المذهب الحنفي الفقهي

الإمام أبو حنيفة وسنده في العلم

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 3,240 مشاهدة

يقول التابعي الجليل مسروق بن الأجدع رحمه الله:” شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وعبد الله، ومعاذ، وأبي الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم شاممت الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي، وعبد الله..” (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).

وعبد الله، هو ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أرسله إلى الكوفة:” إني قد بعثت إليكم بعمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً .. فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي” (طبقات ابن سعد ٦\ ٧، ٨).

ولقد عني ابن مسعود بتفقيه أهل الكوفة وتعليمهم القرآن منذ أن بُنيت تلك المدينة سنة (١٧هـ) إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، عناية لا مزيد عليها، إلى أن امتلأت الكوفة بالقرّاء والفقهاء والمحدثين، بحيث بلغ بعض الثقات من أهل العلم عدد من تتلمذ على يديه نحو أربعة آلاف عالم وتلميذ .. حتى إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما انتقل إلى الكوفة سُرَّ من كثرة فقهائها وقال:” رحم الله ابن أم عبد، قد ملأ هذه القرية علماً” (فقه أهل العراق وحديثم للامام الكوثري).

وكان من أبرز فقهاء الكوفة من التابعين: علقمة بن قيس النخعي المتوفى سنة (٦٢ هـ) قال ابن مسعود رضي الله عنه:” لا أعلم شيئاً إلا وعلقمة يعلمه”، وإن من أبرز من تفقه على علقمة: إبراهيم بن يزيد النخعي، العالم التابعي الإمام، المتوفى سنة (٩٦ هـ) الذي قيل فيه:” إنه ما ترك أحداً أعلم أو أفقه منه”، (سير أعلام النبلاء ٥\٤٣١). وكان الفقيه المجتهد حماد بن مسلم بن يزيد (١٢٠ هـ) من أخص تلامذة إبراهيم النخعي، بل هو انبلهم وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة والرأي (سير أعلام النبلاء٦\٦٠،٦١)، وقد لازم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، هذا الإمام الجليل حماداً ثماني عشرة سنة فاستفاد من علمه وأدبه الكثير (تاريخ بغداد ١٣\٣٣٣).

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (٦\٦٥): “فأفقه أهل الكوفة: علي وابن مسعود وافقه أصحابهما: علقمة، وأفقه أصحابه: إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم: حمّاد، وأفقه أصحاب حماد: أبو حنيفة!.

وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، بسنده إلى أبي حنيفة قال: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال لي يا أبا حنيفة، عمن أخذت العلم؟ قلت: عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، قال أبو جعفر: بخ بخ، استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة ..”.

وأبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت بن المرزُبان، الإمام الأعظم والعلامة الأشهر، أحد كبار المجتهدين في عصر التابعين، ولد في الكوفة سنة ثمانين، وتوفي في بغداد سنة مئة وخمسين، مناقبه كثيرة وفضائله جليلة وأقوال العلماء في مدحه وبيان مكانته وحسن سيرته .. مما يصعب حصره جداً، بل إن الكتب والدراسات التي عنيت بشأنه لا زالت تتوالى حتى اليوم.

يقول عبد الله بن داوود الخُرَيْبي رحمه الله: يجب على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم! وذَكَرَ حفظه عليهم السنن والفقه” (تاريخ بغداد ١٣\٣٤٤).

تلاميذ الإمام أبي حنيفة

قال الإمام أبو المؤيد الخُوارزمي في مقدمة كتابه (جامع المسانيد) بسنده إلى قاضي القضاة أبي بكر عتيق بن داوود اليماني رحمه الله أنه قال – وهو يذكر مناقب أبي حنيفة -: “ هو إمام الأئمة وسراج الأمة ضخم الدّسيعة، السابق إلى تدوين الشريعة، ثم أيده الله بالتوفيق والعصمة فجمع له من الأصحاب والأئمة عصمة منه تعالى لهذه الأمة ما لم يجتمع في عصر من الأعصار في الأطراف والأقطار.

منهم ذو الفقه والدراية المعتَرف له بعلم الحديث والرواية، إمام المسلمين وقاضي قضاة المؤمنين: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، رحمه الله تعالى. ومنهم ذو الفهم والبيان، الماهر في علمي الفقه واللسان، العالم الرباني: محمد بن الحسن الشيباني، رحمه الله تعالى. ومنهم ذو الذكاء الباهر والعلم الزاهر: زفر بن الهزيل التميمي العنبري. ومنهم الفاضل النزيه والكامل الفقيه: الحسن بن زياد اللؤلؤي، رحمه الله. ومنهم الفقيه البصير، المقر له بالتفسير، الورع الفصاح: وكيع بن الجراح. ومنهم الفقيه الكامل، الماجد الورع الزاهد: عبد الله بن المبارك المروزي. ومنهم أزهد الأئمة وراهب هذه الأمة: داوود بن نصير الطائي رحمه الله. ومنهم إمام أئمة حديث النبي: حفص بن غياث النخعي، رحمه الله تعالى. ومنهم الإمام المعظم والعالم المقدم: محمد بن زكريا بن أبي زائدة. ومنهم: الإمام ابن الإمام حماد بن أبي حنيفة، ويوسف بن خالد السمتي، وعافية بن يزيد الأودي، وحبان، ومندل، ابنا علي، وعلي بن مسهر، والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأسد بن عمرو البجلي (قاضي واسط)، ونوح بن أبي مريم الجامع، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، رضي الله عنهم”.

