العقيدة الماتريدية الحنفية

«العقيدة الركنية» لعبيد الله السمرقندي ترى النور في اسطنبول

لا توجد تعليقات
عدد المشاهدات 2,817 مشاهدة

يشهد المرء تطوراً ملحوظاً في الدراسات العربية الإسلامية في تركيا، في إطار التطور الأكاديمي الواضح في العقدين الأخيرين، حيث ارتفع عدد الجامعات إلى 163 جامعة، في تنافس بين الجامعات الحكومية العريقة والجامعات الخاصة التي تستوعب الدراسات الإسلامية تحت مسميات الأقسام المختلفة فيها (الدراسات الإسلامية، الدراسات الحضارية، الدراسات الشرق أوسطية إلخ). ومن المراكز العلمية المرتبطة بالأوقاف، «مركز البحوث الإسلامية» (إسام) الذي يتبع «وقف الديانة التركي» الذي يصدر «الموسوعة الإسلامية الجديدة . وفي زيارة إلى «جامعة 29 أيار» في الطرف الآسيوي من اسطنبول (إسكدار)، التي هي من أحدث الجامعات القائمة على الأوقاف، يرى المرء في المبنى المجاور لها نخبة من العلماء الشباب في مجال الدراسات العربية الإسلامية، الذين يعملون في «الموسوعة الإسلامية الجديدة» ويعتمدون على مكتبة المركز التي تحتوي على حوالى ربع مليون من المصادر والمراجع في مختلف اللغات. ويكفي أن نشير إلى طموح المكتبة في جمع سجلات المحاكم الشرعية من البلدان الإسلامية لتشكل مجموعة نادرة للباحثين الذي يقدرون أهمية هذه السجلات كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي.

وإضافة إلى سجلات المحاكم الشرعية (الأصلية أو المصورة) تزخر المكتبات العامة والجامعية التركية بمئات الألوف من المخطوطات العربية، التي تشكل بدورها منجماً للجيل الشاب من العاملين في مجال الدراسات العربية والإسلامية. ومن هؤلاء د. مصطفى سنان أوغلو الذي يشغل حالياً منصب عميد «الكلية الدولية للدراسات الإسلامية والدينية» في «جامعة 29 أيار»، وهي من الجامعات الخاصة التي تكاثرت في السنوات الأخيرة وأصبحت تنافس الجامعات الحكومية في هذا النوع من الدراسات وفي جذب الطلاب إليها من خارج تركيا.

ومن المخطوطات الكثيرة التي تزخر بها مكتبات تركيا قام د. سنان أوغلو أخيراً بنشر رسالة «العقيدة الركنية» لعبيدالله السمرقندي (توفي 701هـ/1301م) الذي يعتبر من كبار علماء الحنفية ومن أهم علماء الماتريدية (نسبة إلى الإمام الماتريدي المتوفى في 333هـ/944م) في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، والذي يدلل على استمرارية المدرسة الحنفية الماتريدية وحيويتها في بلاد ما وراء النهر كما يقول د. سنان أوغلو في مقدمته للكتاب. وما يميز السمرقندي اهتمامه بعلم الكلام إضافة إلى علوم التفسير والحديث والفقه والتصوف التي ألّف فيها أيضاً. ومع ذلك فمن المأمول الآن أن يفتح نشر هذه المخطوطة للسمرقندي في علم العقيدة التي صدرت عن «مركز البحوث الإسلامية» (2008)، البابَ أمام نشر المخطوطات الأخرى له في المجالات الأخرى التي ألف فيها.

تجدر الإشارة إلى أن السمرقندي جاء من بلاده التي ينتسب إليها إلى بغداد حيث درس في المدرسة المستنصرية، حيث كان من أساتذته ابن الساعاتي الذي أجازه في رواية كتابه «مجمع البحرين»، وذهب بعدها إلى دمشق حيث باشر التدريس في المدرسة الظاهرية وكانت له حلقة في الجامع الأموي. وبعد حوالى عشر سنوات من التدريس في دمشق تعززت مكانة السمرقندي بين العلماء حتى أنه ولّي التدريس في المدرسة النورية المعروفة بدمشق قبل وفاته المفاجئة بستة أيام. فقد وجد السمرقندي مخنوقاً في المكتبة الظاهرية بدمشق صباح 12 صفر 701 هـ، حيث تبين لاحقاً أن قيّم دار الحديث بالظاهرية المدعو علي الحوراني كان وراء قتله فشنق على باب المدرسة جزاء على فعله الشنيع.

