، أن العرش لم يزل مع الله تعالى، وهذا باطل (كان باطل لأنه مذهب يزعم أن العرش قديم بالنوع)، وكذا من زعم من الفلاسفة أن العرش هو الخالق الصانع، وربما تمسك بعضهم وهو إسحاق الهروي بما أخرجه من طريق سفيان الثوري: حدثنا هشام – هو الروياني بالراء المشددة – عن مجاهد عن ابن عباس قال: “ إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فأول ما خلق خلق الله القلم”، وهذه الأدلة محمولة على خلق السموات والأرض وما فيها.
فقد أخرج عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله (وكان عرشه على الماء)، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء وعرشه ياقوة حمراء، فأردف المصنف – يعني البخاري – في صحيحه يقول: (وهو رب العرش العظيم) إشارة إلى أن العرش مربوب وكل مربوب مخلوق”. (فتح الباري (١١-٤٥٠)
وقال: في شرح حديث أهل اليمن:” كان الله ولم يكن شيء قبله”، تقدم في بدء الخلق، “ولم يكن شيء غيره”، وفي رواية أبي معاوية:” كان الله ولا شيء معه”، وهذا صريح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب وهو مستشنع المسائل المنسوبة لإبن تيمية، وقد وقفت في كلام له على هذا الحديث رجح الرواية التي في الباب على غيره مع أن قضية الجمع بين الروايتين تقضي حمل هذه على التي في: بدء الخلق لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح بالإتفاق، ثم قال: قال الطيبي: كان في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأول (كان الله): الأزلية والقِدَم، وبالثاني (وكان عرشه على الماء): الحدوث بعد العدم.
وقال أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي في السيف الصقيل: ثم جاء رجل في آخر المائة السابعة رجل له فضل وذكاء، واطلاع ولم يجد شيخاً يهديه، وهو على مذهبهم، وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه، ويجد أموراً بعيدة فبجسارته يلتزمها، فقال بقيام الحوادث بذات الله الرب سبحانه وتعالى، وإن الله سبحانه ما زال فاعلاً، وإن التسلسل ليس بمحال فيما مضى.
قال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعليقه على كلام السبكي: اتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية، وصنوف المجسمة، أن الله سبحانه منزه من أن تقوم به الحوادث، بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة، ودعوى أن الله تعالى لم يزل فاعلاً متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الإختيار عن الله سبحانه، وبصدور العالم منه بالإيجاب، ونسبة ذلك إلى أحمد، والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح وتقوّل قبيح، ودعوى أن تسلسل الحوادث في جانب الحاضر غير محال، لا تصدر إلا ممن لا يعي ما يقول، فمن تصور حوادث لا أول لها تصور أنه ما من حادث محقق إلا وقبله حادث محقق، وأن ما دخل بالفعل تحت العدّ والإحصاء غير متناه.
وأما من قال بحوادث لا آخر لها فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلى حادث محقق إلا وبعده حادث مقدّر، فأين دعوى عدم تناهي ما دخل تحت الوجود في جانب الماضي من عدم تناهي ما لم يدخل تحت الوجود في المستقبل! على أن القول بالقِدَم النوعي في العالم من لازمه البيّن عدم تناهي عدد الأرواح المكلفة، فأنّى يمكن حشر غير المتناهي من الأرواح وأشباحها في سطح متناه محدود؟! وعلى هذا التقدير فيكون القائل بعدم تناهي عدد المكلفين قائلاً بنفي الحشر الجسماني؛ بل بنفي الحشر الروحاني أيضاً حيث إن هذا القائل لا يعترف بتجرد الروح فيكون أسوء حالاً من غلاة الفلاسفة النافين للحشر الجسماني.
المؤلف: وهبي سليمان غاوجي