إذا خالف خبر الواحد القياس من كل وجه، فهل يقدم الخبر على القياس أو العكس؟
من العلماء من قال: إن القياس هنا ليس المراد به: خصوص القياس الذي يعرف بأنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت، وإنما يقولون: إن المراد بالقياس هنا هو القواعد العامة أو المبادئ العامة.
وقد اختلف الأصوليون في ذلك اختلافًا كان ذا أثر في الاختلاف في الفروع، ولكن قبل سرد الخلاف وبيان ما ترتب عليه لا بد من تحرير موضع الخلاف، وإليك بيان ذلك:
إن معظم الأصوليون عندما يعرضون الخلاف في هذه المسألة يعرضونه من غير تفصيل ولا تقييد، ولكن أبا الحسين البصري في كتابه (المعتمد) حصر موضع الخلاف في نقطة فقال: إن القياس إذا عارضه خبر الواحد، فإن كانت علة القياس منصوصة بنص قطعي وخبر الواحد ينفي موجبها وجب العمل بالقياس بلا خلاف؛ لأنَّ القياس في هذه الحالة قطعي لكن خبر الواحد ظني، فهو يقول: لأنَّ النص على العلة كالنص على حكمها؛ فلا يجوز أن يعارضها خبر الواحد، وإن كانت منصوصة بنص ظني يتحقق المعارضة، ويكون العمل بالخبر أولى من القياس بالاتفاق؛ لأنه دال على الحكم بصريحه، والخبر الدال على العلة كالنص على حكمها، فلا يجوز أن يعارضها خبر الواحد، وإن كانت منصوصة بنص ظني يتحقق المعارضة ويكون العمل بالخبر أولى من القياس بالاتفاق؛ لأنه دال على الحكم بصريحه والخبر الدال على العلة يدل على الحكم بواسطة وإن كانت مستنبطة من أصل ظني كان الأخذ بالخبر أولى بلا خلاف؛ لأنَّ الظن والاحتمال كلما كان أقل كان أولى بالاعتبار، وذلك في الخبر، وإن كانت مستنبطة من أصل قطعي والخبر المعارض للقياس خبر واحد فهو موضع الخلاف.
لقد كان العلماء في هذه المسألة على مذاهب كما قلنا، وإليك هذه المذاهب وحجة كل فريق:
المذهب الأول
ذهب الشافعي -رحمه الله- وأحمد بن حنبل وجمهور أئمة الحديث إلى: أن ترجيح الخبر على القياس سواء كان الراوي عالمًا فقيهًا أو لم يكن كذلك، بشرط أن يكون عدلًا ضبطًا، وإلى هذا القول ذهب الشيخ أبو الحسن الكرخي من الحنفية، واحتج هؤلاء بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذًا قال له: ((بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو)) فقد أخر العمل عن القياس عن السنة من غير تفصيل بين المتواتر والآحاد، والرسول -صلى الله عليه وسلم- أقره على ذلك، وضرب على صدره كما في روايات الحديث، وقال: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله)).
واحتج هؤلاء أيضًا بإجماع الصحابة على ذلك، فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا خبر الواحد، فأبو بكر -رضي الله عنه- نقض حكمًا حكم فيه برأيه؛ لحديث سمعه من بلال، وعمر بن الخطاب أيضًا ترك رأيه في دية الأصابع عندما حكم بتوزيع دية اليد على حسب منافعها، ترك رأيه هذا عندما بلغه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل)) وترك رأيه أيضًا في عدم توريث المرأة من دية زوجها، والحكم بالدية للعاقلة للحديث الذي رواه الضحاك بن سفيان: “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته”، وترك أيضًا القياس في الجنين؛ لخبر حمل بن مالك في الجنين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة، وقال: إن كدنا نقضي فيه برأينا، وترك ابن عمر رأيه في المزارعة بالحديث الذي سمعه من رافع بن خديج، وذلك فيما يرويه ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بالمخابرة بأسًا حتى حدثنا رافع بن خديج: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المخابرة، والمخابرة هي المزارعة، أيضًا سيدنا عمر بن عبد العزيز نقض ما حكم به من رد الغلة على البائع عند الرد بالعيب، بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه: ((قال الخراج بالضمان)) وغير ذلك من القضايا التي تدل على إجماع الصحابة على عدم العمل بالقياس إذا كان هناك خبر آحاد.