تدوين مذهب أبي حنيفة

حدَّث الإمام الطحاوي بسنده إلى أسد بن الفرات أنه قال: “كان أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا الكتب أربعين رجلاً، فكان في العشرة المتقدمين: أبو يوسف، وزفر بن الهزيل، وداوود الطائي، وأسد بن عمرو، ويوسف بن خالد السمتي، ويحيي بن زكريا بن أبي زائدة، وهو الذي كان يكتبها لهم ثلاثين سنة. وعن المغيرة بن حمزة: “كان أصحاب أبي حنيفة الذين دونوا معه الكتب؛ أربعين رجلاً كبراء الكبراء.” (حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي للامام الكوثري).

وقال الموفق المكي( مناقب الإمام الأعظم ٢\١٣٣): “ وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم، لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهاداً منه في الدين، ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلبهم ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده، ويناظرهم شهراً أو أكثر من ذلك حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف في الأصول”.

وقال أسد بن عمرو: “كانوا يختلفون عند أبي حنيفة في جواب المسألة، فيأتي هذا بجواب وهذا بجواب، ثم يرفعونها إليه ويسألونه عنها، فيأتي الجواب من كثب -أي من قرب- ، وكانوا يقيمون في المسألة ثلاثة أيام ثم يكتبونها في الديوان”، ( حسن التقاضي ص ١٢).

وقال يحيي بن معين، عن الفضل بن دكين، سمعت زفر يقول: كنا نختلف إلى أبي حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن، فكنا نكتب عنه، قال زفر: فقال يوماً أبو حنيفة لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه في غده” (حسن التقاضي). قال الكوثري بعد هذا النقل: “أنظر كيف كان ينهى أصحابه عن تدوين المسائل إذا تعجَّل أحدهم بكتابتها قبل تمحيصها كما يجب، فإذا أحطت خبراً بما سبق، علمت وجاهة ما يقوله الموفق المكي أنه وضع أبو حنيفة مذهبه شورى بينهم ..”، إلخ كما سبق.

وهكذا، يمكن لنا أن نستوحي من هذه النقول أن الإجتهاد في المذهب الحنفي لم يكن اجتهاداً فردياً لإمام المذهب، إنما كان اجتهاداً جماعياً، كثرت فيه الأقوال، ودونت فيه الآراء عن الأصحاب إلى جانب آراء إمامهم، وهو ما يؤكد فكرة “الشورى” في تدوين المذهب. يقول الشيخ وهبي سليمان غاوجي: “ وإنها -لعمر الله- دراسة منهجية حرَّة شريفة، يظهر فيها احترام الآراء، ويشتغل فيها عقل الحاضرين من التلامذة ليدلي كل بدلوه ويذكر ما يرى لرأيه من حجة ثم يعقب هو على آرائهم بما يدفعها بالنقل أو الرأي ويصوب صواب أهل الصواب ويؤيده بما عنده من أدلة .. فإذا تقررت مسألة من مسائل الفقه على تلك الطريقة كان من العسير نقدها فضلا عن نقضها، والله الهادي الموفق إلى الخير”.

ولقد كان أحسن أصحاب أبي حنيفة تدويناً لأقوله واجتهاداته من بعده: محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى، حيث صنف ما عرف بكتب “ظاهر الرواية”، وقد ذكر فيها رأيه، ورأي أبي يوسف، بعد قول أبي حنيفة، ثم توجه المشايخ إلى تلك التصانيف تلخيصاً وتقريباً، وتخريجاً وتأسيساً …

المؤلف:ضياء يونس

وسوم: أبو حنيفة, الحنفية, المذهب الحنفي, سيرة الإمام أبي حنيفة, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
الإمام أبو حنيفة ومذهبه في سطور
طبقات الفقهاء في المذهب الحنفي والنقاش حولها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الإمام أبو حنيفة وسنده في العلم

يقول التابعي الجليل مسروق بن الأجدع رحمه الله:” شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: عمر، وعلي، وعبد الله، ومعاذ، وأبي الدرداء، وزيد…