وجد د. سنان أوغلو تسع مخطوطات لـ «العقيدة الركنية في شرح لا إله إلا الله» للسمرقندي في مكتبات العالم، منها ثماني مخطوطات في مكتبات تركية (سبع في مكتبات اسطنبول وواحدة في مكتبة مدينة مغنيسا) وواحدة في القاهرة، وهذا ما يؤشر إلى مدى الاهتمام بالسمرقندي في الوسط الحنفي الماتريدي. وقد اعتمد د. سنان أوغلو على أربع نسخ مبكرة استخدمها كأساس مع الإشارة في الهوامش إلى النسخ الأخرى وقام بتخريج الآيات والأحاديث والتعريف بالأعلام، كما أنه أعاد النقولات لأقوال السلف والعلماء وآراء المذاهب والفرق إلى أصولها ما يعطى نموذجاً جيداً لـ «مدرسة التحقيق التركية».

ويمثل هذا الكتاب في الواقع نموذجاً مدرسياً لعلم العقيدة والكلام، حيث إنه يقدم لطلاب العلوم الشرعية المعلومات الأساسية بصورة منهجية وواضحة كي يتمكن الطلاب من تعلمها واستيعابها. ويتميز الكتاب عن غيره بكونه يمثل الفترة المتأخرة من الماتريدية ويتناول بعض المباحث التي لم ترد في كتب العقيدة، حيث إنه يناقش أقوال المعتزلة والحشوية والمشبهة والفلاسفة والمتصوفة، ويرد عليهم بالدلائل العقلية والنقلية. ومع ذلك يلاحظ على السمرقندي أنه مع إيراده الدلائل النقلية والعقلية لا يتورع عن توجيه نقد شديد للآخرين كما في حديثه عن زيارة القبور والدعوة لأهلها حيث ينتهي بعد إيراده الأدلة التي تؤيدها إلى القول «وعليه إجماع المسلمين، والمعتزلة والفلاسفة أنكروها بناء على مذهبهم الفاسد أن الأجساد في القبور بلا حياة».

وإضافة إلى المقدمة التي تناول فيها السمرقندي مواضيع الإيمان والعلم والشهادة وماهية الإيمان وإيمان المقلد، يتوزع الكتاب على الأبواب الثلاثة المعروفة في علم العقيدة. ففي الباب الأول (الإلهيات) يتناول السمرقندي حدوث العالم والدلائل على وجود الله وتوحيده والأسماء الحسنى والعلاقة بين الصفات وذات الله إلخ، وفي الباب الثاني (النبوات) يتناول إثبات النبوة عقلاً وشرعاً ولزوم النبوة والفرق بين المعجزة والكرامة واجتهاد النبي، ومقارنة النبوة بالولاية ومسائل الخلافة إلخ، بينما يتناول في الباب الثالث (السمعيات) أسس الإيمان والمواضيع المتعلقة بالآخرة مثل الشقاوة والسعادة والكبائر والصغائر والشفاعة والتوبة والحساب والحشر والميزان والصراط إلخ.

كتاب «العقيدة الركنية» للسمرقندي الذي رأى النور أخيراً يؤشر إلى جهود الجيل الشاب من الباحثين الأتراك في الدراسات العربية الإسلامية ويقدم نموذجاً جيداً لـ «مدرسة التحقيق التركية» التي تمتاز بكونها على تماس مباشر مع كنوز المخطوطات العربية في تركيا التي لم تأخذ حقها من جهود المحققين العرب، كما أنه يبشر من خلال هذا التعريف بالسمرقندي بفتح الطريق لنشر المؤلفات الأخرى له التي لا تزال مخطوطة.

 

المصدر: جريدة الحياة

وسوم: المذهب الحنفي, عقائد, كتب عقائدية, منهاج الحنفية

مقالات مشابهة قد تعجبك!

لا توجد تعليقات
النقد والتقويم لمنتقد عقائد المدرسة الماتريدية
Weakness to Gadgets

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Fill out this field
Fill out this field
الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني صالح.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

«العقيدة الركنية» لعبيد الله السمرقندي ترى النور في اسطنبول

يشهد المرء تطوراً ملحوظاً في الدراسات العربية الإسلامية في تركيا، في إطار التطور الأكاديمي الواضح في العقدين الأخيرين، حيث ارتفع عدد الجامعات إلى 163 جامعة، في تنافس بين الجامعات…