احتجوا أيضًا بالمعقول، وهو: أن الخبر يقين بأصله؛ لأنَّه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا احتمال للخطأ فيه، وإنما الشبهة في طريقه وهو النقل، ولهذا لو ارتفعت الشبهة كان حجة قطعًا، فلو أنه روي بطريق متواتر، فلا يستطيع أحد أن يقول بعدم حجيته.
احتجوا أيضًا: بأن خبر الواحد راجح على القياس، وأغلب على الظن فكان مقدمًا عليه، وذلك أنَّ الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس؛ لأنَّ خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي، وعن دلالته على الحكم، وعن كونه حجة معمول بها، فهذه ثلاثة أمور عدالة الراوي، دلالته على الحكم، كونه حجة معمولًا بها؛ وأما القياس فإنه إن كان حكم أصله ثابتًا بخبر الواحد فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة، وبتقدير أن يكون ثابتًا بدليل مقطوع به فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا؛ لأنَّ هناك كثير من الأحكام لا تعلل، وهي التي تسمى بالأحكام التعبدية، أي مما لا يعقل معناه، وبتقدير إمكان تعليله فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل: هل هذا الوصف يصلح للتعليل أو لا يصلح للتعليل نحتاج إلى اجتهاد؟ وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل، وبتقدير سلامته عن ذلك المعارَض يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع أو عدم وجوده، وبتقدير وجوده فيه يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط، وبتقدير انتفاء ذلك يحتاج إلى النظر في كونه حجة أو ليس بحجة، فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها.
وما لا يفتقر في دلالته إلى أمور ثلاثة لا غير فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالًا من الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور، فكان خبر الواحد أولى؛ لأنه لا يحتاج إلا إلى ثلاثة أمور فقط، أما القياس فيحتاج إلى سبعة أمور.
المذهب الثاني
ذهب عيسى بن أبان إلى أنَّ الراوي -وإن كان ضابطًا عالما غير متساهل- وجب تقديمه على القياس، وإلا كان موضع اجتهاد، بمعنى: أن خبر الواحد إذا كان راويه ضابطًا عالمًا معروفًا عنه بأنه غير متساهل في رواية الحديث، ففي هذه الحالة يجب تقديمه على القياس.
إذا اختل شرط من هذه الشروط الثلاث -وهي كونه ضابطًا أو كونه عالِمًا أو كونه غير متساهل- فهذا هو موضع الاجتهاد.
وصاحب (جمع الجوامع) وهو الإمام ابن السبكي نَسبَ إلى الحنفية القول بعدم وجوب العمل بخبر الآحاد إذا خالف القياس وكان راويه غير فقيه، وهو الذي مشى عليه البزدوي في (أصوله) فقال: وأما رواية من لم يعرف بالفقه، ولكنه معروف بالعدالة والضبط مثل: أبي هريرة وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- فإن وافق القياس عمل به وإن خالفه لم يترك إلا بالضرورة، وانسداد باب الرأي، وهو مختار القاضي أبي زيد الدبوسي، واختاره أيضًا متأخرو الحنفية.
وحجة الحنفية: أنَّ ضبط حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الخطر؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا كما فهم ذلك من رواية عنه -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: ((أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارًا)) والوقوف على كل معنى ضمنه كلامه -صلى الله عليه وسلم- أمر عظيم، وقد كان نقل الحديث بالمعنى مستفيضًا في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولما كان ذلك كذلك احتمل أن هذا الراوي نقل معنى كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعبارة لا تنتظم المعاني التي انتظمها عبارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك لقصور فقهه عن إدراكها، إذ النقل لا يتحقق إلا بمقدار فهم المعنى، فيدخل هذا الخبر شبهة زائدة يخلو عنها القياس، فإنَّ الشبهة في القياس ليست إلا في الوصف الذي هو أصل القياس، وهنا تمكنت شبهة في متن الخبر بعدما تمكنت شبهة في الاتصال فكان فيه شبهتان، وفي القياس شبهة واحدة، فيحتاط في مثل هذا الخبر بترجح ما هو أقل شبهة وهو القياس عليه.
واحتج أيضًا الحنفية بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يقدمون القياس على خبر الواحد، فابن عباس لما سمع خبر أبي هريرة في الوضوء مما مسته النار، رده ولم يعمل به، وقال: لو توضأت بماء سخن أكنت تتوضأ منه؟ ورد حديث أبي هريرة في الوضوء من حمل الجنازة، وقال: أيلزمنا الوضوء من حمل عيدان يابسة؟ يريد الخشبة التي يحمل عليها الميت، ورد علي -رضي الله عنه- حديث بروع بالقياس، ورد عمر حديث فاطمة بنت قيس بالقياس أيضًا، ورد ابن عباس حديث أبي هريرة: “إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا” قال: فماذا تصنع بالمهراس؟ والمهراس هذا: هو إناء كبير كان يوضع فيه الماء، لا يمكن حمله، كيف نصنع فيه، فيه ماء ونريد أن نتوضأ منه، كيف يحمل هذا المهراس؟.
واحتجوا أيضًا بأنَّ القياس حجة بإجماع السلف من الصحابة -رضوان الله عليهم- وفي اتصال خبر الواحد شبهة، فكان الثابت أولى، أي: أن القياس الثابت أولى من الذي فيه شبهة -وهو خبر الواحد- فكان العمل بالقياس أولى، واحتجوا أيضًا بأن القياس أثبت من خبر الواحد لجواز السهو والكذب على الراوي، ولا يوجد ذلك في القياس، واحتجوا بأن القياس لا يحتمل تخصيصًا، ولكن الخبر يحتمل التخصيص، فكان غير المحتمل مقدمًا على المحتمل.
المذهب الثالث
ذهب أصحاب الإمام مالك إلى: أنه يقدم القياس على خبر الواحد مطلقًا، ونقل هذا القول عن مالك إلا أن صاحب (القواطع) وهو ابن السمعاني قال: وهذا القول باطل سمج مستقبح عظيم، وأنا أجل منزلة الإمام مالك عن مثل هذا القول، ولا يدرى ثبوته منه.
– ولا بد من الإشارة هنا إلى: أن ما نقله شارح (المنار) مخالف لما كتبه أبو زيد الدبوسي نفسه في كتابه (تأسيس النظر)، فقد ذكر في كتابه (التأسيس): أن القياس يرد بخبر الواحد مطلقًا، ولم يفصل، ونسب القول برد الحديث إلى الإمام مالك. وفرع عن الخلاف بين الحنفية والمالكية في هذا الأصل فروعًا كثيرة، وإليك ما قاله.
القول في القسم الذي فيه الخلاف بين أصحابنا الثلاثة وبين مالك -رحمهم الله تعالى- الأصل عند علمائنا الثلاثة: أن الخبر المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق الآحاد مقدم على القياس الصحيح، وعند مالك -رضي الله عنه- القياس الصحيح مقدم على خبر الآحاد، وعلى هذا قال أصحابنا: أن المني نجس يطهر بالفرك عن الثوب إذا كان يابسًا، وأخذوا في ذلك بالخبر، وهذا الخبر، وهو ما روي عن عائشة -رضي الله عنه- قالت: ((كنت أفرك المني من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم يذهب فيصلي به)) رواه الجماعة إلا البخاري.
وعند مالك -رضي الله عنه: لا يطهر إلا بالغَسْل بالماء كالبول، وعلى هذا: قال أصحابنا: إن أكل الناسي لا يفسد الصوم، وأخذوا في ذلك بالخبر، وهو ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإن الله أطعمه وسقاه)).
وعند مالك -رحمه الله- يفسد الصوم، وأخذ في ذلك بالقياس، وعلى هذا قال أصحابنا: إن نكاح الأمة على الحرة يجوز، وأخذوا في ذلك بالخبر، وهذا هو ما ذكره الإمام الدبوسي في (تأسيس النظر) أما الذي في (الهداية) فإنه قال: ولا يتزوج أمة على الحرة لقوله -صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأمة على الحرة)) وهو بإطلاقه حجة على الشافعي -رحمه الله- في تجويزه ذلك للعبد، وعلى مالك في تجويزه ذلك برضا الحرة، وعلل مالك -أي المنع- بإغاظة الحرة بإدخال ناقصة الحال عليها، فإذا رضيت انتفى ما لأجله المنع فيجوز، وهذا استنباط معنى يخصص النص؛ فإن لم يكن منصوصًا ولا مومئ إليه كان تقديمًا للقياس على لفظ النص، وهو ممنوع عندنا، هكذا يقول صاحب (الهداية) لكن الذي قاله الدبوسي: إن نكاح الأمة على الحرة يجوز، وأخذوا في ذلك بالخبر. وعند مالك: لا يجوز، وأخذ في ذلك بالقياس.
يقول الدبوسي: وعلى هذا قال أصحابنا: لا يجوز للعبد أن يتجوز أكثر من اثنتين، وأخذوا في ذلك بالخبر، والخبر هو ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: “ينكح العبد مرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين”، رواه الدارقطني، وعند مالك -رحمه الله: يجوز أن يتزوج بأربع كالحر، وأخذوا في ذلك بالقياس، وعلى هذا أيضًا قال أصحابنا: إن الهبة لا تصح إلا بالقبض، وكذلك الصدقة، وأخذوا في ذلك بالخبر، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تجوز الهبة إلا مقبوضة)) وقد يكون من حججه حديث هدية الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ورجوعها إليه إذ النجاشي كان قد مات، وعند مالك -رحمه الله: يجوز لأنه عقد نافذ فأشبه البيع.
وعلى هذا: قال أصحابنا: إن الكفاءة معتبرة في النسب، وأخذوا في ذلك بالخبر، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: ((قريش بعضهم أكفاء لبعض بطنهم ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل)) ولكن عند مالك: الكفاءة معتبرة في الدين فقط، وعلى هذا أيضًا قال أصحابنا: إن السعاية في باب العتق لها أصل في الوجوب على العبد، وأخذوا فيه بحديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من أعتق شقيصًا له من ملوكه فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قُوّم المملوك قيمة عدل، ثم استسعى في نصيب الذي لم يُعتق غير مشقوق عليه))، رواه الجماعة إلا النسائي، وعند مالك -رحمه الله: ليس لسعابة العبد أصل في باب العتق، وأخذوا فيه بالقياس، وتابعه الإمام أبو عبد الله الشافعي -رحمه الله- في هذه المسائل، وعلى هذا أيضًا يقول الدبوسي: قال أصحابنا: إنَّ الزيادة على تطليقة واحدة سنة، وإن كانت متفرقة في الجهات مختلفة، وذلك بأن يطلقها ثلاثة في ثلاثة أطهار، في كل طهر تطليقة، وهو عندهم طلاق حسن، وأحسن منه أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، وأخذوا في ذلك بالخبر أيضًا، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عمر: ((إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا، فتطلقها لكل قرء تطليقة)). وعند مالك -رضي الله عنه-: الزيادة على الواحدة ليس بسنة، وأخذوا فيه بظاهر الآية؛ إذ لا سبيل إلى القياس في هذا الحكم، فاعتبر ظاهر الكتاب وترك الخبر؛ لأن ظاهر الكتاب أقوى من أخبار الآحاد.
يقول الدبوسي أيضًا: وعلى هذا قال أصحابنا: إن من طلق امرأته وهي من أهل الحيض ثم ارتفع حيضها إنه لا تنقضي عدتها ما لم تبلغ المدة التي يحكم بكونها آيسة ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر، وأخذوا فيه بحديث علي -رضي الله عنه- وعبد الله وفيهما: أنهما قالا: إنه قال لعلقمة بن قيس: “لقد حبس الله عليك ميراثها” وعند مالك: إذا انقضت العدة بعد ارتفاع الحيض تسعة أشهر انقضت عدتها، وهو أخذ في ذلك بالقياس؛ لأن القياس يعتبر فيه حكم البدل عقيب العجز عن الأصل، فالحيض أصل والأشهر بدل، وقد قيل: بأن هذا الذي ادعاه مالك في هذه المسألة قول عمر -رضي الله عنه-: “وليس ذلك بصحيح”.
وعلى هذا قال أصحابنا -يقول الدبوسي أيضًا: أقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها، وأخذوا بذلك في الخبر، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: ((أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام ولياليها، وأكثرها عشرة أيام))، رواه الدراقطني وغيره، وعند الإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه- مقدر بساعة، وقاسه على سائر الأحداث، وعلى هذا قال أصحابنا: طلاق السكران وعتاقه واقع، وأخذوا في ذلك بالخبر، ولعل المراد من الخبر هنا قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمجنون)) وفي رواية للإمام البخاري قال علي: ((كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه)).
وعند مالك -رضي الله عنه: لا يقع وقاسه على الصبي والمجنون بعلة أنه لا يعقل، هكذا ذكره الإمام الدبوسي، ولكن الذي في (بداية المجتهد): أن مالكًا يقول بوقوع الطلاق من السكران.
يقول الدبوسي: وعلى هذا قال أصحابنا: إن الجماعة يقتلون بواحد، وأخذوا في ذلك بحديث عمر -رضي الله عنه- وهو أنه قال: “لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به” وعند مالك -رحمه الله-: لا يقتلون بالواحد، وأخذ في ذلك بالقياس وترك الخبر.
وعلى هذا قال أصحابنا: إذا لم يقف بعرفة نهارًا ووقف ليلًا يجزئه عن حجته، أخذوا في ذلك بالخبر، وهو ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((من أدرك عرفة ليلًا أو نهارًا فقد أدرك الحج)) وعند مالك -رضي الله عنه: لا يجوز لأن الليلة تابعة لليوم الذي بعدها، وأخذ القياس وترك الخبر، وعلى هذا قال أصحابنا: إن القصاص إذا كان بين اثنين فعفا أحدهما ليس للآخر أن يستوفي القصاص، أخذوا فيه بالخبر الذي رواه محمد بن الحسن عن أصحابنا في (الزيادات)، وعند الإمام مالك بن أنس -رضي الله عنه: أن الآخر يستوفي القصاص، ولا يسقط حقه بعفو غيره، قاسه على سائر الحقوق.
وعلى هذا قال أصحابنا: لو أن رجلين قتلا رجلًا، أحدهما عامدًا والآخر مخطئا، لا قصاص عندنا، وعند الإمام مالك -رضي الله عنه-: يجب القصاص على العامد؛ فقاس حالة الاجتماع على حالة الانفراد، فإن قيل عندكم خبر الواحد مقدم على القياس الصحيح إذا كان مرويًّا عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والخبر في بعض هذه المسائل غير مروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: إذا كان القياس مخالفًا له فالظاهر: أنهم قالوا ذلك رواية عنه -عليه الصلاة والسلام- فصار سبيله سبيل الآحاد.
انتهى كلام الدبوسي -رحمه الله- وبه يتبين: أنه مخالف لما ذكره شارح (المنار) ابن مالك.
1 تعليق واحد. Leave new
هذا الكلام ماخوذ نصا من كتاب “اثر الاختلاف في القواعد الاصولية في اختلاف الفقهاء ” للدتور مصطفى سعيد الخن رحمه الله تعالى ولم اجد اشارة للمصدر في الموقع …. نرجو التنبيه للمصدر لانها امانة علمية